الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إنقلاب أسود

مهند عبد الحميد

2007 / 6 / 23
القضية الفلسطينية


"أنت منذ الآن غيرك"... محمود درويش.

"ذهب إلى المقر "المحرر" فوجد ناهبين يحملون كل الأشياء ما عدا الكتب، الكتب ملقاة على الأرض بعضها ممزق والآخر عليها دعسة أحذية، لا أحد ينهب الكتب، شيء مريح وغير مريح في آن، في الردهة، استوقفتني رواية غسان كنفاني "رجال في الشمس" وهي ممزقة، لملمت ما تيسر منها ومضيت في اختيار كتب أخرى وأنا أردد الاعتذار لأديبنا الثوري الذي علمنا كيف نثور. ترى ماذا سيكتب غسان عن هذا المشهد لو كان على قيد الحياة، قلت لصديقي الذي حدثني عن هذا الجهل الخارق عبر الهاتف.

أسكتَ المسلحون الملثمون "آلة عود" جمال النجار وقاموا بتحطيمها والانتقام من صاحبها بالضرب المبرح، ولولا تدخل محبي المغني لكان مصيره مثل فيكتور غارا الذي قضى وهو يغني مع آلته على يد الفاشيست. صوت جمال الوطني الدافئ حببنا بغزة وأضفى على الأغاني الوطنية نكهة غزة الثورية غير المتعصبة، قلت لمحدثتي الغزية التي تتابع أخبار القطاع المنكوب دقيقة بدقيقة، وتروي لنا القصص المثيرة، فأجابت: لماذا تستغرب، انها معركة التراث التي بدأت بتحريم الثوب المطرز وانتهت بمنع الأغنية.

الملثمون بالأسود حطموا وحرقوا محطات إذاعة وتلفزيون ونقابات لإخماد الوطنية والكيانية الفلسطينية ولم يتوقفوا عند هذا الحد، بل قاموا بالاعتداء على الرموز فأنزلوا علم فلسطين من كل مكان واستبدلوه بالراية الحزبية، واقتحموا مكتب الزعيم الوطني ياسر عرفات ونهبوا مقتنياته التاريخية التي كانت ستودع في متحف وطني أو تحويل المكان إلى متحف، ولم ينسوا الإتيان على منزل القائد أبو جهاد، ثم جاء دور نصب الجندي المجهول الذي يرمز لبطولة الفدائيين المصريين والفلسطينيين المدافعين عن فلسطين الشعب والوطن.

الرموز والتراث الوطني والثقافي لا تعني لأصحاب المشروع الأسود شيئا، تماما كما لم تكن رموز الثورة الجزائرية ذات المليون شهيد تعني لجبهة الإنقاذ شيئاً. كلاهما لم يشاركا في الثورة ولم يعترفا بإنجازاتها ومكاسبها وأبطالها، فقط توقفا عند سلبياتها وعناصرها الفاسدة المتسلقة والعابثة بمستقبل الشعب. النضال يبدأ وينتهي من حيث بدأ الأصوليون وانتهوا، وما عدا ذلك مرفوض ومشكوك فيه. الأصوليون لم يروا في التجربة الناصرية العداء للاستعمار وإسرائيل ومناصرة تحرر الشعوب العربية والإفريقية وتأميم القناة وتوزيع الأراضي للفلاحين الفقراء، أغمضوا عيونهم عن كل شيء ولم يشاهدوا إلا فصلا واحدا هو قمع "الاخوان المسلمين" فقط لا غير.

رؤيتهم العدمية للنضال الوطني وتراثه لا تختلف عن رؤيتهم العدمية للقانون والديمقراطية. فهم يأخذون البنود والجزئيات التي تخدم سياستهم وينتهكون الجوهر. الديمقراطية التي أوصلتهم للسلطة تنص على احترام المصالح الوطنية للشعب وعدم المقامرة بها كما حدث معهم عندما رفضوا الشرعيات الفلسطينية والعربية والدولية وحاولوا تغيير قواعد اللعبة السياسية في ظل افتقادهم لأبسط مقومات التغيير. والديمقراطية تنص على تبادل السلطة سلميا والحفاظ على السلم الأهلي وحل الخلافات بالطرق السلمية كالحوار والاحتكام للشعب وإشراكه في ممارسة الضغط على كل من ينتهك المصلحة الوطنية، وتنص أيضا على التعدد السياسي والثقافي والديني وعلى حق الأقلية في ممارسة حقها في التعبير عن مواقفها والنضال بحرية في إطار القانون. كل هذه البنود وضعوها خلف ظهرهم وتخندقوا عند بند واحد هو الفوز عبر صناديق الانتخاب، بل لقد قامت المليشيا العسكرية خاصتهم بانقلاب دموي ضد الشرعية ومؤسساتها. وكان أعضاء المجلس التشريعي الذين فازوا بالانتخابات ينًظرون للانقلاب الدموي ويشجعونه ويتولون مهمة تخوين وتكفير الآخر بدون سند أو معيار محدد، وبعد أن حسموا السيطرة وأحدثوا الانقسام ودمروا الوحدة، دعوا إلى حوار وطني ووحدة وطنية "بصيغة فرض إملاءات" مع من؟ مع "الخونة والعملاء"!!

كان أغرب شيء هو عدم اعتراض عضو مجلس تشريعي واحد ولا وزير واحد ولا كادر أو عضو من عموم حركة حماس حتى الآن على الانقلاب العسكري الدموي الذي قبر الديمقراطية ومعها القانون والنظام وقيم التعدد والتعايش والوحدة الوطنية. على الأقل لم يحتج أحد على الاعدام الميداني والتنكيل بأبرياء وأقرباء "المتهمين" والسرقات والنهب والمس بطهارة سلاح المقاومة وغيرها من الممارسات الموثقة بالصورة والصوت على الفضائيات. خلافا لذلك خرج علينا رئيس المجلس التشريعي بالإنابة لينبه الشعب بأن مراسيم الرئيس غير قانونية ولا شرعية. ولم ينبس ببنت شفة عن القتل الميداني والنهب وإزالة الرموز وتدمير المؤسسات الشرعية، فهذه أعمال قانونية!!

تناقضات شديدة في مواقف وخطاب حركة حماس لا تستقيم أمام أي تفكير عقلاني بسيط. فهي تريد إزاحة الأجهزة التي تمنعها من مقاومة الاحتلال لتقاوم بحرية، لكنها ولاول مرة لا تسمح بمقاومة العدوان الذي تمدد داخل منطقتها الأمنية المغلقة، لم تطلق "حماس" رصاصة واحدة على المعتدين بعد القضاء على" التيار الخياني" ولم تسمح للآخرين بالرد كما درجت العادة، لماذا ؟ وتقول "حماس" إن سيطرتها جاءت من أجل فك الحصار لكنها وبعد انقلابها الدموي فاقمت الحصار بشكل لم يسبق له مثيل، لقد وضعت مليون ونصف مليون مواطن كرهينة للمقايضة بمعاناتهم الإنسانية الشديدة لقاء تفردها بالسلطة. و"حماس" رفضت الشرعيات الثلاث، لكن الشرعية الفلسطينية حاولت أن تشكل لها غطاء، وكانت النتيجة انقلابا على الشرعية فخسرت ما تبقى لها من شرعية لتصبح بلا أي نوع من الشرعية، ورغم ذلك تتهم حكومة فياض باللا شرعية واللا وطنية.

مواقف "حماس" وممارساتها تؤكد أن الهدف هو إقصاء الآخر ووراثة السلطة والمنظمة وفرض نظام شمولي. هذا ما تقوله الثقافة والتعبئة والخطاب السياسي والديني الذي تقدمه يوميا وفي كل لحظة.

الرد على الانقلاب والثقافة الإقصائية الحمساوية لا يكون بانقلاب آخر وبسياسة إقصاء أخرى، ولا باستخدام الأساليب ذاتها وخاصة القتل الميداني وتدمير المؤسسات ولا باستخدام لغة الرصاص واللثام الأسود واليد الخفيفة على الزناد كما حدث في بعض مدن الضفة الغربية، إن هذا الاسلوب هو وجه آخر يدمر ما تبقى من أمل وحلم. نحن بأمس الحاجة لاعادة التقييم والبناء للمؤسسة والانحياز لثقافة النظام والقانون وحق الاختلاف، بحاجة لتقديم نموذج ديمقراطي آخر. هذا النموذج الذي يحتاج إلى تدخل فوري من النخب الديمقراطية والمناضلة ومن المواطنين، وإلى مراجعة جريئة وحازمة للتجربة، وإلى تغليب النضال ضد الاحتلال وهو الأهم ورفض الوصاية التي تحاول إحكام قبضتها على أعناقنا








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأردن يحذر من تداعيات اقتحام إسرائيل لمدينة رفح


.. أمريكا تفتح تحقيقا مع شركة بوينغ بعد اتهامها بالتزوير




.. النشيد الوطني الفلسطيني مع إقامة أول صف تعليمي منذ بدء الحرب


.. بوتين يؤدي اليمين الدستورية ويؤكد أن الحوار مع الغرب ممكن في




.. لماذا| ما الأهداف العسكرية والسياسية التي يريد نتنياهو تحقيق