الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جُرح غزّة، بعيدًا عن أصوليّات بعض اليسار

هشام نفاع

2007 / 6 / 25
القضية الفلسطينية


لأبدأ بملاحظة: يُقرأ هذا المقال كاستمرار مباشر للمقال السابق، الذي أدان سلوكيات فتح وحماس بشكل لا يقبل التأويل، وبما لا يخفّف بالمرة من مسؤوليتهما التي تتناقض مع المصلحة الوطنية الفلسطينية!
إنقسم يساريون فلسطينيون وعرب كثيرون، بثنائية حاسمة، الى معسكرين ازاء ما تشهده غزة المحتلة. طرفٌ أيّد حماس باعتبارها "روح الشعب" وخوّن فتح بحزم ما بعده حزم. وآخر أنزل بحماس ما شاء الله من إدانات مبقيًا المشروع الوطني الفلسطيني وديعة حصرية في أيدي فتح. إختلف الموقفان، لكن السلوك واحد. والإخفاق كذلك.
إن أخطر التفاعلات مع ما جرى في غزة، هو ذلك المرسوم بالأسود والأبيض. بمعنى اختيار التمترس في معسكر معيّن ضد معسكر آخر. لأن هذا يعني القبول بلعبة المعسكرات المتناقضة التي يلغي أحدها مجرّد وجود الآخر؛ اللعبة التي تقصم ظهر قضية شعبنا الفلسطيني كما يتفق جميع المختلفين في الاستنتاجات.
بالنسبة للحزب الشيوعي والجبهة، جاءت المواقف المحيطة بالموقف الرسمي ميّالة بل منحازة بصورة أخفقت في تحسّس أعماق الظاهرة. أقصد مواقف الوقوف على مسافة تكاد تقارب العداء من حماس، وحصر حدود الموقف في آخر فصول التطوّرات الدموية الفلسطينية الداخلية، وبشكل منزوع عن السياقات التي تتجاوز الحالة الفلسطينية المحددة: الاقليمي والدولي. المشكلة هنا هي ما قد تعنيه هذه المواقف من ابتعاد (ما) عن الموقف التاريخي، والموقف السياسي المثابر والمسؤول تجاه قضية التحرر الفلسطيني.
إن اختيار التقوقع في وصف حماس بتعابير لا تختلف كثيرًا عما تسوّقه العصابات الحاكمة في محور واشنطن، تـُفشِل صياغة موقف قادر على احتواء مجمل الصورة، وبالتالي استشراف وجهة الأمور. لأنه لا يُعقل الالتقاء مع أتباع "صدام الحضارات" في التوصيف، والبقاء يساريًا. ولأن عدم الانطلاق من الواقع السياسي لتحليل مجمل مظاهر التعصّب، يحوّل الشخص نفسه الى أصولي جوهراني. وعلى صعيد آخر، لأن ما وقع أخيرًا في القطاع المحتل لم يكن انفجارًا غير محسوب. إنه ليس مفاجأة من السماء بل هو تطوّر قد يمكن تسميته "طبيعيًا" ازاء ما سبقه. طبعًا، هذا إذا بقينا واعين ومنتبهين بأعلى درجات اليقظة الى أن المسبب الأساس لكل هذا الانحدار الخطير، ليس محور التنافس (الذي تجاوز جميع الحدود) بين فتح وحماس. بل إنه ممارسات سلطة الاحتلال الكولونيالي الاسرائيلي وعرّابها الأمريكي، والمنخفض الجوّي السياسي الذي يخيّم على المنطقة تحت هيمنة وحيد القرن الأمريكي.
من المهم جدًا التمعّن فيما كتبه مبعوث الأمم المتحدة المستقيل (في أيار الأخير) ألفارو دي سوتو خلال تقرير خاص قدمه لرئيس الأمم المتحدة. فقد انتقد بشدة عدم تعاطي الأمم المتحدة مع حماس التي فازت بغالبية المقاعد النيابية في انتخاباتٍ شهد العالم لنزاهتها. وهو يذكّرنا أنه "في اجتماع الرباعية السنوي 2005، الذي يعقد على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة كل سنة، كان موضوع مشاركة حماس في الانتخابات مرفوضاً من اسرائيل. وبعد التشاور بين الرباعية وبين الرئيس الفلسطيني محمود عباس، رأت الرباعية أن مشاركة حماس مرحلة من عملية التحوّل الفلسطينية نحو الديموقراطية. وتُرك موضوع المشاركة كشأن داخلي فلسطيني". واقترح دي سوتو ترك الأمور للأمم المتحدة وللاتحاد الأوروبي في التعاطي مع حماس، لمساعدتها على سلوك ديموقراطي بالنظر إلى أن الأطراف الأخرى مكبّلة بقوانين تمنعها من التعامل معها. لكن الأميركيين طرحوا بياناً للرباعية في 29 كانون الثاني يتضمّن شروطاً لقبول حماس واستمرار تقديم المساعدات الدولية إذا ما أقرّت بنبذ العنف، واعترفت بإسرائيل، والتزمت الاتفاقيات السابقة.
حين اقترح دي سوتو على الأمين العام إما حذف الإشارة إلى مراجعة المساعدات، أو ترك الأمر للدول المانحة من الرباعية، تعرّض لهجوم ساحق. فعندما وصل إلى لندن في اليوم التالي، ووجه بسيل من النقد والتجريح من مساعد وزيرة الخارجية الأميركية ديفيد ولش، ومن أليوت أبرامز بما في ذلك التلميح بحجب مساهمات أميركية عن الأمم المتحدة إذا أنفقت أموالاً في مشاريع تنموية في الأراضي الفلسطينية.
إن المصداقية السياسية والأخلاقية تقتضي عدم تجاهل جميع بلاغات حركة حماس التي حاولت من خلالها سلوك مسالك الواقعية السياسية والابتعاد عن الطروحات التي كانت "تـزبط" خلال مكوثها خارج المسؤوليات الرسمية.. وهو ما تبدى بوضوح، على سبيل المثال، في كلمات خالد مشعل أواخر كانون الأول 2006 لقناة "الجزيرة". ففي معرض طرحه أن حركة حماس مصرّة على إقامة حكومة وحدة وطنية، ذكر أن هناك مرجعية لذلك، هي وثيقة الوفاق الوطني التي وضعها الأسرى الفلسطينيون. أهمية هذا التصريح هي إعادة الاعتبار الى تلك الوثيقة الهامة، بل أهم برنامج سياسي فلسطيني مرحلي راهن مطروح. الأمر الثاني هو ما أعلنه مشعل في سياق سؤال حول ضرورة فتح أفق سياسي. فقد قال بخصوص الموافقة على المبادرة العربية، بحقّ، إن من يرفضها هو إسرائيل. وحين سئل عن موقف حماس اذا ما وافقت عليها اسرائيل، قال: اذا جرى ذلك، فلن نخالف موقفًا يجمع كل الأخوة العرب. أليس الكلام واضحًا؟ ولكن كيف قوبل؟ بالإلغاء والشطب المتعجرفين.
عمومًا، الحديث بلغة المؤامرة غير محبّذ، لكنه ليس لاغيًا دائمًا. وفي حالتنا لا يمكن وصف ما جرى سوى بتعبير المؤامرة. صحيح أن اشتعال غزة تم بأيد فلسطينية، لكن وقود هذه النيران صبّته اسرائيل والولايات المتحدة ومجروراتها العربية بشكل سافر ومجرم، ومنهجيّ. إحدى المفارقات هي أن أدقّ الإستعارات لتصوير الوضع جاءت على لسان نبيل عمرو، وزير الخارجية في حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية التي أقالها أبو مازن. فقد قال عمرو: لو وضعت شقيقين في قفص وحجبت عنهما كل شيء فإنهما سيقتتلان لا محالة. والسؤال: لماذا لم تتبنّ قيادة فتح هذا التوصيف لاستخلاص ما يجب استخلاصه منه؟ لماذا تواصل التعويل على حسن نوايا عصابة واشنطن وتلك الوجوه الأوروبية الباردة؟
للتخصيص، يجب التأكيد إن سقف ما يحقّ للفلسطينيين الباقين في هذا الجزء من مواقع التواجد الفلسطيني، هو الشعور والتعبير والتحرّك بأعلى درجات المسؤولية تجاه قضية شعبنا. إن الحزب الشيوعي والجبهة شكلا الصوت الأوضح الذي تحلى دومًا بأعلى درجات المسؤولية في هذا السياق، بحيث أن مواقفهما المثابرة ظلت على الدوام محطّ اهتمام ومحط احترام. الفضل في هذا يعود الى دقّة بوصلتهما السياسية والبراعة في رؤية مجمل حركة السفينة، وليس هبّة الريح الهوجاء العابرة مهما اشتدّت في هذا الشراع أو ذاك. من هنا، فإن السقف المتاح أمامنا، هو الحفاظ على موقف مبدئي مثابر يدعو الى، ويناشد التمسّك بالوحدة الوطنية النضالية الفلسطينية، لكونها الصخرة الأولى والأخيرة التي نراهن عليها جميعًا لتهشيم كافة مشاريع الاحتلال الكولونيالي الاسرائيلي. أما التحزّب الفئوي لهذا الفصيل أو ذاك، عبر تكفير وطنية هذا وتنصيب ذاك ملاكًا، فهو تضييع للبوصلة يهدد بضياع الموقف في ريح هوجاء.
إحدى مشاكل اليسار العلماني، أحيانًا، هي اختياره السلوك بشكل أصولي بالذات. بمعنى التعبير عن مواقف من قضايا شديدة التعقيد استنادًا الى ثنائيات مطلقة، قد تكون قاتلة، عوضًا عن الخوض في جدليات الأشياء. فمن يخرج اليوم لادانة حماس بشكل مطلق وتحميلها المسؤولية كافة عن التدهورات الخطيرة الأخيرة، لا يختلف بشيء عمّن يهوى إدانة فتح في كل صبح ومساء وكأنه بهذا يستحق وسام الثورية بدرجة "راديكالي عنيد"! في كلتا الحالتين أمامنا سلوك يختار التقسيمات العمودية التي تعمّق من انتاج التصوّرات الثنائية الإلغائية، مما يضيّع عنصرين هامين: التفاصيل والسياق.
إن اليسار هو أكثر المطالبين بربط الواقع الاجتماعي والطبقي بالسلوكيات السياسية. هنا، سيكون أقرب الى العبث تجاهل حقيقة أن الحصار الاسرائيلي-الأمريكي-العربي الرسمي لحكومة السلطة الفلسطينية المنتخبة قد فاقم من الاحتقان والإحباط وجاء بالانفجار. لا ينطبق هذا على حكومة حماس الأولى فحسب، بل على حكومة الوحدة الفلسطينية المنبثقة عن "اتفاق مكة". هذه الأخيرة ضمّت مختلف الفصائل وأولها حماس وفتح. ورغم أنها جاءت تعبيرا عن الارادة الوطنية الفلسطينية فقد تعرّضت لخنق فوريّ قاتل باسم تلك القحبة المسماة "الشرعية الدولية". تلك التي تطالب الفلسطيني الرازح تحت الاحتلال بالاعتراف بقامعه وحقه بالوجود، فيما هذا الاحتلال يواصل جميع مشاريع إحكام سيطرته الكولونيالية وفرض الوقائع على الأرض ورفض النديّة والتكافؤ، وسط تفهّم من تلك القحبة الدولية.
إن الأخطر في دخول لعبة توزيع الاتهامات الاطلاقية بالأسود والأبيض عبر وصم هذا بالأصولية وذاك بالعمالة، هو أن هذا يبعد الضوء عن مكانه الصحيح، وهو ساحة الاحتلال الاسرائيلي المدعوم أمريكيًا وعربيًا. إن من تشده العواطف الآن الى "لعب الأولاد" المتمثّل بالتحزّب القبلي لأيّ من الطرفين، سيكتشف أنه إنما نسي التركيز على المجرم الأكبر، الاحتلال الاسرائيلي. وقد يجد نفسه لاحقًا يردد نغمات تشكّل نشازات صغيرة منسجمة في نشاز اسرائيل والبيت الأبيض وأنظمة العرب الخانعة، بشأن "الاعتدال والتطرّف" ودمقرطة منطقتنا بالوعيد والتهديد والخنق ودوس إرادات ومصالح الشعوب.
يجب التذكّر والتذكير بأن أي "تانغو"، حتى الدموي منه، يحتاج الى اثنين. فحماس لم تقاتل طواحين هواء في القطاع المحتل، بل تقاتلت مع مسلحين من فتح. لا يُقال هذا، كما يحاول البعض تسخيف الأمر بسخافة شديدة، من باب وضع الأشياء في قوالب وسطيّة، بل من باب محاولة الإمساك بأكثر ما يمكن من تفاصيل المشهد؛ ومن باب عدم تحويل السياسة الى لعبة "أبطال وحراميّة". هنا، ارتباطًا بما سلف حول الموقف السياسي والوطني المسؤول المطلوب ازاء التعقيدات الدموية المتفاقمة، يجب القول للطرفين (وإعادته مرارًا وتكرارًا) بأن جميع الخلافات والاختلافات لا تجيز أبدًا الاحتكام الى لغة البنادق. لأنه لا يحق لأي فلسطيني كان إطلاق الرصاص على قضية فلسطين.
ولنكرّر: الاقتتال الفلسطيني لم يبدأ أمس. من هنا، فلا يمكن صياغة مواقف متسرّعة بوتيرة انتاج الصور المتلفزة لحدث يتيم. هناك سياق للأمور، وهو يعجّ بالتفاصيل. من لا يزال على قناعة بأن الهمّ الأول والهدف الأول هو إنهاء الاحتلال (وليس التحليق في أحلام النخب الطائرة لابتكار حلول سحريّة بلهاء)، يتوجّب عليه اليقظة والوعي بأن الضمانة الوحيدة لتحقيق هذا الهدف هي السعي للحفاظ على حجر الزاوية الفلسطيني، وهو الوحدة الوطنية. في الأوقات السهلة، من السهل ترديد مقولات الوحدة، لكن التحدّي الحقيقي هو القبض على جمر الوحدة، حين تجتاح الواقع صعوبات مصيرية.










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. البريك العنابي.. طبق شعبي من رموز مدينة عنَّابة الجزائرية |


.. بايدن يعلن عن خطة إسرائيلية في إطار المساعي الأميركية لوقف ا




.. ارتفاع حصيلة الضحايا الفلسطينيين إثر العمليات الإسرائيلية في


.. مراسل الجزيرة يرصد آخر التطورات بالمحافظة الوسطى بقطاع غزة




.. توسيع عمليات القصف الإسرائيلي على مناطق مختلفة برفح