الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حزيران ذاكرة جرح لا يموت

بثينة رفيع

2007 / 7 / 1
القضية الفلسطينية


من الخير أن تموت واقفا على قدميك , على أن تعيش راكعا على قدميك ( باسيوناريا )
ربما سؤال أو عبارة قاتمة قادمة من تاريخ نازف لم يعد يعرف ملتقاه لا في حدوده ولا بين أبنائه في تلك الأزقة الضيقة التي عاهدوا خلف نوافذها المحطمة الله وفلسطين على الشهادة أو النصر ، لم تكن تلك الأيدي الممدودة إلا يداً واحدة كلما اقترب اجتياح ليقطف الزهور. البيانات العسكرية المقتضبة ونزق الثوار الذي كانت تحمله لتتسابق على بثها الإذاعات, لم نجهد في تحديد هويتها يوما لأي فصيل ، فذاك الخندق تتمترس فيه فلسطين وحدها ، الطعام الماء, الفراش , والصراخ العالي عند اشتداد القصف واقتراب الموت, الشموخ في هتاف لن تمروا إلا على أجسادنا ، الوطن بمنتهاه .. عندما يختصر تفاصيله ليوزع تقاسيم وجهه على شهدائه وجرحاه . فلسطين التي كانت تتلى قبل الشهادة مَن ضيعها وأبقاها حبيسة الغياب والفلتان ؟ انه انتماء لم يتعلم أصحابه ثقافة المقاومة والوطن قبل ثقافة السلاح في فصائل أهملت البناء الفكري والمعرفي لكادرها واختزلته بشعار وعلم تنظيم وسلاح مع استراحة محارب
وسط هذا الأنين جاء حزيران مغتربا بالأبد الأحمر يبوح لباب الساهرة بسر أيقونة سقطت من طفلة قتلت.. فرحلت أبجدية الصحراء لتُشهد صراخ البقاء .. هنا , ترك أحمد قبلة وقال آخر الكلمات ثم مات وهنا فقط يهرب الوطن من حدوده ليسكن في الدماء ويفتح بباب العمود ألف باب ، بيوت خلفها أشجار تسجد لجذرها الآخر هناك لينجب الظلام شموساً أو أقماراً انه حزيران أغرقته الحروف بالنسيان ليطرح السؤال كم فلسطين سنغادر إذا ما انكسر عزم وافترشنا الهوان ؟
لن يكبر الألم ثانية أو هكذا ظنوا عندما غادروا قراهم ومدنهم لأول مرة عام النكبة راسمين وطنا جديدا للحزن داخل أرواحهم المشتتة.. منتثرين كالقمح والهواء المعطر في عواصم عربية وفي الرئة الأخرى من الوطن ، بخيام أضحت شاهدا على ظلم وظلام هذا العصر ولسان حالهم يردد ما قاله إبراهيم طوقان يوماً
ما جحدنا أفضالكم غير أنا *** لم تزل في نفوسنا أمنية
في يدينا بقية من بلاد *** فاستريحوا كي لا تضيع البقية
حرب حزيران انتهت ومنذ أربعين عام لاشك في ذلك.. لكن أحرفها المستفيضة بالهزيمة تغرق ظلالها المعتمة لتمتد بحاضر جديد مستحضرة معها وبمسافة أوسع تلك الخيبة والمهانة التي لم تزدنا إلا مرارة وجديداً من مخيمات لتبقيها في مسيرة الجراح الغائرة في الصميم لأهل فلسطين كدرب آلام مشى فيها المسيح يوماً قبل صعوده للجلجلة مُحدثةً خدشاً عميقاً بدائرة الحلم لمن مازال يحتفظ بمفاتيح بيته ورائحة زهر برتقاله ، بذاكرة وطن يقتلع إنسانه من جذوره ليمضي في رحلة التشرد والغربة موحداً ضياء كل شموع الأمل بمقاومة أصبحت ملاذه الأخير
صورة جنود الاحتلال وهم يوزعون ابتسامات النصر في الشوارع على النساء المقدسيات والغزيات اللواتي توشحن بالدمع والسواد حزناً على أزواجهن وفلذات أكبادهن لم تعبر بشجونها في كل مؤتمرات العرب ، كما لم تعبر أبواب القدس القديمة والحضارة الكنعانية العريقة وهي ُتسرق من المتحف الفلسطيني بالقدس بعد سقوطها في ثالث يوم للحرب ، وبمشهد تتواصل معه حضارة أشور وبابل التي نهبت وبددت عند غزو العراق . البيوت التي دمرت ، الأجساد التي أحرقت بالنابالم وقذائف البازوكا ، الأشلاء التي امتلأت بها البيارات الجميلة بغزة بعد أن فاضت من حفر احتمى فيها النساء والأطفال من القصف الإسرائيلي الهمجي ، حتى تلك الصورة المخجلة في كل تاريخ العرب لوزير الحرب الصهيوني موشي دايان وهو يخطب بجنوده أمام الحائط الغربي للمسجد الأقصى قائلا :" اليوم حرر جيش إسرائيل القدس" لم تعبر كذلك!! ليستوطن في الإرادة الخاوية الخوف الذي انطلق ولأقصى حدوده وزمانه بالتلازم مع انطلاق الطائرات نحو المطارات والقواعد العسكرية العربية لتدميرها و بضربة جوية قاسمة في حرب إسرائيلية خاطفة خطفت معها بقية كرامة وأرض العرب لسنين طويلة مبقية فيها عنتريات كاذبة انتفخت بفراغ ، لم يجوع سمك بحر العرب ليأكل أعداءهم بل أجساد أطفالهم
وهمٌ لفظتهُ صحراء سيناء بحزنها المشلول العاجز أمام الأسرى الذين أعدموا والذين دفنوا أحياء ليأخذ التراب هوية القتلى ، وتضيع هوية المكان في أوطان لم تلتق بحريتها الكاملة حتى في حرب التحريك أو التحرير للضفة الشرقية لقناة السويس والقنيطرة وجبل الشيخ ، ولم يعبر جموع اللاجئين لديارهم الأولى البعيدة القريبة ليظل عبور غزة والقدس والجولان والضفة باتجاه آخر تحت جنازير الدبابة وأقبية الزنازين الانفرادية
قد يكون أمراً مؤلماً لشعب أن يبقى وسط ركامه وبلاده المستباحة من النهر إلى البحر وحيداً واضعاً جراحه أمام خيار لا تقبل معادلة الصراع بين الحياة والموت سواه, ليظلوا بامتدادهم لهذه الأرض كحبل سري يستعصي على القطع والانفصال ، إذا ما مشت فوقه كل قوى الاحتلال لم تزده إلا صلابة, وحياة بفم وليد يوحد في صراخه نداء المقاومة بين الجد والأب والابن في فلسطين وبين جميع أبنائها حتى من بقي مزروعاً بأرضه ولم يغادرها أوصى أن يكتب على قبره باق في حيفا ، ذاكرة قديمة حديثة لو استرجعت لقالت الدماء فيها الكثير زيادة عما حدثته بانتفاضتين مثبتة أن قيمة الحقيقة بالثمن الذي يدفع لأجلها وأن اتفاقيات عرش العفن والسراب فيها بدء بأوسلو وليس انتهاء بشرم الشيخ بكل مؤتمراته التي غمرت بالإحباط روح وضمير هذه الأمة ، لتصرخ باستغاثة أخيرة لها بأن الخلاص لجسد ينهشه الاحتلال بكل مواصفاته وتوصيفاته لن يكون بقتل مقاومته ومحاصرتها وتجريدها من كل أشكال وأساليب نضالها لتقف عارية أمام احتلال لا يفهم معنى للسلام إلا في نقيضه ، لم يعي العرب وفي كل تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي أن معادلة القدرة والقوة ليست بالانطواء تحت أجنحة القوى الكبرى التي أرهقت المنطقة شعوباً وأرضاً بالاحتلال والقواعد العسكرية ذات الإقامة الدائمة وأن مواجهة إسرائيل بكل مشاريعها الثقيلة هي بالمعرفة السوية لجوهر الصراع العربي الإسرائيلي ، معرفة تُغني عن اللغو الصريح والمبطن الذي كابد ويكبدنا العناء باتفاقيات لم توقف دماراً وقتلاً للأرض وللانسان ولم تزدنا إلا تشرذماً وشرخاً للصف العربي بدءاً باتفاقية كامب ديفيد بكل نتائجها الهامة والمهملة وليس انتهاء بأوسلو ، فهذه أمة اعتادت لفظ أدرانها واحتلالها العابر وكنسه عن ترابها بإرادة المقاومة لا باتفاقيات أثخنتها انطواء في غربة موحشة عن ثقافتها وأصالتها وماضيها المشرق المشرف الرافض للاستكانة وبلاءاتها الثلاث التي قالتها يوماً في قمة الخرطوم ( لا صلح لا مفاوضات لا استسلام ) ، وسواء كان حزيران محطة أو مرحلة لا فرق , فهو جواب صعب لكل سؤال يُطرح عن المعركة الحقيقية للهوية الفلسطينية التي تجر لطمسها وتوطينها لتغييب معالمها وحقوق أهلها في العودة لوطن قسمته وجزأته القرارات الدولية متجاهلة أن وطناً يفقد نصفه الآخر يسمى" نصف وطن" سيبقى يلاقي نصفه الآخر بحنين لا يعرف إلا لغة الالتصاق بالتراب والدماء العزيزة التي أعزت شعبها يوماً حينما اندحرت أمة بأسرها خلف صمتها لتتركه يواجه مصيره.. وواجه بشجاعة وإتقان محطماً أكذوبة الجيش الذي لا يقهر ولعل السبب الرئيس لحرب حزيران كان نهوض مقاومة جريئة حملت هموم شعبها وبددت قسوة خيامهم وحرمانهم متمثلة ببروز منظمة العاصفة التابعة لحركة فتح التي كانت تتسلح بفكر وطني وأسلوب نضالي متميز في الأداء والنهج السياسي في تعاطيها مع قضايا التحرر الوطني لشعبها وعدم ثقتها بالحكومات العربية المتآمرة على حد وصفها لها ، فكانت تشن غاراتها على الكيان الصهيوني منذ عام 1964 ، وتلك العمليات كانت سبباً في الهجوم على قرية السموع ومهاجمة سوريا في 7 ابريل عام 1967
أين نقف الآن من حزيران بأمة لم تعد تعرف إلا الوأد ولغة الثأر ولكن ليس من الأعداء؟ العراق محتل والمذهبية تنهش أبناءه بالقتل وخلف أوطاننا أوطاناً سليبة بخيام جديدة على طول حدودها أعيتها المراكب المحترقة وقسمة جائرة للأرض تُستجدى من احتلال جاء بظلام الأساطير والخرافة.. مستنقع للحقد والكره يفرغ ببيوت تقصف وبأشجار تقتلع من عيونها وبصدور أحباء غابت بقايا أجسادهم في المطلق والتراب, وغاب معها التواصل في حكومة الوحدة الوطنية ، وحتى الالتقاء بين أصحاب القرار السياسي في وضع حد لتعثرهم الدائم في حل إشكالية هذه الحكومة لتقترب أكثر من قضايا شعبها وتوحد صفوفهم بعيداً عن تحالفات أضعفتها المصالح الفئوية بعد أن استبعدت كل القوى الوطنية الأخرى لتبقى بأفق مسدود ينتظر الرحمة والنوايا الصادقة لمصالحة حقيقية تعيد لنا فلسطين كما رأيناها أول مرة , حلم يكبر مع أطفالنا يدخل كل بيت ، يصافح جدراناً تسجد فوقها صور الشهداء, رماحاً لقرى تغفو على خارطةٍ بين بحيرة طبريا وتلة للقدس تحدق في الرمال وبقايا الأوطان, في أمة لا تزال تنادي حزيران باستحياء وانكسار لا تطلب الماء والثياب فقد عرينا من الصواب ، لا تطلب السلاح فهو يُحييك ويقتل فينا الحياء ، لست شهرا أنت دهراً من الهزيمة لو علمت!! مات فيه الرجال ,لا تنتفض لا تخرج من القبور والركام ، ابق حيث أنت بلا عنوان,كتب مكومة ترثي هزيمة بحقيقة ساطعة غائبة تنشدها فلسطين عندما تنتزع العوسج من أقدام أبنائها لتوحد خلفها أطفالها بفقرهم بقهرهم بكل ذكرياتهم عن قلوب احترقت بترابها لتضيء في كل الطرقات التي تجثو فيها منذ ولادة أول الرصاص والنشيد وكوفية الدماء, بين الشجر الذي يموت واقفاً ويمسح دمع عينيها بدون مناديل يلاقيها دونما ميعاد ليرسمها بين الحجارة والمخيم صلاة نهار ترتل فيه قرآنها ودعاءها لأبنائها في صبرهم وليلهم, تضمد ما استطاعت من جراح بين اخوة السلاح لتبقى في لجة الموت المسمر فوق أكتاف حزيران تلم شرايينها المذبوحة وأسماء أحبائها, تقف بين من رحل ليورق في قلبها, ومن عاهد ألا ينام إلا فيه. ذاكرة أخرى لحزيران خارج السنين تكبر بالفداء والنداء ببسالة رجال تركوا الحياة خلفهم والأبناء وانصهروا فيها مرايا لروح, لقاء لأمل أقرب من لحظة النزع في قفر موحل بكى العرب فيه يوماً هزيمة ليمروا فوقه بعد ذلك أبطال سلام واستسلام ثم ضاعوا في الزحام, في وجاق نار أعدوه على عجل ليهربوا قبل أن يطفئوا بتلك النار عار حزيران وغابوا .. لتظل فلسطين تطل بكل دمائها في كل مكان وعلى كل وجه بخارطة أمة العرب لتُقرء الضمائر الحية بعد التحية والسلام ، وصية الشهداء .. وصية الأرض والسماء .. وصيتها .. بأن ما تُؤرخه الدماء , لا .. ولن .. ولا يجوز أن يستذكر .. إلا بالدماء








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كارولين مارليني وماريانا تختاران دراما كوين السوشيال ميديا


.. سيارات مدرعة وفسيفساء مذهلة.. شاهد ما رصدته مراسلة شبكتنا دا




.. تواصل سري بين إسرائيل والنظام السوري.. وثائق مسربة تكشف أسرا


.. مراسل الجزيرة: الكلاب تأكل جثامين الشهداء الملقاة في شوارع ش




.. بعد سقوط بشار الأسد.. مراسل الجزيرة يرصد الأوضاع من داخل مدي