الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


انحسار الوطن في الذاكرة

فاضل فضة

2007 / 7 / 2
حقوق الانسان


يمر السحاب الأبيض من امام تلك النافذة، الباب العريض، يلتمس سلاماً صباحياً على فنجان قهوة مازالت سورية، ويكفهر لونه مرات بعد ايام متواصلة من حرّ متصاعد، متحولا من الأبيض المتراكم في عجالة إلى إلى لون الرماد، ليدفع تكاثفه السماء إلى حزن مكفهر، فيمطر بغزارة لامثيل لها، مترافق برعد قوي، يدعو للقلق عند الرغبة بمراقبته من خلف الزجاج، خوفاً من اقترابه منك او من منزلك، بآثار قد تكون اكثر من كبيرة.
إنه السحاب الصيفي الجميل الذي يمر كقافلة من اللوحات كمعرض يومي تضطرب عدسة الكاميرا الرقمية امامها بأشكالها الفنية اللامحدودة. إنه الذكرى والخيال وحزن عميق يطل من نافذة القلب يوماً بعد يوم. حزن مجبول بإحباط اقله إنساني، على مسار وطن ومواطنين، اجبرهم الزمن على مغادرة ارض، كان لهم وجوداً بها، امتدّ إلى ماقبل التاريخ. كونهم بقاياً الحضارات الإنسانية القديمة في سورية بلاد الشام، موطئ العمارة الأولى.
بعد اكثر من ثلاثين عاماً في اغتراب متنقل في بلاد الله الواسعة. كان لا بد للثقافة الغربية وشمال امريكا ان تطغي على ذاك التراث العميق، وتؤثر بنا بشكل كبير، ليجعل من قبولنا لمعايير مفاهيم المواطنة في بلادنا الأصلية كما هي اليوم، غير مقبولاً مالم تتغير هذه المعايير بشكل متناسب مع حقوق الحياة في المجتمعات المتقدمة، المضمونة بالدستور والقانون، وحق المساواة مع جميع ابناء الوطن الجديد، ومسألة فصل الدين عن الدولة، وحق الإنتخاب والترشيح، وممارسة ديموقراطية حقيقية شفافة على مستوى الدولة، وحرية الإعلام والصحافة، وحقها في مسائلة المسؤولين في ادائهم، او في ممارساتهم، كونهم يعملون عبر انتخابات قام بها الشعب.
ولإن هذه المعايير غير موجودة إلا على ورق للإستهلاك المحلي في عقول سياسي الوطن الأصلي والمؤسسات السياسية الفاعلة في الوطن وخارجه، فإن قضية العودة إلى الوطن ضمن ظروفه الحالية او المستقبلية، قضية خاسرة على كافة المستويات.
ومع ذلك فإننا لسنا سعداء كابناء جيل اول للهجرة في اوطاننا الجديدة. إذ مازال الشوق يتلظى بنا، لإن الذكريات الأولى كانت ومازالت ماتبقى لنا من تاريخ نتسامر به، وهي التي تبقى تاريخاً حقيقياً لنا، وان اصبحت بعيدة المنال في واقعها وواقع ابطالها، بسبب عدم تواصلها. فاكثر من ثلاثة عقود كاملة بالغربة، هو انقطاع عمري لا يمكن اصلاحه بأي طريقة، لاننا تغيرنا اولاً وتغير الوطن الأصلي وابنائه ثانياً. أما بناء ذاكرة جديدة في وطن آخر فإنها قضية غير كاملة ابداً، لإننا لانملك الجذور ولا التاريخ ولا ذكريات الإجداد او المدينة او القرية. فهي ذكريات قد تصلح لاجيالنا القادمة، وهي حكايات تجاربها منهكة يمكن كتابتها في روايات للأخرين، لكن لا يمكن استعادتها مع ابطالها إلا نادراً. فهم متغيرون عبر المكان والجغرافيا، اما الحكايات مع ابناء الوطن السوري في تلك المغتربات، فإنها مشابهة لذكريات الإجازات السياحية فقط، فهم ندرة في مجتمعات جديدة، ولا يمثلون شريحة منسجمة إلا عبر مايجمعهم من قليل، خاصة هؤلاء الذين يعيشون حالة من الأنفصال، تتراكم بها هواجس المصلحة الذاتية على حساب اي قيم جديدة، لا يمكنهم فهمها أو لا يرغبون بذلك، أو هؤلاء الباحثين عن احلام بطولات سياسية، بنفس الطرق والأساليب القديمة، بدون قدرة ايضاً على فهم بيئتهم الجديدة، أو معاييرها، والتعلم منها. لذا تكبر المعاناة، في تواصل السوريين المتقطع، فهم اضعف تجمع جاليوي عربي في كندا، لايدري اي سوري سببه الحقيقي بكل تفاصيله.
نعم لسنا سعداء بسبب الإنقطاع والتغيير في وطننا الأصلي، وبسبب الثمن الكبير المدفوع للتواصل مع ثقافة اخرى قد تصبح ثقافتنا ومن بعد ثقافة اجيالنا، خاصة بعض قيمها الإجتماعية وليست السياسية، بعض الإجتماعية التي لا يمكن التوائم معها خاصة بما يتعلق ببعض العادات والتقاليد الشرقية. لكننا نعوض عن خسارتنا المعنوية من طرف، باستقرار إنساني لا حدود له، تؤمنه ثقافة وقيم المجتمع السياسية، وحرية حقيقية لا خلاف على ممارستها، ومحاولة استيعاب من قبل بعض ابناء البلد المضيف لنا، من خلال سلوكهم الطيب والحضاري في كثير من القضايا.
ومابين نداء الذاكرة لوطن كان الهم الأول والأخير في اوراقنا، تبتعد الحكاية الحقيقية عن واقعها اليومي المعاش، وتصبح كتابات السياسيين سلطة ومعارضة، حكاية اقل فاعلية في كيان جرده الزمن من كل امل بتغير جذري يصب في خانة بناء دول الوطن الأصلي المتقدمة. فالطريق طويل جدّاً، لا بل اكثر من طويل، ومالم لم تستطع دول الأغتراب الأوروبية والأمريكية "شمالاً وجنوباً"، ان تعلمه لشرائح متعددة من سياسيينا، لن يستطيع الواقع السوري الحالي في مخاضه الأقسى ان يعلمه لهم. وكأن الإنسان يعيش القرون السابقة عندما نقرأ هنا او هناك. فلا وإلى هذا اليوم، اي برنامج سياسي حضاري مكتوب لدول سورية المستقبل، ولا برنامج سياسي راق يمارس على أي مستوى، وأتمنى بأمانة ان اكون خاطئاً هنا، اتمنى ان يظهر على الملئ بعض من الجماعات التي تتحلى بمصداقية القراءة والتحليل، جماعة متحررة من آثار القرون الماضية، وآفات الطائفية، أو المقولات والشعارات الخلابة التي لا معنى لها على صعيد الواقع. اتمنى ان يظهر من هو محب حقيقي للشعب السوري، بدون ان تدفعه مصالحه الشخصية، او الفئوية إلى فعل جماعي ما، ليكتبوا برنامج الدولة السورية الحضارية بما يتناسب وعمرها الروجي والتاريخي، كملتقى قسري كان لحضارات تاريخية سابقة للعالم القديم.
إنه الوطن الذي لا تهم كثيراً جغرافيته المصنوعة من قبل الدول الأخرى، فهو وطن بعض القيم الجميلة والطقوس المعاشية البسيطة، في مدن متعددة وقرى منتشرة على سهوله وجباله وصحرائه. قيم كانت تخيم على بلاد كاملة اسمها بلاد الشام منذ القدم. إنه الوطن الجميل في ذاكرة قد يصيبها النسيان في تغير وتبدل الأجيال القادمة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فرنسا تدعو إسرائيــــ ل إلى وقف عمليتها في رفح بلا تأخير.. م


.. أغلبية ساحقة لصالح -دولة فلسطين- بالأمم المتحدة.. وإسرائيل:




.. موجز أخبار الواحدة -رابطة العالم الإسلامي ترحب بقرار أحقية ف


.. ماذا يعني تأييد «غالبية دول الأمم المتحدة» لعضوية فلسطين في




.. تفاقم معاناة النازحين في خيام الإيواء في رفح في ظل تواصل إغل