الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


همس الليالي البيضاء في العرض المسرحي البصري

فاضل سوداني

2007 / 7 / 3
الادب والفن


نموذج من المسرح التونسي

يعد الحنين إلى الماضي وتأثيره في الحاضر موضوعا أثيرا في الادب والمسرح عموما ... وهذا ما افترضه عرض الليالي البيض ـ أو مقطوعة خريف ـ من اخراج الفنان التونسي الشاب حاتم دربال وتأليف شيماء بن شعبان. وقد عولج موضوع المسرحية باسلوب الكوميديا السوداء واعتماد المفارقة Paradox كا سلوب وسمة اساسية في فعل الشخصيات ومسار الاحداث . لذا فان المؤلفة بنيت موضوعها على الماضي كمنطلق جوهري لابراز ذلك التمرد و تلك السخرية والحنين إلى الجذور الطيبة ، والى ذاكرة الماضي الذي يشدنا دائما ويقلق حاضرنا.وحاجتنا الدائمة للرجوع إلى الاصل هي التي تشكل الحلم المتفرد.
( حيث تعود مريم إلى منزل العائلة الذي ولدت فيه بعد غياب طويل يصحبها زوجها بحثا عن آخر مقطوعة موسيقية ألفها والدها " راحة الارواح " . وتكشف عن نيتها في إعادة كتابتها من جديد تكريما لروح الاب. انه رجوع مفاجئ .,. عكر على العائلة " الاخت الصغرى والعم والكثير من ذكرياتهم" صفو الهدوء وحياة الرتابة التي اعتادت عليها.انه رجوع يبعث بعد سنوات من الصمت والنسيان ذكرى ألم قديم ..وجرح عميق هو انتحار الاب ) .
إذن في مواجهة الماضي من جديد تفرض على العائلة الكثير من الدموع … والرؤى … والاحلام … والخوف …والحيرة …والالم… والصراخ الذي يتحول إلى نباح … والامل… واليأس … وأحيانا تجاوز الزمن الواقعي . والحكاية هي ( حكاية جيلنا ونوعية العلاقة التي تجمعه بالجيل السابق وايضا استنكاره ورفضه لخيباته ونكساته .. وهي ايضا حكاية الوحدة والخوف من المستقبل … الصمت .. والماضي الذي تلاشى وراء الهزيمة واليأس ) .
ان عودة البطل التراجيدي إلى المكان والزمان الاول أي إلى منبت الوعي الاول ، هي عودة نحو الهاوية التي تشكل مأساته الحاضرة من جديد . فتاريخية الشخصية هي ماض مرتبط بالحاضر
أيضا " أي الان " لان التاريخية ، تفهم من خلال علاقة الآنية ـ الحضور الاني ـ ضمن مفهوم الماضي المتكدس وليس وفقا للماضي كمفهوم زال وانتهى .
هنالك تأثير ديناميكي للماضي على الحاضر في اللحظة الحاسمة التي تقرر مصير البطل .
و عودة مريم ـ الاخت الكبرى ـ إلى المنزل هي عودة نحو خرابها الذاتي .. نحو البحث عن معنى حياتها في الماضي ووجودها الاني ( الواقع الان ) ، ومن ثم التذكير ونبش خراب العائلة . وهذا البحث يؤثر مأساويا ليس في البطلة حسب وانما في الشخصيات الاخرى حتى تشعر بثقل هذا الماضي على الحاضر . فالشئ الذي أكده النص وكذلك العرض بشكل واضح هو ان روح الاب ( ذكرى الاب ) غير المرئية هي التي تحدد وتؤثر على مصائر الشخصيات ، فتخلق أوهامهم وقلقهم وعدم توازنهم في عالم غير متوازن أساسا .
ان هذه الشخصيات تتعامل بلا حميمية فيما بينها ، فهي معزولة في وحدة قاتلة ، وعندما تثرثر فيما بينها فانها تخلق الكوميديا السوداء الساخرة التي تدهش المتفرجين ، لان هذه الشخصيات تثير السخرية أيضا عندما تتعامل بجدية بعضها مع البعض الآخر . كل واحد منهم يفكر بعالمه او كابوسه الخاص . فالاختان مختلفتان جوهريا وهذا يبدو من التناقض الحاد فيما بينهما ، لكنهما يبدوان ظاهريا ذاتا واحدة احدهما تكمل الاخرى . اذن هذا العرض يحاول ان يتناول ثلاث ابعاد متداخلة هي :
شاعرية الماضي وتداخله في الحاضر …
عذابات الذاكرة ،
و الحاضر الان .. وهنا ممتزجا بالوحدة والخوف من المستقبل ….
وقد حاول العرض من خلال استنطاق للذاكرة الجماعية … خلق تلك الحياة التي تتسم بالشفافية والحنين والحلم كمعادل موضوعي لواقع حياتنا المترعة بالخشونة والقسوة .
ان استحضار الماضي يتطلب ذاكرة حية يختلط فيها الماضي والحاضر ، الماضي الذي كان تراجيديا
و يشكل ذكرى كابوسية اصبح لها مكانها في الحاضر الان ، ولهذا فان تراجيدية وكابوسية الماضي اثرت في الحاضر وستؤثر في المستقبل . وقد ساعدت السينغرافيا والفكر الاخراجي خلق ثلاث ابعاد واضحة لذاكرة الماضي من خلال حدوثها في ثلاث أماكن مختلفة الوظائف على خشبة المسرح .

البعد الاول … يشكل الماضي البعيد المغمور والضبابي وغير الواضح والذي يترآى كالكابوس الذي تقطعه المراة المتشحة بالسواد والمليئة بالغموض .. وبالتاكيد فان هذا يشكل احداثا بعيدة في تاريخ الشخصيات . لذا فان هذه الاحداث البعيدة شغلت القسم الخلفي من خشبة المسرح . ويتكثف غزو هذا الماضي عندما تضئ الانارة القسم الاخير من فضاء الحدث .
والبعد الثاني هو الماضي القريب من الذاكرة المختلط بالحاضر والذي يترآى بوضوح .
اما البعد الثالث … فهو الواقع الخشن القاسي .. الحاضر الان الذي سيصير ماضيا بعد لحظات انه قريب جدا من المشاهد حتى ان احداثه تدور في مقدمة المسرح .
وكما أكد العرض وجود هذا التداخل بين الماضي والحاضر ، فان التداخل بين الواقع والحلم كان
واضحا في جوهر العرض . وبالرغم من ان العرض بمجمله مبنيا على الحلم الشفيف او
الكابوس ، الا انه يطمح ان يكون كل شئ فيه واقعيا . تتحرك فيه الشخصيات بحيويتها وايقاعها العنيف . ومادام الحلم او الكابوس هو الذي يشكل جو النص والعرض فكل شئ مباح للشخصيات والاحداث ، فاللغة فيه تتحول إلى اصوات وهمهمات وآهات لها مدلولاتها واحالاتها السرية .
و مايؤكد امتزاج الحلم بالواقع الكابوسي هو الحركة القريبة من السلوموشن اوالقفز في الهواء لاسباب تفرضها الحالة الكابوسية للشخصية التي تعيش في واقع لامنطقي ، واقع الكوميديا السوداء والبرادوكس ألامنطقي احيانا ، ومما يزيد واقعية الحدث مفارقة هو ان العم في هكذا عرض ينام واقفا او يموت وهو يقبل . هل قتلته سعادة التقبيل ؟
فالمسرح المعاصر يعتمد على غنى علاقة الممثل بالاشياء والمواد المحيطة به ، وتتغير وظائفها عادة بتغير ايقاعها نتيجة لطبيعة تعامل الممثل معها ، أي العلاقة بين جسد الممثل وهمس الاشياء ، فيصبح لها كيانها وجوهرها ورموزها من خلال مدلولاتها في الفضاء وبالذات فضاء الطقس المسرحي . فالشال الاسود المرمي على الارض بجانب الشموع ومن خلال تركيز الانارة على الرقص المتوتر للاخت الصغرى يعطي الاشياء ـ الشال والشموع والرقص ـ وجودها وماهيتها الجديدة ، ويعبر عن الحالة الداخلية للشخصية في زمن غير زمنها الاني ، وكذلك يركز على الرسم في الفضاء ، وعلى ميزانتسين جسد الممثل.

ان حركة الممثل في العرض المعاصر يجب ان تبنى على انتاج المعنى او اللامعنى في الفضاء ، وكذلك انتاج الدلالات لاكتشاف اللغة المسرحية ...وقد حاول المخرج حاتم دربال ان يحقق هذا الاسلوب عن طريق خلق المكان حركيا وإغناؤه بالزمن ، فبإنحناءة من الممثل محاولا الاختفاء في العمق يوهمنا بتحول المكان إلى بئر عميق او قبو او هوة في ذاكرة الماضي المسكونة بالأحلام والهواجس والاسرار . وبهذا فان الممثل يتحكم بصيرورته و يخلق الاشياء من جديد عندما يمنحها معنى غير معناها، وهذه ميز ة مشتركة لدى اكثر من مخرج تونسي.
ان عرض الليالي البيض مبني اساسا على الحركة التي لاتعكس دواخل الممثل التي يؤديها وحسب ، بل تخلق جوهرها ووجودها وشكلها في الذات الاخرى ( الممثل الشريك ) ، فهي حركة تعطينا صورة وشكل له دلالته . وما بداخل إحدى الشخصيات تعبر عنه الشخصية الاخرى حركيا ، انه اسلوب وفكر اخراجي معاصر ومتميز يعمل بمنطقه الكثير من مخرجي المسرح الاوربي .
انه عرض حول التلصص على الذات الأخرى كما يفعل العم ، عندما يتلصص على الآخرين بسخرية .او انه عرض يسخر منا جميعا ومن تلك العادات اليومية المبنية على الأنانية الضيقة او تلك التي يتحول فيها الإنسان الى كائن آخر ، انه عرض ينحو بشفافيته ـ التي تفتقر لها الكثير من العروض العربية ـ للدخول في عوالم الحنين إلى ماضي الانسان .
وقد حققت الموسيقى دلالتها التعبيرية ورمزها الذي يحيل إلى الماضي حيث عبرت عن الاب
ـ المتوفي ـ وحلت محله في خلق السيطرة و الرعب في دواخل الذوات الاخرى ، وكان موتيفها صوت من الماضي يخيم على حاضر الشخصيات . اما الانارة فكان لها دورها المادي المتجسد بصريا لخلق دلالاتها للتعبير عن الشخصية والحدث . فتتحول من الحلمية والشفافية إلى الحدة للتركيز على الشئ او الفعل او الحالة النفسية ، لقد كانت كلقطة الكلوز أب في السينما .
ينبئ عرض الليالي البيض عن ولادة مؤلفة متمكنة من ادارة الحوار والاحداث ، بالرغم من ان متانة الاسلوب والبناء الدرامي حتم اعادة كتابة العمل مرات عدة حتى الصيغة النهائية ، لقد كان طموح العرض مبني على تأسيس منحى متميز ورؤيا مسرحية تستفز ذاكرة الجمهور من خلال قدرات متميزة لحاتم دربال مخرجا وممثلا وفريق العمل من ممثلين وفنيين مثل ، فاضل الجعايبي ، شيماء بن شعبان آمال الفرجي ، رمزي عزيز ، قيس رستم ، دنيا شنتير ، وناس خليجان .

كوبنهاكن في شمال الكوكب








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد فوز فيلمها بمهرجان مالمو المخرجة شيرين مجدي دياب صعوبة ع


.. كلمة أخيرة - لقاء خاص مع الفنانة دينا الشربيني وحوار عن مشو




.. كلمة أخيرة - كواليس مشهد رقص دينا الشربيني في مسلسل كامل الع


.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا




.. كلمة أخيرة - سلمى أبو ضيف ومنى زكي.. شوف دينا الشربيني بتحب