الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ظهيرة الخروج

فاضل سوداني

2007 / 7 / 9
الادب والفن


1)المرأة المتلفلفة

في إحدى صباحات الصيف الخانقة ، حط طائر السنونو على نافذتي حاملا برقية ملفوفة بحرز حول
رقبته : " انتظرني في حانة القمـــر…..
كاظم الخالدي
وفي ظهيرة تضج بالشمس والقطارات المنحدرة صوب الجنوب ، جلسنا أنا وهو وحيدين على مصطبة الانتظار نتقاسم زجاجة خمر رخيص وخبز وذكريات متلفعة بالحزن والأسرار ، ونظراتنا الصامتة المتوجسة تنذر بمستقبل غير مضمون . وبين همس الريح وصخب القطارات احتفلنا فرحين بلقائنا المفاجئ بعد سنوات من الفراق على مسطبتنا التي أطلقنا عليها ـ حانة القمر ـ .
كانت قطارات الضفاف الأخرى تخطف مسرعة نحو المجهول ، فلم تتوقف لتنبؤنا بالمستقبل الذي سنتحول فيه شمعدانات يطفئها رهبان تسكنهم الخرافة متى شاءوا . في تلك الظهيرة حدثني بفرح طفولي عن أحلامه في المدينة الجديدة ، مدينة الوهم ، اليوتوبيا ، مدينة الجحيم .
كنت أحدق في عينيه وسؤال يشتعل …. ما الذي سيفعله فنان مثله في جحيم مذبحة الحرب ؟همست الريح .. سوى أن يلتقي قاتله هناك .
كان على عجلة ، لم يمتلك وقتا للحديث عن حنين طفولته في مدينته المسترخية على ضفاف دجلة بين الصفصاف والبردي و الحب الذي كان يسكنه . فكل هذا صار في ضباب الذاكرة . لديه خمس ساعات فقط يواجه فيها حريته و يمارس حياته في حانة القمر.
خمس ساعات مغالبا خجله ليتحاشى وجوه البوليس السري الكئيبة وهي تلهث في ذلك الصيف القائظ وتلك الظهيرة الموحشة وعيونهم الحاقدة في مدينتهم الحلم .
خمس ساعات فقط في حانة الذكريات واللوعة .
خمس ساعات و ينحدر جنوباً مع القطار المسرع نحو المقتلة ،
خمس ساعات ثم يرحل حيث المجهول .
خمس ساعات فقط في حانة القمر ،
امام زجاجة الخمر ودخان الأحلام والبوليس السري
المهووس بالغرباء الذي يترآى خطفا وهو يطارد أشباحه .
خمس ساعات لانتظار الرحيل مع القطار ،
ومن ثم … ليل رمادي…
وحدود للعبور إلى الضفاف الأخرى من الموت .

وبدون أن يثير انتباهي حدق فجأة في الجهة الاخرى من رصيف الانتظار حيث جلست بهدوء امرأة متلفلفة بردا ئها الأخضر ، وكأنها أيقونة تخلصت من زمن جمودها للتو و جاءت الى هنا بعد ان عبرت سهوب صحراوية بعيدة ،حيث مازال الرمل عالقا بملابسها. كانت هي ذات المرأة التي خطفت تحت نافذتي عندما وصلتني البرقية .
ولا اعلم هل جلست اللحظة ، أم أنها كانت موجودة عندما وصلنا ، فأنا لم ألحظ وجودها المفاجئ . . لكن جلوسها على حافة المصطبة بشكل مائل واضعة يدها اليمنى باسترخاء على حقيبة سفر داكنة بجانبها وتمسك بالأخرى زهرة عباد الشمس ويشوب وجهها الطفو لي المكتظ بالأسرار نصف ابتسامة غريبة مظللة بالأخضر، يوحي بأنها على عجلة وتود النهوض .
كانت تحدق بعينيه هو بالذات بتصميم وحنان لاغية وجودي نهائيا . ارتجفت شفتاه هنية ونظر الى البعيد هامساً : أي امرأة تنتظرني في المنافي ؟
أي حروف لها وقع المطارق والكوابيس ،
تتطاير
في صحراء الروح ؟ .

صمْتَ طويلاً ، نهضتْ المرأة الخضراء المتلفلفة ساحبة العربة الصغيرة التي تحمل حقيبتها ، وهي تحدق به بتمعن عندما مرت بجانبنا ، دون أن تثير أي ضجيج . اتجهت نحو القطار الذي يتهيأ للانطلاق جنوباً . ارتبك بشكل مفاجئ و قَلِقَ في جلسته مندهشاً لوقوفها في باب القطار بابتسامتها الشبحية وكأنها تدعوه .
فوجئت به ينهض تدفعه قوة سحرية باتجاهها وهي تهم أن تغيب في داخل القطار. اختفت المرأة الخضراء ، واختفى القطار الذي يصوت باتجاه الجنوب ، وبقيت وحيدا يتردد في داخلي بقايا الصدى الذي يتناثر في الفضاء .
مر خطفا ليقلق هدوئي وأحلامي التي علقتها في منفى الروح ، وعندما اختفى هو ، ضاع وجهه في السراب البعيد . وأفِقت أنا في محطات نائية .
. . . . . .
. . . . . .
في مدينة الوهم كان الليل مرتبكا والحرب تمسد شعرها في مرآتها الملتاثة.

2 ـ الخروج جنوبا في الظهيرة
دع أشياء الذاكرة ينتابها المس ،
تزحف ،
تثقب جماجم الجند الممسوسين ببقايا الحروب .
دع الأشياء تنهض ،
تتعثر ،مرمية في شلال الجنون .
دع روحك مرآة للهمس .
دعك من خرائب الأشياء وتوجس غيبوبة الحرب .
دع ذاكرة الليل للفجر ،
دعابة البشر المنسيين .
دع الأشياء تتهرأ ،
حلزوناً للذاكرة،زهرة النسيان .
دع الزمن ينساب في أقيانوس اللوحة .
دع كل هذا فثمة كابوس ، ينتظر في الشرفات .

نعم ثمة كابوس ينتظر في شرفات مدينة الحرب . هناك اعترف الليل وبدأ يرسم ملامحه :
كان يهجس موته فينزوي في غرفة مظلمة مهجورة يتمعن في عنفوان زمنه.
قالت نجمة تائهة : شاهدته يجوب الخرائب ملتفتا نصف التفاته إلى ماضيه .

وفي الطريق الى المقتلة تراءت له المرأة الخضراء من جديد جالسة على نافذة إحدى غرف العمارات السكنية التي دمرت الحرب واجهتها الأمامية وهي تغزل بمغزل فضي ، فبدت وكأنها معلقة في الهواء . كانت تنظر إلية بذات النظرة وتبتسم له ذات الابتسامة هناك عندما لاحقته في مدينة الحلم ، ودفعته إلى أن ينغمر في الجحيم .
وعلى الجدار تزحف خفافيش بوجوه أطفال ، تصفق بأجنحتها السوداء ، وصوتها يطغي على هدير المدافع وأزيز الطائرات . و بين تلك الكهوف الخربة تخلى عنه ملاكه الأخرس فقرر الخروج في ساعة الصفر …
لأخرج وحيدا
ًأحملُ نسري وأوهامي ،
حيث الحكمة جذلة
وامرأة تنتظرني في ذاكرة الليل .
أبواب لم أوصدها ،
ألغاز نست مفاتيحها ،
شعراء تسكعوا للذكرى في شرفة التاريخ ،
رهبان صلوا طقوس النسيان ،
ومذابح مجّدها الزناة .

صرخت سيدة المنافي :
أبتعد وا عنـــــه .
فارس يحمل موته على راحة يده ويسير خائفا ومفتونا ، لكن قلبه مفعم بالحب .
ابتعدوا عنــــه .. ما لذي تبغونه من طفولة مريضة بالوهم ؟
ابتعدوا عنـــــه ..هو ألان في ظهيرة الزمن يعبر نقطة الصفر عاري الجبين ،
متوغلا في حدود الانتظار الفاصلة بين الحياة والموت .
قالت الحكمة : في ساعة الصفر مددت يدي
أسرع ،
أسرع كان شفيفا كالبحر،
غبار الطلع في عينيه
ندى .
ربان البحار المنسية
والسفن المحملة بالأحلام و الزمرد
فنارات لقداس البحر.
حيث الحوريات يهمسن
صدى لامرأة خضراء تغتسل بنورالفجر.
حالما يُمتهن الظل
سيكون شقاءك جنون العذارى .
أسرع ،
أسرع ،
مددت يدي نحو البحر
في ساعة الصفر .

قلت أنا : أي ظل
شدني للمحطات الصامتة
حيث عبر خطفا
ذلك الذي كنت اعرفه
من أحلامه
وكوابيسه.
كان يوقظ الكلمات
في الليل من خدرها
ويرميها في القمامة
نهارا .
أي ظل شدني …أي
ظل كان ؟
أي ظل…..؟

تمتم القطا : عندما بدأ رحلة الخروج الأبدي ، تيقن أن قاتله انتظره هادئا قبل أن يعبث به .
قالت نجمة تائهة : انتظر طويلا من يدفع فديته.
سألت سيدة المنافي : كم هو ثمن فنان في حروبنا ؟
قالت الثريا : فضيحة أن يُقتل أو يُساوم على جثته.
اعترف السنونو : في الليل الوحشي ، كانوا يقتلون حسب الهوية ، فامتلأ الجو برائحة
غريبة . أردت أن اعرف ما لذي فكر به في اللحظة الأخيرة ؟ لكني حلقت صوب البحر .
همست نجمة الصباح: القمر قدر اللحظة
والزمن مرآة الأبدية ،
حالما تحنو الشمس على البحر
ساعة الشفق.
وفي الغسق أضاع قناعه ،
أفقت على بكا ءه
فأشار إلى مرآة مرمرية في القاع
هنالك توسد قلبه الغَيَابَة .
أما العذارى المتبتلات فكن يندبن : رتب شؤون بيتك قبل أن تموت
همس القمر مرتبكا : رأيته معصوب العينين ، محشورا بين الموتى يهيؤنه للذبح .
اعترف القـــاتل :عندما اقتربت عربة الموت التي كانت تقله،
من الأفق الملتهب ،
سخرنا من موته،
فبكى بصمت
جلست المرأة الخضراء المتلفلفة على ساحل البحر ، تنتظر سبى الجثث المقطوعة الرؤوس التي ستبدأ رحلتها البحرية . و في كل صباح ندي اعتاد السنونو الجلوس حزينا ينتظر جواب الاقيانوس العظيم لعل الفنان يخرج في يوم ما متلفعا بصدف البحر الذهبي . كان يهمس ………..
ظل عبر جثتي ،
فتحول نبوءة .
عد من رحلتك الضوئية
أيها الأمير .


كوبنهاكن









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد فوز فيلمها بمهرجان مالمو المخرجة شيرين مجدي دياب صعوبة ع


.. كلمة أخيرة - لقاء خاص مع الفنانة دينا الشربيني وحوار عن مشو




.. كلمة أخيرة - كواليس مشهد رقص دينا الشربيني في مسلسل كامل الع


.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا




.. كلمة أخيرة - سلمى أبو ضيف ومنى زكي.. شوف دينا الشربيني بتحب