الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ماري والحجاج بن يوسف الثقفي... علاقة تبحث عن إثبات

نبال شمس

2007 / 7 / 6
الادب والفن


مصطفى ابن العاشرة جعلني أسال وأخاطب نفسي ثم أجيبها. أفترض الافتراضات، ثم أصدقها، ليس ذكاء منه بل غباء مني لأني أحيانا أجعل غبائي لا يتلاءم مع الواقع الذي أعيشه، فقد قال لي مصطفى مؤكدا كلامه: كنت تخاطبين نفسك"، شعرت أن جملة مصطفى توقفت قبل اكتمالها، فللجملة نصف آخر: "رأيتك عندنا في فناء الدار، كنت تخاطبين نفسك أيتها المجنونة الغبية". مصطفى لم يقل: المجنونة والغبية، لكني شعرت أن عيونه قالت ذلك.
كلام مصطفى جعلني أعود إلى أحد النصوص، التي تركتها منذ شهور، عندما ضاعت مني الفكرة، فبعد أن تبلورت في اللاواعي، فقدتها كمن يفقد قطعة من رؤيته. هذا الأمر يحدث لي كثيرا وهو ليس مرضا، بل تخبطا ً أمر به في بعض الأحيان، وكثيرا ما امتزج معه إلى حد التجاوز عن اللامعقول، فتراني ابحث عن الجنون، لا الجنون يبحث عني. وعندما تعود الفكرة أجد نفسي أهذي ثانية بين عوالم خيالية أخترعها لذاتي كي أسكب فيها حبري المجنون.
حاولت مرة الرجوع إلى نصي، فوجدت نفسي أتنقل بين ثناياه عارية الفكر والفكرة، كأني أقف في مكان لا أرض له ولا سماء. فلا من عتب ٍعلي وأنا أمارس مهنة التعليم لأطفال لا حولَ لهم ولا قوة سوى أنهم ولدوا كما ولدوا، فكيف كنت سأجمع الحجاج بن يوسف الثقفي مع عالمي الباطني، وعالمي يرفض العنف بكل أشكاله، فإدراكي بأني تائهة الفكرة ومعزولة الزمان والمكان، هو أحد الاعترافات التي تجعلني أكتب وتجعلني أعود لنصي هذا وأجمع الحجاج بن يوسف الثقفي مع ماري ابنة الثالثة عشرة، فأي تحول هذا الذي جعلني أتناقض إلى حد الثمالة، بأن أكتب عن ماري وعن الحجاج في آن واحد.
ماري أعادتني إلى الحجاج أو ربما الحجاج أعادني إليها. الحجاج صاحب الخطابات والسيف حاد الرأس، وماري الطفلة صاحبة الثغر البخيل الكلام، يكاد لا يتفوه بالحرف، فمن جهة الحجاج وسيفه ومن جهة أخرى ماري ولسانها المتلعثم وأناملها الناعمة وعيونها الشاردة.
كان ذلك عندما رأيتها للمرة الأولى في قميص نومها الأبيض الباهت اللون. وقتها كلمتني رغما عنها، وبرعت في جمع الاختصارات وتقصير الكلمات والجمل، تلك الأنثى التي ما زالت مشروعا أنثويا يبحث عن الكمال، وصوتا خافتا يبحث عن الضوء، لكنها صاحبة نَفَس طويل يرعى تسعة أخوة ووالد وأم غائبة عن البيت.
دخولي إلى بيتهم كان بحجة السؤال عن شقيقها مصطفى، بعد غيابه المتكرر والمتتالي عن المدرسة بدون سبب يذكر. كنت أعرف أن عائلة مصطفى تعاني من وضع اقتصادي صعب. والده عاطل عن العمل، وأمه تشتغل في البيوت أحيانا، وفي الزراعة عندما يحين موسم قطاف الفاكهة الصيفية كالخوخ والمشمش وغيرها. أما عدد الأشخاص في بيتهم فقد فاق مساحة البيت نفسه. هذا ما عرفته عن مصطفى، لكن عن ماري لم أكن أعلم شيئا سوى أنها أخت لمصطفى.
كان الوقت التاسعة صباحا عندما قرعت الباب طويلا دون أن أتلقى أية إجابة، ربما لم يسمع أحد ٌ دقاتي بسبب ضجيج الأطفال وبكائهم الذي انبعث من داخل البيت، لكن رغم الضجة صممت أن أقابل ماري أو أقابل أحد الوالدين. بعد مرور وقت ليس بقصير فُتح الباب وأطلت ماري بشعرها القصير المجعد وعيونها المتعبة، وقميصها الأبيض الباهت اللون ذي الأكمام الطويلة جدا، ظننته قميصا لوالدتها.
ألقيت عليها تحية الصباح وسألتها عن مصطفى الذي شعرتُ بأنه في الداخل يستمع إلينا. كانت ماري مرتبكة وشاردة، وكلما ناداها صوت والدها يستعجلها كانت تعلو تقاسيم وجهها تكشيرة فيها اشمئزاز.
ماري كانت تستمع إلي، وتنصت للداخل، وتتطلع في الطفلين اللذين أمسكا بذيل ثوبها، فلم يكن لديها متسع من الوقت لتجيب أحدا، كأنها كانت تقف على قدميها بدون خاطرها. ظننتها خرساء لكنها لم تكن خرساء.
سألتها عن مصطفى وعن والدها وعن أمها، لكن الإجابات كانت متقطعة وغير كاملة مع إيماءات بسيطة في رأسها... نفت فيها وجود أحد ٍ في البيت.
دخلت ماري وأقفلت الباب بقدمها.
مضيت إلى الشارع ناسية إلى أين كنت سأذهب : هل سأذهب للمدرسة...
أعود للبيت، أو إلى مكان آخر؟
مضيت وحدي، اكلم ذاتي، فكم أردت أن أتعرف عليها أكثر وان أكلمها أكثر وأعرف تاريخها، فبخلها بالحروف لم يكن عمدا بل كان مكونا من عدة أمور متشابكة مع بعضها: الخوف، الارتباك، الملل، التعب والضغط أو ربما القرف.
ماري ابنة الثالثة عشرة حملت في عيونها الغائرة كل تلك الامور، فماذا إذن حملت في قلبها وفي عقلها وفي تاريخها ؟ لقد أثارت في داخلي ثورة هامدة وخامدة وأسئلة ثائرة ومتمردة، فبدل أنْ تكون على مقاعد الدراسة أو بين أكشاك الحلويات والمسليات مع صديقاتها، تقبع في البيت تشتغل أما ً وخادمة، وطباخة ومربية وراعية لوالدها.
مصطفى ما زال ينظر إلي باستغراب وعلى وجهه بسمة خبيثة ممزوجة بنصر طفولي، حمل قليلا من الخبث، فجملته ما زالت في أذني تسابق وقتي وتفكيري وحبري."رأيتك عندنا في فناء الدار، كنت تخاطبين نفسك". حدثت نفسي. بحثت عن مصطفى. فتشت عن ماري. كل ذلك لأجد الحجاج الذي ما زال يسكن بيننا.
آه ما أقسى قلبي على ماري، وما أقسى عودتي إليه والى عنفه، فقد أصررت أن أبقيه بين أوراقي وبين حروفي رغم عزمي بأن أتجرد منه ومن عنفه ومن سيفه، لكن فضولي باكتشاف علاقته بماري جعلني أبقيه كي أجد الإثبات بأنه ما زال حيا.
نصي التائه جعلني أخرج وأبحث عن الحجاج لا عن مصطفى، لكني وجدت نفسي أعود إلى أوراقي لأبحث عن علاقة ماري بالحجاج بن يوسف الثقفي، فهي أعادتني إليه، أو ربما الحجاج أعادني إليها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل