الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
كفاءة التناص في توظيف الموروث اللغوي في النص الشعري المعاصر ..مجموعة ( مِنْسَأتي) للشاعر العراقي سَعْد اليَاسِري نموذجا
فاطمة الشيدي
2007 / 7 / 6الادب والفن
مقاربة عامة :
تمثل اللغة المكوّن الأهم في بناء النص الشعري ، حيث تفضح ثقافة الشاعر، واشتغالاته الفنية وتَمكنه من أدواته ، فاللغة كائن حي ومتطور، ومكتسب وفق المدارس اللغوية القديمة والحديثة ، ولهذا تتغير اللغة المعجمية بين فترة وأخرى حيث تظهر مفردات جديدة وتختفي مفردات أخرى كما تبدّل بعض الكلمات دلالاتها متخذة دلالات لغوية أخرى مشتقة من العصر والبيئة .
ومستويات اللغة متعددة ؛ فهناك المستوى العام ، أو لغة الخطاب اليومي أو الشارعي ، وهناك المستوى الرسمي ، وهو لغة الخطاب الخاص الموجه والمحدد ، مع اشتراك العام في التعاطي معه في مثل لغة المخاطبات الرسمية ، وثالث هذه المستويات هو المستوى النخبوي وهو خطاب النخبة ، وهو بذلك خطاب فئوي ثقافي محدد ، منحصر في فئة تشترك في فهم ذلك الخطاب المطروح وفق مفاهيمها النخبوية مثل لغة الطب والسياسة والاقتصاد والأدب .
ووفق هذه التقسيمات المنهجية ؛ فإن ما يعنينا هنا لغة الأدب ومع هذا أيضا فاللغة الأدبية تتباين فيما بينها من حيث الشعري و السردي ، فلغة الخطاب الشعري هي لغة فوقية أو لغة عليا تفترض في أبسط مستوياتها الكثافة الفنية والطاقة التخيلية العالية والألفاظ الانتقائية بمهارة وصنعة ، فالشاعر يهتم بانتقاء اللفظة الأبلغ في التعبير عن المعنى بشكل لايفترض أن يحل محلها في ذات الموضع سواها، عند شاعر متمكن من فنية الصوغ الشعري .
ورغم النظريات الحديثة القائلة بضرورة تجاوز تجنيس النص والتقسيمات الشكلية له وذلك لتمازج أنواع الأدب المختلفة في هذا العصر، إلا أنه يبقى ثمة خيط دقيق يفصل ماهو شعري عما هو غير شعري بشكل غير مقنن وغير حاد أيضا .
كما تتباين اللغة أيضا وفق العصور اللغوية والأدبية قديمها وحديثها ، وإن كان هذا التباين لايمثل إشكالا في الفهم لدى المتلقي غالبا .
ومنذ العصر الجاهلي - حيث أول ماوصل إلينا من اللغة - والذي يمثل الفصاحة في مستوى اللغة العام أصلا ، لذلك فلاعجب أن يمثل ذروتها في المستوي النخبوي (الشعري) ، حيث تمثل كل مفردة من مفردات اللغة الشعرية الجاهلية لبنة في البناء الشعري تشكل موضع خلل للبناء الشعري ككل ، لايمكن زحزحتها أو استبدالها. وتأتي هذه المفردة مستحضرة دلالاتها من الوعي اللغوي والفصاحة المستندة للغة فطرية ، ومن البيئة المحيطة بإمكانياتها المتعددة من الاتساع والحرارة والتفاصيل الخاصة بهم ليكون الشعر (علم قوم لاعلم لهم سواه ) .
ولم يزاحم اللغة الجاهلية في المستوى البلاغي الفوقي إلا لغة القرآن التي غيرت دلالات بعض الألفاظ تغييرا جذريا ، وحوّلت بعض المعاني لدلالات أخرى.
حتى إذا جاء العصر الحديث تخلخلت البنى اللغوية القديمة تخلخلا واضحا من حيث النواحي البنائية والشكلية والبنى الدلالية والمعنائية ، حيث استنبتت اللغة المعاصرة بنى تركيبية ، واشتقاقات لغوية جديدة ، كما قبرت الكثير من المفردات في بطون المعاجم ، وأظهرت للمنطوق اللغوي العربي مفردات جديدة أصبحت أكثر حضورا وهيمنة على الخطاب العام والمعرفي ، وبالتالي تسربت للخطابات النخبوية بكل أشكالها بما فيها الأدب وخاصة في الشعر.
كما أن الثورات المعلوماتية والتقنية والترجمة ، وما أحدثته من رفد الأدب العربي بآداب الآخر ، قد أسهمت وبشكل جذري في هكذا تغيير حقيقي في البنى اللغوية للشعر المعاصر، لتدخل فيه الكثير من الألفاظ والمفردات والعبارات والمعاني التي لاعهد للغة العرب بها مثل : وسائل الاتصال والمواصلات، وكافة أشكال الحياة العصرية والتي تلقفها الشعراء فأدمغوها في لغة التفاصيل الشعرية التي أصبحت تتجاذب الكثير من النصوص الشعرية الحديثة .
ولم تعد دراسة هذه الثيمات أمرا (بدعا) لانها صارت هي الثيمات الأكثر بروزا وحضورا في النص الشعري المعاصر ، بل أصبحت هي الأكثر اعتيادا للقاريء ، في حين أن عملية استلهام واستحضار الموروث اللغوي ( اجتماعيا وثقافيا ودينيا ) في النص ، أصبحت تشكل صدمة للقارئ المعاصر تدفعه لتقصي مفردات شاعر ما ، ومحاولة لتبرير شيوع مثل هذه المفردات في نصه بشكل غير قصدي وغير متعمد .
حيث استمداد اللاوعي الشعري من بؤرة الذاكرة الأولى والتكوين الثقافي التراثي ( القرآن وكتب التراث ) لشاعر ما ، هو المبرر الأوحد لشيوع ألفاظ تراثية قديمة في نصوصه . من حيث " تتشكل العوالم الثقافية في ذاكرة الإنسان العربي ممتزجة ومتداخلة في تشابك عجيب ومذهل"
وهذا مايعرف نقديا بالتناص ، وهو "تعالق - الدخول في علاقة- نصوص مع نص حدث بكيفيات مختلفة" ، والتناص والتضمين أصلهما واحد ، وهو الاقتباس .
وهذه القراءة تتناول "التناص اللغوي" في مجموعة "منسأتي" وهي المجموعة الشعرية الأولى للشاعر العراقي سعد الياسري والتي صدرت بحقوق محفوظة للمؤلف وتوزيع الدار العربية للعلوم، عام 2005 .
فمنذ التماس الأول مع المجموعة وتهاديها بين يدي قارئها، وحتى آخر نص يلمس القارئ تواظيف اللغة التراثية ، وممكنات النص المعاصر في استقطاب مفرداته من مساحات بعيدة في التكوين اللغوي الثقافي والمعرفي الممتد عبر عصور اللغة ، حيث يبدأ التناص من عنوان المجموعة "منسأتي" الذي يشي بتناص لغوي موغل ، فكلمة)مِنْسَأتي) هي العصا التي يُتوكأ عليها وقد وردت في القرآن الكريم (فلما قضينا عليه الموت مادلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته) .
ثم تأتي عناوين النصوص لتكون أول ما يفضح سمات هذا التناص اللغوي حيث : الجزء الأول (فقه الغواية) : " قلق" ، "كأن عشقك مثلبة"، "الفاجعة"،" فَيضُ الـ " ودِّ " مِنْسَأتي" ، " لست كهانا"، "هي ساعة للحشر حانت" ، " انتكاس الخطو" ، "أشياء تشبه القلق" ، "إن الفصاحة منهجك" ، "حوارية في الحب والدين" ، "سقط الوثن" ، "كـ الأنبياء" ، "اللحن دن" ، "إمام الآثمين" ، "سـ .. ومآرب الارتياب" ، " بانت سجاح" ، " من أين تأتي بالصبابة" ، "بلا إثم" ، والجزء الثاني : قلق المشيئة فمعظم هذه الألفاظ من التراث الفكري الثقافي العربي القديم ، دينيا ولغويا ، وشعريا .
يقول الشاعر في نص من أينَ تأتي بالصَبابةْ .. ! متتبعا لغة عنترة ( هل غادر الشعراء من متردم ..أم هل عرفت الدار بعد توهم ) بشكل بيْن لايعزم المواربة ، ولاينوى عدم وضوح هذا الحضور الجاهلي في شعره مضمنا له بين قوسين ..
ما ( غادَرَ الشُّعراءُ من مُتردَّم ! (
لا والذي خلقَ الغرامَ بخافقي ..
ما غادروا طيفاً يُحاكي قصتي ..
إلا وقد مرَّتْ عليه سانحاتٌ ..
نفذّتْ أمرَ السماءْ
كما يقول في نص " فيض الود منسأتي"
لى قَلَقٍِ أنِستُ النورَ في دربي !
بلا أمرٍ ..
بلا وادٍ أقدسهُ فيُنبئني !!
على قَلَقٍ أنِستُ النارَ يا ربي !
ولكن .... أينَ أتباعي ؟
فإذْ بالصوتِ مُؤتاباً :
هوَ الإنسانُ في خُسْرِ !
فهو يتناص مع القرآن الكريم في عدة مواضع :
- كـ قوله ) أنست النار ) مع قوله تعالى: ( إني آنست نارا)
- وقوله ( الإنسان في خسر) مع قوله تعالى : ( إن الإنسان لفي خسر )
كما يقول في قصيدة " أشياء تشبه القلق "
هُزِّي إليكِ الحرفْ !
حَرفَ قصيدتي ..
واستبصري بالباقياتِ من الهوى !
بل واقذفي ظنَّ السريرةِ .. باليقينْ !
وتناثري حين الجنون ..
تبعثري ..
وتلملمي حين التَجلي ..
واكشفي .. عن كُنهِ حُلمٍ سافرٍ
وتَجسّدي كحقيقةٍ ..
كمَشيئةٍ للحُبِّ في خَلقِ ارتعاشاتِ العِناقْ
لا تَعشقي من خَلفِ سِّتْرٍ أو حِجابْ !
فهو يستحضر قصة مريم عليها السلام والمخاض الذي وافاها عند جذع النخلة والأمر السماوي بهز جذع النخلة ، ويدمج قصته الخاصة في لغتها ، ويجعل مفرداته تسير في ذات النسق اللغوي.
وبتصفح المجموعة يلمح القارئ تكرر بعض المفردات التي تستحضر دلالاتها من التراث ، مثل: )ميقات / فروض / ركب / آثام / نوق / دنان الخمر / فردوس / على قلق / دجي / شياطين / نسوة الحي / ميقات / ملائكة / نبيا ) وهي مفردات وألفاظ لم دارجة في لغة الشعر ، فضلا عن لغة اليومي والمعاش.
ويقول في نص (سـ ومآرب الارتياب)
و أن الإمامَ سيظهرَ كيما يُعادَ السَليبْ !
وأن " السقيفةَ " رأسُ الفِتنْ
مستحضرا (ضمنا) التاريخ الديني ، وتحميل النص مدلولاته الثقافية والسياسية .
إن المجموعة تستند إلى الرمزية الدينية والثقافية العربية القديمة كخلفية معرفية ، لذا فهي تلجأ إلى التناص معها كتكنيك شعري فني ، موظفة الألفاظ التراثية والدينية التي تتجاوز لغة النص الشعري الآني - والتي يغلب عليها المنمنمات الشعرية المشغولة بحرفة وصنعة شعرية مكتسبة بهائها من الغموض المفتعل أحيانا، إلى التفاصيل التي تكرس الفعل الحياتي واليومي، إلى شيوع ألفاظ مثل الموت والصمت والغياب - وقد يعود ذلك لانطلاق الشاعر من ثقافته الإسلامية ، العميقة والمتجذرة في ذاكرته الشعرية الأولى ، والتي أسعفته في توصيل مشاعره بتناصه معها .
ومع هذا فلا يمكننا القول أن لغة المجوعة جاءت متعثرة في بناء تراكيبه الجديدة من لغة قديمة ومفردات تراثية ، أو حتى كانت غريبة أو منشقة عن الشعرية المعاصرة في صورها وموسيقاها التي عمد الشاعر إلى استحضارها ، حيث موسق معظم نصوصه على نظام التفعيلة ، ليهب له خفة ورشاقة حديثة ، لأن روح الشاعر الداخلية حاضرة بشكل يربطه بالواقع المعاش ، والأنا الخاصة بالشاعر تسرف في بث الألم الذي استدعى الشاعر التراث ليقوله بفصاحة أكبر وبلاغة في التعتيم ، كما أنه من الناحية الشكلية للنص والتشكيل البصري له؛ فإن نصوص المجموعة تتماس وتشكيل النص المفتوح غالبا ، ولا وحدة القصيدة الحديثة.
وبهذا فلا قراءة لتباين اللغة الشعرية في "منسأتي" المتناصة مع الموروث اللغوي بشكل يباعد بين الشاعر ولغة عصره ، إلا في ضوء طغيان طاقة المخيلة واللاوعي الشعري لشاعرها في استحضار مفرداته وألفاظه من مناطق شعرية في الذاكرة تشكل التأسيس الأول للمكون المعرفي والثقافي له ، أو في ضوء محاولة الشاعر في أن يختط لنفسه نهجا لغويا مائزا في ضباب شعري تشكله الحداثة العربية بتماثل أقلامها الشعرية ، فأوغل (قصدا) بمفرداته بعيدا شاقا طريقا ناكصا نحو الماضي بلغته ومفرداته وألفاظه ، هذا الماضي الذي يشكل تكوينه الثقافي الأول ، وكلا الأمرين ، مما يحسب للنص وشاعره الذي نجح في توظيف التراث اللغوي في نصه بشكل يزيد بهاء النص ويميز حضوره .
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. اتكلم عربي.. إزاي أحفز ابنى لتعلم اللغة العربية لو في مدرسة
.. الفنان أحمد شاكر: كنت مديرا للمسرح القومى فكانت النتيجة .. إ
.. حب الفنان الفلسطيني كامل الباشا للسينما المصرية.. ورأيه في أ
.. فنان بولندي يتضامن مع فلسطين من أمام أحد معسكرات الاعتقال ال
.. عندما يلتقي الإبداع بالذكاء الاصطناعي: لوحات فنية تبهر الأنظ