الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كانت اشبه بالنبوءة

امجد نجم الزيدي

2007 / 7 / 8
الادب والفن


إني لأفتح عيني حين افتحها
على كثير ولكن لا أرى أحدا ( دعبل )
ردد الكثير من الكلام بعضه ضاع أو تلاشى والأخر لم اسمعه لأنه بدى كهمس مبحوح , كنا سائرين معا واصطادنا فراغ المدينة ، تبدو البنايات ، الشوارع ، السيارات فارغة ، السماء لاأثرفيها للغيوم أو الطيور ، فقط أنا وصديقي الذي احمله ليدرأ عني عطش الوحدة ، تململ في مرات عدة وأبدى ضيقه في مشاركتي ، وأقدامنا تتحسس قلب المدينة التي ضرب الفراغ اطنابه فيها ، جاعلا إياها علبة فارغة تتردد فيها أصداء جوفاء ، قال :
ــ إلى متى نبقى نطرق أبوابا جائعة للحضور ..
ــ اصبر .. ستنقاد المدينة لنا ، و سنعلب فراغها ونردم تجاويفها ..
رفض مشاركتي ، تعذر بأعذار واهية ، وغادرني مترنحا ، انعطفت إلى الشارع الرئيسي للمدينة ثم اتجهت يسارا إلى الشارع المحاذي للنهر ، وأنا أمسح غبار الفراغ عن وجوه البعض الذين اعرفهم ، كانت لهم أعين ذاهلة ، وبدأوا يطقطقون أصابعهم ، ويهمهمون بهمهمة غامضة ، فركضت هاربا وأنا اسمع خلفي انكسار الفراغ مع ضجة مدوية ، تعثرت ، سقطت ، صاح بي أحدهم :-
ــ أنتبه أين تضع خطواتك … ستفقد رأسك يوما ..
كانت تبدوا لي أشبه بالنبؤة ، وجهه بدى مألوفا ، ولكني نسيت روزنامة الذكريات في زحمة اللهاث والتعب ، فالمدينة تلهث ورائي والضجة تتعالى ..
ــ ( هيه ..هيه .. مخـ … ) وانقطع الصوت
أوقفني احدهم وفي عينيه إصرار جامد ..
خذ هذا المفتاح ، سيفتح لك جميع الأبواب إلا واحد..
تركته وهو ينظر خلفي بابتسامة صلفة ، اختبأت في ظل شجرة ، كانت على بعد عدة أمتار مني فتاة تحاول أن تمنع شمعه على قطعة ( فلين ) من أن تنزلق في النهر .. فتحت مغاليق صمتها ، كانت عينيها تلمعان ببريق دافيء :-
ــ لماذا تحمل أوهاما ثقيلة ، فكر في أن تدرأ خطر الخيبة
ــ ولكني …
ــ لا تحاول تلفيق المبررات ، أنت مجرد إنسان فارغ .. وداعا
أصبحت كلماتها الأخيرة كخرير ماء وانزلقت بهدوء جليل إلى النهر الذي احتضنها بيدين مائيتين ، أصبح سطح الماء ساكنا ، وبين الحين والأخر يرسل همسات خفيظة على شكل دوائر مائية متلاشية , في تلك اللحظة ومن وسط ذهولي حملت قدمي وزرعتهما بعيدا عن النهر ، سقطت زخات مطر كثيفة سالت لها ألوان ألمدينة ، كانت المزاريب تجري بقوة وهي تقذف أطفالا رضعا ، و سيول مطر تجرف العجائز التي لا تستطيع التشبث .. كانت الأشياء من حولي تتمازج ، تتداخل وتسيل ألوانها وتصب في النهر ، فتحت كوة في فراغ ما في شارع غير معرف وأغلقتها علي ، توقف المطر ، وأطلت شمس ضاحكة ، وغادر من بقي كواهم ، لملموا وجودهم والصقوا لوحات دالة على حضورهم ( هنا باب بيت أبو محمد ) ، ( هنا باب بيت أم زينب ) ، ( هنا دكان عبد الله ) ،( هنا شجرة يوكالبتوس عليها عشان ) ، وبعضهم الصق على أعضاء جسده ( هنا يدي ) ، ( هنا عيني ) ، ( هنا أنا ) ، مرت نساء تحمل لوحتان ( هنا أنا ) ، ( هنا زوجتي ) .
كان كل شيء غريبا ، الأطفال المشاكسون الذين لم يتبقى منهم سوى أرجل وأيدي وعين واحدة ، كانوا يبدلون اللوحات ، فأبدلوا لوحة احدهم ( هنا أنا ) بـ ( هنا عمود كهرباء ) ، وبعض العجائز أبدلن لوحاتهن بـ ( هنا فتاة باكر ) كان النهر يجرف بلا هوادة وجوها تتلوها وجوه إلى مصبه الجنوبي ، عدا بعضهم الذين اصطادوا بصنارة صدئة ( عينا ) أو ( عينين ) ، ومنهم من استطاع أن يحوز على انف ..
تتعب قدماي فأتقرفص على احد المصاطب في مقهى مزدحم بالدخان ورائحة نفايات متعفنة في شقوق جدرانها يختبىء زمن معجون ثرثرات قديمة وصخب ونزق ولوحة لسلفادور دالي مقلدة تقليدا رديئا متشبثة بالحائط بعد أن أصبحت جزءً من السخام وخيوط العنكبوت ، ففتحت فضاء آخر للتأمل واستوطنتني التخيلات ، فصنعت شوارع وأزقة لم تطأها قدم من قبل وأعدت تشكيل المدينة، نقلت ( مقهى عبيد) إلى الشاطيء الآخر وألغيت ( البلدية ) وجعلتــــــــــــــها ( مرقص ) مسحت الدكاكين من ( شارع العدل )ورسمت مكانها حدائق ، أبدلت اسم ( شارع القص ) بشــــــــــــــارع ( الكبس ) لكن رياحا قوية اقتلعت لوحة المخيلة واستبدلتها بانتظار مفزع ، سرت أتقصى معاني الخراب والفراغ الذي نسج خيمته على طول المدينة، كان رماد الصمت ناشرا عباءته على أسطح المنازل ، وأنا أوزع أقدامي في الزوايا وبين الشقوق ابحث عن ظلال أناس اعرفهم ، ولكنهم فقدوا في دوامة الضياع ، فلم أطق التحمل ، ففتحت أوجاعا تحمل لوحات صدئة 0( هنا عين أطفأتها الحرب )، ( هنا جــــــــــــــــــوع حاصر المخيلة ) ، ( هنا دمــــــــوع نفــذت من ليالي الوحشة ) ، ( هنا سريـر بارد ) ، ( هنا رسالة حب ) ، ( هنا مقبرة أطفال ) ، ( هنا جمجمة ) , (هنا فتحة أحدثتها طلقة ) .
مرت بي عربة خشبية تحمل لوحة كبيرة ( من يشتري الحاجة بربع – لوحات مختلفة – ( هنا الغنى ) ، ( هنا القوة ) , ( هنا السلطة ) – عظة أسد ولا نظرة حسد – ما شاء الله – محروسة يا عروسه ) تدافع عليها أناس ممن يملكون عينا أو رجلا أو يدا واحدة ، منهم من سحقته الأقدام ، وآخرون أولئك الذين يحملون على وجوههم لوحة ( هنا بغض ) تشابكوا بالأيدي .
ففتحت وجودا آخر وسط مجموعة من الأطفال يحملون على وجوههم لوحة ( هنا ابتسامة ) وعلى مقربة منهم شاب يحمل لوحة ( هنا حب ) ينظر صوب فتاة تحمل لوحة ( هنا خجل ) ، واخترقت الحشد امرأة عجوز متكورة على صرة تحمل لوحة ( هنا ولدي ) ..
كان جسر المدينة مكتظا كعادته ، وأنا اسحب نفسي بين الأجساد التي تحمـــــــــــــل لوحات كالحة ( هنا انتظار ) ، ( هنا صبر ) ، (هنا ….) كانت الشمس قد تثاءبت واقتربت من افقها الغربي عندما هجمت حشود من الناس أصحاب العين الواحدة تحمل مجرفات على شاطيء النهر تحاول ردمه ، فزعت حاولت أن افتح فمي للصراخ ، ولكنه لم يفتح .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟


.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا




.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط


.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية




.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس