الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


استراحة على الطريق بين باريس وأمستردام

التجاني بولعوالي
مفكر وباحث

(Tijani Boulaouali)

2007 / 7 / 14
الهجرة , العنصرية , حقوق اللاجئين ,و الجاليات المهاجرة


جريدة الميترو Metro
عندما كنت عائدا من فرنسا إلى وطني الثاني هولندا، توقفت في إحدى محطات البنزين ببلجيكا، وهي محطة تحمل اسما أو ماركة ذات صيت عالمي، وذلك قصد التزود بوقود السيارة الذي يكاد ينفد، كما يشير زر الساعة الموجود خلف المقود، ثم ارتشاف كأس قهوة، قد يبدد آثار النعاس التي بدأت تغزو ما حول الجفنين، وبينما وأنا ألج بناية المحطة لدفع ثمن الوقود، استرعى انتباهي كشك صغير معلق مكتوب عليه كلمة Metro، فعرفت توا أنه مخصص لجريدة الميترو المجانية المشهورة على الصعيد الأوروبي والعالمي، فأخذت منها نسختي التي كانت تنتظرني!

تصدر جريدة الميترو الورقية في حوالي مائة مدينة، في أكثر من عشرين دولة أوروبية وأمريكية وأسيوية، بمختلف اللغات العالمية من فرنسية وإنجليزية وإسبانية وهولندية وألمانية وروسية وغير ذلك، وتعتبر من أوسع الصحف الورقية اليومية قراءة وانتشارا، حيث تستقطب يوميا أكثر من 20 مليون قارئا، وقد ظهر أول عدد منها عام 1995، وهي تتناول مختلف قضايا الساعة السياسية والثقافية والاقتصادية والرياضية والترفيهية وما إلى ذلك، بلغة البلد الذي تصدر فيه، مع التركيز أكثر على ما يتعلق به من أحداث وقضايا ومواضع وإعلانات، وتوزع في شتى نقاط عبور وتلاقي وتجمهر الناس، كما أنه يخصص لها كشك في كل حافلة أو ترام أو قطار، حتى يتيسر على كل مسافر أو متنقل الوصول إلى نسخته من الجريدة، التي تعتبر في العالم الغربي المتقدم بمثابة فطور فكري يفتتح به الإنسان يومه الجديد!

على هذا الأساس، فإن النسخة التي وقعت عليها يدي من جريدة الميترو، في تلك المحطة خاصة ببلجيكا، لكنها مكتوبة باللغة الفلامانية كما يطلق عليها هناك، أو باللغة الهولندية كما يسميها الهولنديون، وهي لغة واحدة، وإن كانت التسمية مختلفة، وهذا يعني أن ثمة نسخة أخرى مكتوبة باللغة الفرنسية، لاسيما في بلجيكا الفرنسية أو في بلجيكا التي تتحدث اللغة الفرنسية، وقد سبق لي ذات مرة أن اطلعت عليها، وهي لا تعدو أن تكون إلا نسخة طبق الأصل للجريدة الصادرة باللسان الفلاماني.

عن بلجيكا ذات اللونين؛ الفرنسي والهولندي!
هذه الازدواجية الثقافية واللغوية والبشرية وغير ذلك، تجعلني أتساءل في أحايين كثيرة عن حقيقة هذه الدويلة الناشئة بين دولتين، وهي بذلك ذات شقين؛ أولهما المتاخم للدولة الفرنسية، ويدعى سكانه الوالونيون، الذين يشكلون 40% من ساكنة البلاد، وهو ينزع إليها منزعا كبيرا، فيتشابه معها عمرانيا وبشريا وثقافيا ولغويا، تشعر هنالك وكأنك في فرنسا، لولا بعض الإشارات الطرقية، التي تعبر بشكل ما عن أنك موجود في بلجيكا، أما الشق الثاني فهو يمتد على الجنوب والجنوب الغربي لهولندا، ويسمى سكانه الفلامنيون، وهم يشكلون 60% من إجمالي ساكنة بلجيكا، وهو كذلك يأخذ كثيرا من الهوية والحضارة الهولنديتين بشريا وثقافيا ولغويا، حيث تحس وكأنك في هولندا البلجيكية، أو في بلجيكا الهولندية! مما يجعلني أفترض لو أن الشق الفرنسي من بلجيكا انضم إلى الدولة الفرنسية، والشق الهولندي من بلجيكا انضم إلى هولندا!

لكن أليس هذا الافتراض قاس وعبثي، لأنه يمس سيادة أمة ودولة، على صغرها، ذات تأثير أوروبي بل وعالمي كبير، لا تملكه الدول العربية الثلاث والعشرين مجتمعة! التي يصل تعداد سكانها إلى ما يقارب 350 مليون نسمة، وتمتد مساحة أراضيها إلى حوالي 14,527,098 كيلو متر مربع، بل ويكفي أن عاصمتها بروكسيل تتضمن مقر الاتحاد الأوروبي، حيث تتوزع عبرها مختلف المنظمات التابعة لهذا الاتحاد، الذي تم تأسيسه عام 1993، كما أنها تعتبر مقرا لحلف شمال الأطلسي المعروف بحلف الناتو، الذي تأسس عام 1949.

ثم رغم أن هذه الدويلة تبدو صغيرة على خارطة الكرة الأرضية، فلا يمكن مقارنتها إلا مع الدول التي تشغل حيزا كبيرا وبارزا على هذه الخارطة، فهي من حيث التعداد السكاني تربو بقليل على عشرة ملايين نسمة، في حين أن مساحتها الإجمالية تقارب 30 ألف كيلومترا مربعا، وهي مساحة تقل بأضعاف مضاعفة عن مساحة العديد من الأقاليم والجهات المغربية، حيث تبلغ مساحة المغرب 710.850 كيلومترا مربعا! كما أن مجرد وقفة سريعة عند بعض المجالات الاقتصادية الحيوية، ومقارنتها بمثيلاتها في بعض الدول العربية، توضح مدى نمو وتطور هذه الدويلة، رغم أنها تبدو أمام جاراتها من دول أوروبا الغربية والدول الإسكندنافية، كهولندا وألمانيا والسويد والدنمارك وغيرها، متخلفة وحقيرة!

قراءة في جريدة الميترو
أعود إلى جريدة الميترو المجانية (عدد يوم الثلاثاء 5 يونيو 2007)، التي كنت قد أخذتها من ذلك الكشك، في تلك المحطة البلجيكية، الكائنة على الطريق السيار الرابط بين باريس وأمستردام، وقد استوقفتني فيها ثلاثة مقالات:

أولهما يوجد في الصفحة الرئيسة للجريدة، وهو يحمل عنوانا خط بالبنط العريض: تراجع بطالة الشباب من أصول أجنبية، أي من أصول مغربية وتركية، والمعروف أن الأجانب المقيمين في الدولة البلجيكية يقدرون بأكثر من مليون و300 ألف نسمة، يدين حوالي ثلثهم بالدين الإسلامي، يشكل منهم ذوو الأصل المغربي حصة الأسد بما يناهز 125 ألف نسمة، أما الأتراك فيبلغ عددهم حوالي 70 ألف و700 نسمة، في حين يتوزع العدد المتبقى على الجزائريين والتونسيين والبوسنيين والباكستانيين واللبنانيين والمصريين والإيرانيين وغيرهم، وتجدر الإشارة كذلك إلى أن الدولة البلجيكية اعترفت رسميا بالدين الإسلامي، وذلك في شهر يوليوز من عام 1974.

بناء على معطيات المصلحة الفلامانية للعمل والتكوين المهني، توصل السوسيولوجي البلجيكي يان هيرتوخن إلى أنه خلال فترة زمنية مقدرة بسنتين تراجعت بطالة الشباب من أصول مغربية وتركية بحوالي 39%، وهذا يعتبر بحق، حسب تعبير هذا الباحث السوسيولوجي، تطورا ملحوظا يبعث على الأمل لدى مجموعة عاطلة عن العمل، معروف عنها تقليديا أنها لا تتوصل إلى فرص العمل إلا بصعوبة قصوى!

لكن ما نفتقده في هذا المقال هو تفسير الأسباب التي ساهمت في تبلور هذه الوضعية الصحية، لشباب من أصول إسلامية عادة ما ينعت بالشذوذ والتطرف والعنف، مما يجعل منه مجرد مقال إخباري لا غير، مؤثث بإحصائيات وأرقام المصلحة الفلامانية للعمل والتكوين المهني.

أما ثانيهما، فهو كذلك مقال إخباري يوجد في صفحة (وقت العمل)، عنوانه: الوزير الأول البلجيكي فرهوفستادت يربح ضعف ما يربح الوزير الأول الهولندي بالكانند! وهو عنوان يبعث على الطرافة، التي من شأنها أن تزرع في نفس كل متصفح لهذه الجريدة مزيدا من الفضول وحب الاستطلاع.

والغريب في الأمر أنه رغم أن بلجيكا على مستوى الترتيب العالمي للدول المتقدمة تتبع هولندا مباشرة، فإن وزيرها الأول يربح أكثر من نصف ما يتلقاه نظيره الهولندي، وهو مبلغ يصل إلى 200 ألف يورو سنويا، في حين ينفرد الوزير الأول البريطاني بأعلى أجر على المستوى الأوروبي، بالمقارنة مع أقرانه من رؤساء الحكومات الأوروبية، أما أدنى أجر فيقدر بـحوالي 41 ألف يورو، يتلقاها الوزير الأول السلوفاكي.

في حين عنون المقال الثالث والأخير بـ: افتتاح الدار الثقافية (Daarkom) ببروكسيل. وهي تسمية مستقاة من اللغة العامية المغربية، توحي بحضور ثقافي مغربي في هذه الفسحة الجديدة، التي سوف تشكل، من جهة أولى متنفسا معرفيا للجالية المغربية والإسلامية في العاصمة البلجيكية، ومن جهة ثانية فضاء ثقافيا من شأنه أن يعرف البلجيكيين بجانب مهم من التراث والتقاليد والعادات المغربية، وقد أعلن وزير الثقافة البلجيكي بيرت أنسيو شخصيا عن هذا المشروع الثقافي، الذي يأخذ بعين الاعتبار التلاقح الثقافي الواقع بين الثقافتين المغربية والفلامانية، كما يسعى إلى تفعيل التعاون الثقافي الذي من شأنه أن يبدد مشاعر التردد والخوف.

هكذا كانت استراحة سفري من باريس إلى أمستردام، في إحدى محطات البنزين البلجيكية، ليس لتزويد السيارة بالوقود، أو ارتشاف كأس قهوة فحسب، وإنما لأمر أهم من ذلك، لم يكن متوقعا، بدأ بقراءة سريعة وسطحية لجريدة الميترو، ليصل إلى صياغة صورة معرفية شاملة حول قضايا متنوعة، إعلامية وسياسية وتاريخية وجغرافية وغير ذلك، لتجعل من هذا المقال ما يشبه (كوكتيلا) من الأفكار، التي وإن كان يعوزها التجانس والاتساق، فإنها تمنح القاريء متعة المعرفة التي تأخذ من كل فن بطرف!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غزة بعد الحرب.. قوات عربية أم دولية؟ | المسائية


.. سلطات كاليدونيا الجديدة تقرّ بتحسّن الوضع الأمني.. ولكن؟




.. الجيش الإسرائيلي ماض في حربه.. وموت يومي يدفعه الفلسطينيون ف


.. ما هو الاكسوزوم، وكيف يستعمل في علاج الأمراض ومحاربة الشيخوخ




.. جنوب أفريقيا ترافع أمام محكمة العدل الدولية لوقف الهجوم الإس