الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الماء والسراب

علي جرادات

2007 / 7 / 17
القضية الفلسطينية


في مراحل اشتداد الصراع الداخلي المصيرية في حياة الشعوب، وكمحطات حاسمة في تقرير مستقبلها، تكبر الأوهام على حساب الوقائع المعاشة، ويرتبك وعي الحقيقة، وتختلط الأمور، وتتشوش الرؤى، وتتعالى نزعات التطرف والتوتير الذاتي، ويتراجع منطق المسؤولية الوطنية، ويغدو القبض على ما يصون المصلحة العليا للشعب والوطن صعباً.
ما سلف يزيح دعوات التفكير الموضوعي، الذي مِن دونه يصعب القبض الدقيق على التناقضات كما هي في الواقع، ما يضاعف المسؤولية، ويستدعي الدعوة إلى الكف عن الأوهام، التي تخلق المزيد مِن التدهور والتداعي.
سألوا ابن الرومي: لمَ لمْ تشبه ابن المعتز؟؟؟ قال: ما الذي قاله ولم احسنه؟؟؟ قالوا: لقد شبه الهلال بإناء مِن ذهب به بقايا مِن عنبر. قال: ويْحَكُمْ إنما يصف إناء بيته، أما أين هو مِن وصفي لقالي الزلابية بالقول: يلقي العجين لجيْناً مِن أنامله......فيستحيل شبابيكاً مِن الذهب؟؟؟
بتلك الإجابة البليغة، كان ابن الرومي، وهو الفقير مقارنة بغنى ابن المعتز، يؤكد أن الشاعر، كما كل إنسان عموما، هو وليد واقعه في نهاية المطاف. هذه حقيقة، لكن ليس غريبا، ولا نادراً أن يخرج البشر من واقعهم للعيش في عالم الاوهام، ولولادة الأوهام مئة سبب وسبب، لعل قلة عمق البصيرة في تشخيص الواقع مِن أهمها.
دون مبالغة، فإن هذا ما تعيشه بعض النخب القيادية الفلسطينية، التي تعيش منذ عام ونصف العام في أوهام أن سلطة الحكم الذاتي التي "لحسها" شارون في الضفة عام 2002، و"طوقها" في غزة عام 2005، هي سلطة دولة مستقلة، فيما سلطة الاحتلال في الضفة وغزة ما زالت سارية، تفقأ العين يومياً، وتستبيح كل ما هو فلسطيني على مدار الساعة.
هذه المفارقة ليست حالة مقطوعة الجذور عن مقدماتها. فمنذ قيام السلطة الفلسطينية عام 1994، وإعادة انتشار الجيش الإسرائيلي وتموضعه على بوابات التجمعات السكانية الكبيرة، نشأت حالة بحبوحة نسبية لعمل التنظيمات السياسية الفلسطينية، سواء تلك التي أيدت اتفاق أوسلو، أو تلك التي رفضته، لكن كيفية الاستفادة مِن تلك البحبوحة اختلفت، فبينما تعاملت "حماس" معها كحقلٍ ووقتٍ للزرع، تعاملت معها "فتح" وباقي فصائل منظمة التحرير الفلسطينية عموماً كبيدرٍ ووقتٍ للقطاف؛ وربما يكون هذا واحداً مِن الأسباب التي تفسر النتائج المفاجئة للانتخابات التشريعية والمحلية الأخيرة، لكن يبدو أن مفاجأة "حماس" بحجم فوزها، وما خلقه فك الإرتباط الإسرائيلي مع غزة أحادياً مِن بحبوحة اضافية، قد خلقت لديها حالة مِن الإغترار الإرادوي، أوقعت قيادتها في ذات الوهم الذي وقعت فيه "فتح" وبقية فصائل منظمة التحرير بعد عام 1994، بل ربما بصورة أعلى وأكبر، فقيادة "حماس" لم تكتفِ بالتعامل مع جديد غزة، على أنه بيدر ووقت قطاف، بل ذهبت بعيداً إلى درجة اللجوء إلى خيار حسم ازدواجية السلطة الوهمية في غزة بالقوة العسكرية، تماما كما لو أن السلطة في غزة، هي سلطة دولة مستقلة ذات سيادة كاملة وحقيقية، دون الأخذ بالحسبان أن الفلسطينيين ما زالوا في مرحلة تحرر وطني، وأن غزة ليست أكثر مِن سجن كبير، وأن ماءها وكهرباءها وخبزها ووقودها محكوم بإذن شرطي إسرائيلي على معبر، ودون الإلتفات إلى أن الدبابات والطائرات والصواريخ الإسرائيلية ما زالت قادرة على حرث غزة مِن شمالها إلى جنوبها وقتما شاءت، وكيفما شاءت، وأن إسرائيل في نهاية المطاف، هي اللاعب المبادر والحاسم في لعبة غزة، وأن الإسرائيليين، (على الأقل)، منذ عبارة رابين الشهيرة: "ليتني أصحو لأجد غزة وقد غرقت في البحر"، قد عكفوا يبحثون عن جهة تتولى ادارة شؤون غزة، إنما دون سيادة كاملة وحقيقية، وأن كل اطروحاتهم تجاه غزة كانت تضمر تكريس الفصل بين غزة والضفة، كيف لا؟!!! ألم تكن اطروحة "غزة أولا" هي المدماك الأول الذي قام عليه صرح أوسلو ليغدو "غزة وأريحا أولاً"؟!!! وأكثر مِن ذلك، فإن مِن المفيد إحالة مَن يشك في هذه الحقيقة المرة، إلى ما كان طرحه بن غوريون بهذا الصدد بعد اسبوعين على هزيمة عام 1967، فضلا عما طرحه آلون في مشروعه في ذات العام، وكلاهما طرح مصيراً مختلفا لغزة عن مصير الضفة، ما يؤكد أن فكرة فصل مصير غزة عن مصير الضفة قديمة، وليست جديدة في الفكر السياسي الإسرائيلي، وإن تغيرت أشكال صياغتها ارتباطاً بتحولات الواقع.
على كل حال، على مرارة حصاد ما عاشته النخب القيادية الفلسطينية مِن أوهام حول ما بيدها مِن سلطة، وعلى مأساوية ما أفرزته تلك الأوهام مِن نتائج على الأرض، بلغت ذروتها في النتائج العملية لجنون قرار "حماس" اللجوء إلى حسم السلطة الوهمية في غزة بقوة السلاح، فإن الأخطر هذه الأيام، يكمن في أن تلد هذه النتائج وتداعياتها تقديرا خاطئا وواهما حول طبيعة الخطة الإسرائيلية لاستثمار ما وقع في غزة، أي تقديراً لا يرى أن ثابت السياسة الإسرائيلية هو استباحة كل ما هو فلسطيني، وضرب كل ما هو موجود مِن تنظيمات وشخصيات فلسطينية، سواء المتهم منها بالتطرف أو الاعتدال.
إن مِن شأن الوقوع في هكذا وهْم أن يغطي على حقيقة أن هدف الإسرائيليين هو توظيف ما جرى في مخططهم الجاهز والمعروف لتصفية القضية الفلسطينية، يعطي راهن ميزان القوى بالمعنى الشامل فرصة نادرة لتنفيذه، أو انجاز حلقات نوعية فيه على الأقل. وبالتالي، فإنني أرى أن الإسرائيليين لن يشرِّعوا الأبواب أمام "فتح" ولن يقدموا لها التسهيلات كما قد يتراءى للبعض، كما أنهم لن يغلقوا كل الأبواب أمام "حماس" ولن يحاصروها حتى الموت، بل سيبقون الحياة عند الطرفين ضمن الحدود التي يحتاجها استمرار التطاحن بين الأطراف الفلسطينية في اطار "فخار يكسِّر بعضه بعضا". وأكثر مِن ذلك، فإنني أعتقد أن التظاهر بدعم طرف فلسطيني، هو آلية لضرب هذا الطرف، وليس دعماً له، وإن تراءى على نحو مغاير، وأظن أن هذه الآلية السياسية المموهة لضرب الأطراف الفلسطينية، هي آلية أخطر بما لا يقاس مِن آليات الضرب الفيزيائي المباشر الواضح، وهذا ما يدعو إلى القلق أكثر على "فتح" كتنظيم وطني عريق.
إن كل مَن لا يدرك عمق السياسة الإسرائيلية، سيخطيء ويتوه، وسيقع في فَخِّ خطتها، التي يجب التمييز بين مائها الجاري أفعالاً على الأرض وسرابه، ويجب التفريق بين صيرورتها الواقعية ودخان تغطيتها، ويجب عدم الخلط بين جوهرها ومظاهر تسويقها.
الإسرائيليون معنيون بخطتهم وفرضها، ويرون في توفر مظلة حماية دولية، أمريكية تحديداً، فضلا عن العجز الرسمي العربي، والشرخ الفلسطيني الداخلي النوعي غير المسبوق منذ عقود، فرصة لتمرير مخططهم، وضرب كافة الأطراف الفلسطينية، على طريق تصفية القضية الفلسطينية. هذا هو ماء الخطة الإسرائيلية، ولندع سرابها ينقشع لتنجلي الحقيقة.
في السياق، ومِن باب أخذ العبرة، ربما يكون مفيدا وحري التذكير بحكمة واقعة تاريخية سجلتها في موقع آخر، وتكشف عن عمق بصيرة الخليفة المأمون، عندما جاءته أعرابية مادحة، وقالت: "بيَّض الله وجهك" و"رفع الله كعبك" و"أتمَّ الله ملكك". فقال: "اسجنوها، إنها تشتم خليفتكم". فقالوا: "إنها تدعو لك يا أمير المؤمنين". فقال: "في قولها بيَّض الله وجهك تعني ابتلاءك بالبرص، وفي قولها رفع الله كعبك، أي صلبك أو شنقك، وفي قولها أتم الله ملكك، إنما تشير إلى قول الشاعر: لكل شيء إذا ما تمَّ نقصان". وعندما اعترفت الأعرابية بقصدها المطابق لما أدركه الخليفة، سألوا المأمون: "كيف عرفت ذلك يا أمير المؤمنين"؟!!! قال: "أعرف أنها مِن الخوارج، وما كان "لخارجية" أن تدعو للمأمون أو تمدحه". فهل لإسرائيل أن تدعم طرفاً فلسطينيا؟!!!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. طبيب يدعو لإنقاذ فلسطين بحفل التخرج في كندا


.. اللواء الركن محمد الصمادي: في الطائرة الرئاسية يتم اختيار ال




.. صور مباشرة من المسيرة التركية فوق موقع سقوط مروحية #الرئيس_ا


.. لمحة عن حياة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي




.. بالخريطة.. تعرف على طبيعة المنطقة الجغرافية التي سقطت فيها ط