الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كاردينيا

ايناس البدران

2007 / 7 / 22
الادب والفن


هكذا وجدت نفسها موزعة بين هنا وهناك ، دون ان يكون لمشاعرها دور يذكر ، تتابع الوجوه النحيلة ذات السواعد المعروقة وهي تمارس طقسها الأزلي المقدس في وصل شرايين الحياة ومد جسورها كجنود مجهولة بأنفاس مقطوعة وصبر
لا يصدق .
وهي لاتدري على وجه التحديد أكان حسن الطالع ام سيؤه ذاك الذي نجاها لأكثر من مرة من قبضة التهشيم الهمجية . فقد رأت هناك أنطفاءات الحياة في عيون الخيول وألأ فراس البرية ، وكيف كانت تكبح انطلاقاتها بأسرجة وأعنة وسياط جهنمية نتجت عن تراكم خبرات في المراوغة والعسف والتسويف .
وكيف تستحيل جمار الاماني رمادا يهدد بألأختناق وينذر بالموت البطيء ، كل هذا دفعها للتفكير مليا بالذين يقضون خلف القضبان الصماء دون ان يتسنى لأي منهم ايصال صرخات غضبه واستغاثاته وشتائمه .. لتستحيل مع الوقت انينا مكبوتا لا معنى له .
نعم .. لم تكن الألفة ما دفعها للحنين الى ذلك الجزء القصي من البيت القديم حد الكآبة ، انما الأعتياد ، ذلك الشعور الذي يشبه التسليم بأمر واقع وجد قبلنا او ولد معنا .. شعور يفرض التعايش معه سلميا أو سلبيا وقياس الأمور وفق مسلمات قدرية يمكن لمجرد التفكير في تغييرها أن يوهن الأرادة ويذيب الحماس .
تقبلت حياتها هناك الشبيهه بالدورة الكامله لأصداف البحر حيث الأنزواء حد السكون ، والأكتفاء بالنظر الى الحياة من بعيد ، مثلما يتقبل المؤمن قضاءه وقدره وأسباب سعده وشقائه في الدنيا .
سنين وهي مسمره مكانها لا تبارحه كمسمار علق في لوح منخور ، يتابع ضربات المطرقه اللجوج على رأسه بغضب مشلول كان الزمن يمر بجانبها ويتحول عنها .. كل هذا لم يفلح في وأد بصيص حنين الى شيء مجهول في الجهة الاخرى من الحياة ، ما أنفك يشدها الى رحيل من نوع ما لتترك كل شيء وراءها في موضعه بأنتظار اوبة مزعومة .. لتنسلخ عن جلد هو ليس جلدها ، لتفارق وجوها ألفتها وأخرى لم تكترث لها ، أو حتى لم تعلم بوجودها .. الى اخرى جديدة .
حاجة ظلت تراودها للأرتماء في احضان مجهول غير مبال لتعيش لحظات بلا ذاكرة مشدودة الى نهاية مبهرة حد الذعر ، هربا من نحيب مكتوم لأصداف لم تعد قادرة على ادعاء الحياة .
أعتادت أن تلوذ بحديقة الدار القديمة من عزلة فرضت عليها ردحا حتى استحالت أختيارية بمضي الوقت ! وتصغي لهمهمات الحياة البسيطة وهي تعلن عن نفسها ببراءة وعفوية ممزوجة بحفيف ذؤابات الشجر .
لفت نظرها أن اشجار البيت القديم كانت تعبر عن نفسها بلغة بسيطة تفهمها ،أما شجيرات البيت ألجديد فبدت لعينيها نحيلة متباعدة كأنها في حالة انكماش أو عزوف ، وعزت مشاعرها حينها ألى النفس البشريه وطبيعتها التي تتوجس خيفة من كل جديد .
كان ذلك في آخر مرة زارته فيها قبل الأنتقال اليه بصورة نهائية ، حين استوقفها مرآى شجيرة كاردينيا بدت لها غير آمنه في مو ضعها المحاذي لسكة البوابة الخارجية ، والتي كانت تهدد بسحق اغصانها الغضة كلما تدحرجت عجلاتها الفولاذية ما بين فتح واغلاق .
وتذكرت ما أخبرها به والدها يومها من أن هذه النبتة دائمة الخضرة تدخر ازهارها اللؤلؤية لتظهرها مرة واحدة في العام .
والفكرة التي عنت لها حينها هي ان هذه الشجيرة لا تعير التفاتا للبوابة الشرسة ، وانها تخبيء كل جمالها وأريج أزهارها لتظهره دفعة واحدة كالدنيا تماما .
الأمر الذي دفعها للتساؤل عن امكانية اطلاق رصاصة الرحمة على زمن ولى بكل جراحاته واخطائه الخرقاء وافكاره الفجه وعن جدوى تغيير الامكنه مع نفس استوطنها الحزن وأغرقها في لجته .
ودت حينها لو تحصي عدد البشر الذين يشاطروها الهواء لتشاركهم حياتهم الفقيرة
الا من فتات احلام وشظايا خيبات امل ومر صبر ونتف افراح لتعيش من خلالهم اكثر من حياة ربما لتعوض ما فاتها من تلك الهبه التي لم يقدر لها التمتع بها فتسربت من بين اصابعها وانسابت انسياب الدم من جرح مميت .
شعرت بحواسها تزداد رهافة وهي تبسمل لتجتاز – بقدمها اليمنى – عتبة الدار الجديدة متجاوزة ذبيحة نحرت استجلابا للبركة والبهجة لأكباد كانت ترقب المشهد متلهفة تلقف حصتها من اللحم الطري .
نظرت حولها فيما الشمس ترسل آخر شعاعاتها الفضية دفئا عبر مصاريع النوافذ ممزوجة بزقزقات العصافير، بحثا في الفضاءات المحددة عما تخبئه الأيام .. تنهدت اذ عبق المكان أريج عطر مسالم ناصع البياض لزهرة كاردينيا .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي