الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إدوارد سعيد: موقف ثقافي أصيل

حسن ميّ النوراني
الإمام المؤسِّس لِدعوة المَجْد (المَجْدِيَّة)

2003 / 9 / 29
مواضيع وابحاث سياسية



الدكتور حسن ميّ النوراني
الموقف الذي اتخذه فقيد الفكر الإنساني إدوارد سعيد من المثقفين الفلسطينيين الذي رضوا بالانخراط في السلطة الفلسطينية التي قامت على أرضية اتفاق أوسلو يكفي لأن يجعل منه مفخرة للثقافة العربية خاصة والثقافة الإنسانية عامة.
جوهر الثقافة غير جوهر السياسة. والذي يقبل من المثقفين أن ينخرط بولاء في سلطة سياسية أو أية سلطة اجتماعية أخرى يخون أمانة المثقف التي لا شيء هي سوى أنها موقف مستقل إزاء سلطة تكرس مهمتها للدفاع عن مصالح الطبقة المهيمنة أيديولوجيا أو اقتصاديا.
في الحالة الفلسطينية غاب دور الموقف المستقل عن السلطة بمفهومها الشامل للجوانب السياسية والأيديولوجية والاقتصادية والاجتماعية. ولاعتبارات تتعلق بمصالح فردية ضيقة لكل مثقف على حدة، اختار غالبية المثقفين الفلسطينيين الانزواء في الركن الآمن لكي يحافظوا على مكتسب مادي أو معنوي (كرسي الوظيفة) سيهدده الخطر إذا غامر أي منهم بإعلان موقفه الصريح إزاء ما هو سائد في الحياة الفلسطينية على كل أصعدتها.
ارتكزت سياسة رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات منذ بواكير حياته السياسية على شراء الولاء له بالمال. اشترت السلطة الفلسطينية ولاء غالبية المثقفين بما فيهم مثقفون محسوبون على الاتجاه اليساري الراديكالي (كوادر من الجبهتين الشعبية والديمقراطية لتحرير فلسطين) ومن غيرهما بمن فيهم مثقفون راديكاليون إسلاميون بوظائف رفيعة في الجهاز الإداري لمناطق السلطة الفلسطينية. كان الولاء والواسطة الشخصية – ولا زالا – هما وحدهما المؤهلات المطلوبة للفوز بتوقيع الرئيس عرفات الذي لا غنى عنه لاحتلال موقع وظيفي.
وقع المثقفون الفلسطينيون أسرى الولاء لرب النعمة الذي هو رأس الهرم السياسي الفلسطيني. هذا الولاء يحرم المثقف من الاحتفاظ بجوهر دوره المتمثل في الوقوف المستقل إزاء ما هو مهيمن. وتحول المثقف الفلسطيني – شأنه في ذلك شأن المثقفين العرب الآخرين – إلى ترس في عجلة ما هو سائد.
الموقف الثقافي موقف نقدي تجاه ما هو سائد. لا أقول موقف يهدم ما هو سائد؛ لكنه موقف لا يسلم رأسه لما هو سائد. المثقف الفلسطيني يسلم رأسه لديوان الموظفين الذي يصرف له مرتبه الشهري، ولا يترك رأسه حرا يحلق في الأفق المعرفي النقدي الذي يواجه بوعي مسلمات السائد وينفض تراكمات الفساد عليها، ويبعث الروح في المجتمع..
في تجربتي الشخصية المتعلقة بتأسيس "جماعة حق البهجة – حب" صدمتني روح مهزومة تستشري في أوصال المثقفين الفلسطينيين. خذلوني. وعندما كان بعضهم يعدد مساوئي كان يذكر منها أنني أنا الذي قمت بتأسيس "جماعة حق البهجة – حب".
مثقف فلسطيني "هام" في غزة، واجهني بالتعليق التالي عندما عرضت عليه الانضمام للجماعة، قال: "نحن هنا في مزبلة كبيرة؛ وأنت تدعو لأن تزرع شجرة ورد في هذه المزبلة" وتساءل مستنكرا: "هل يمكن لنا أن نزرع في مزبلتنا الكبيرة شجرة ورد؟!" وأجاب: "كلا.. كلا"!!
كان رأييي هو أن "مزبلة بشجرة ورد أفضل من مزبلة بدون هذه الشجرة". رأى المثقف "الكبير" أنني حالم. ثم نصحني أن أحمل دعوتي إلى بسطاء الناس لا إلى المثقفين!.. "أنا أعترف أنني مهزوم" قال المثقف الذي يحتل مقعدا وظيفيا يكلف الشعب الفلسطيني ذي الأغلبية الفقيرة ما يقارب الألف دولار كل شهر.
المثقف حالم بطبعه.. المثقف مناضل في وجه الإحباط؛ لأن الفعل الثقافي فعل روحي. والفعل الروحي متفائل ومقدام وجسور وجريء ومتفوق على ما هو سائد. قبول المثقفين الفلسطينيين برهن فاعليتهم للسلطة يجرد هذه الفاعلية من الروحية.
الفقيد إدوارد سعيد انتقد عمل المثقفين في السلطة وانتقد أوسلو أيضا التي فتحت الباب أمامهم للانخراط في دولاب السائد. اتفاقية أوسلو أنهت ثورية الحركة الفلسطينية فصارت الأخيرة نظاما سياسيا يكرس النظام الاجتماعي الثقافي السائد الذي يجب على المثقف أن يواجهه وأن يتفوق عليه. مهادنة ما هو سائد سياسيا واجتماعيا، موقف التزم به المثقفون الفلسطينيون المجندون في جيش السلطة الوظيفي. بذلك، استحق المثقفون الفلسطينيون السلطويون نقد مفكر أصيل يحق للحركة الثقافية الفلسطينية والعربية والإنسانية أن ترى فيه ممثلا صادقا لها.
المثقف الفلسطيني يرهن رأسه بالحالة الفلسطينية السياسية وما يلازمها من حالة أيديولوجية اجتماعية موروثة واللتان تشددان على أن المرحلة الراهنة هي مرحلة "تحرير الأرض وأن لا صوت يجب أن يعلو فوق صوت النضال لتحرير الأرض". لدى المثقف الأصيل، لن يكون شعاره هو تحرير الأرض فقط؛ الأرض لا تعي الفرق بين هذا وذاك من أبنائها. شعار المثقف الأصيل هو: تحرير الإنسان. وتحرير الإنسان يشمل تحرير أرض الإنسان من كل أشكال الظلم والجهل والقهر. قضية المثقف الأصيل أعمق من قضية السياسي أو الأيديولوجي. الثقافة الأصيلة فوق السياسة وفوق الأيديولوجيا وتجسداتهما. الثقافة الأصيلة هي فعل الروح الإنسانية التي لا تهادن ظلما ولا جهلا ولا قهرا. المثقفون الفلسطينيون الذين انتقدهم إدوارد سعيد لا يحملون رسالة الروح الإنسانية: روح المعرفة المستنيرة والحرية والحب والعدل والنماء والسلام والجمال والكرامة.
المثقفون الفلسطينيون المنخرطون في السلطة الفلسطينية؛ كما المثقفون العرب العاملون في سلطات بلادهم هم خدم سياسة وحالة اجتماعية تقف حجر عثرة أمام انطلاقة جديدة للروح.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المنتخب الإنكليزي يعود من بعيد ويتأهل لربع نهائي مسابقة أمم


.. أسير محرر يتفاجأ باستشهاد 24 فردا من أسرته في غزة بعد خروجه




.. نتنياهو في مواجهة الجميع.. تحركات للمعارضة الإسرائيلية تهدف


.. أقصى اليمين في فرنسا يتصدر الجولة الأولى للانتخابات التشريعي




.. الغزواني يتصدر انتخابات موريتانيا