الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الشفاهية..الداء المستعصي في الثقافة العربية الحلقة 3

ثائر العذاري

2007 / 7 / 27
الادب والفن


منزلي في مدينة الصويرة وهي مدينة عراقية صغيرة تقع على نقطة ساحرة من ضفة نهر دجلة 50 كيلومترا الى الجنوب من بغداد. بيتي يقع قرب أحد المساجد ، وفي أحد الأيام كنت أستضيف أحد الأصدقاء وهو أكاديمي واعلامي معروف من بغداد، وفي الوقت الذي كنت أهيئ فيه المائدة للغداء كانت مكبرات صوت المسجد تملأ البيت بصوت الخطيب في صلاة الجمعة ، سألني صاحبي : لماذا يرفع الخطيب صوته بهذه الطريقة على الرغم من وجود أجهزة التكبير الصوتي؟ أجبت بسرعة ومن غير تفكير : الإرث الشفاهي يا صديقي ، هذا الخطيب يحاول الاستيلاء على انتباه المصلين ونيل اعجابهم ولذلك تراه يصم اذانهم حتى لا يستطيع احدهم ان يسمع الا صوت الخطيب ، وأكاد أجزم أنه يراقب انفعالتهم ويهتز طربا لتجاوبهم معه.
في الحقيقة كان جوابي عفويا وسريعا ولكني بعد أن فكرت بالسؤال والجواب مليا توصلت الى نتيجة مرعبة ، هل تعلم أن الشفاهية واثها المخيم على منظومتنا المعرفية من أهم عوامل ثقافة الاستبداد السائدة في مجتمعنا؟
ثمة معطيات لابد من عرضها أولا؛ أولها أن الرواية تولدت في بدايتها كنتيجة حتمية للدرس الديني ومحاولات بناء أسس راسخة لفهم القرآن الكريم ، وثانيها أن أول المرويات كانت الحديث النبوي الشريف . هذان الأمران أكسبا صنعة الرواية قدسية كبيرة لا تضاهيها قدسية أخرى.
ما حدث بعد ذلك أن تلقي المرويات كان لابد أن يتم في المسجد ليناسب المكان قدسية الموضوع، وهكذا نشأت حلقات الدرس الأولى ؛ شيخ يروي رواياته ويحفظها للجيل التالي ، وعلى هؤلاء المتحلقين حوله أن يستمعوا ويحفظوا ويقدموا كل فروض الولاء والطاعة والتبجيل والتقديس للشيخ حافظ كتاب الله وسنة نبيه ، وطبعا لا يحق لهم الكلام والتعليق لأن هذا يبطل ثواب الرواية كما يبطل الصلاة.
هذا التقليد قرّ واستمرّ حتى بعد أن امتدت الرواية لتشمل الخطب والشعر وكلام العقلاء والمجانين . وبطون أمات الكتب مليئة بالقصص الشائقة عن علاقة التلاميذ بالشيوخ ، فالتلميذ عندما يصبح شيخا لا يجوز له أن يتحدث من بنات أفكاره بل لابد له أن يقول حدثنا فلان عن فلان .
أمر آخر لا يمكن اغفاله ، انظر وتأمل المجالس الدينية من خطب الصلات الى مجالس المواعظ والعزاء ؛ تراها مبنية على ذات الأسس متحدث مهيب في موضوع مقدس في مكان مقدس ومستمع مستسلم لا يحق له الا البكاء اذ ليس من حقه مناقشة ما يسمع بل لا يحق له التفكير بما يسمع لان عقاب الآخرة ينتظره.
المغالطة التي لابد من تأملها هنا هي الشمولية المهولة لهذا الاسلوب في التلقي ، علوم الدين تختلط بعلوم الدنيا وبكل مناحي الحياة مهما صغرت. والمهم في كل هذا هو التلقي السلبي أو الاستلابي الذي يفرضه نظام الشفاهية علينا ، فأنت من غير أن تشعر ترضى بالاستبداد وترى أن من حق المستبد أن يصادرك ويفكر نيابة عنك ويبرمج تفكيرك كما يريد. ومع مرور مئات السنين صارت ثقافة الاستبداد ثقافة شعبية لا غبار عليها.
ولما يزل للحديث بقية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المراجعة النهائية لطلاب الثانوية العامة خلاصة منهج اللغة الإ


.. غياب ظافر العابدين.. 7 تونسيين بقائمة الأكثر تأثيرا في السين




.. عظة الأحد - القس حبيب جرجس: كلمة تذكار في اللغة اليونانية يخ


.. روبي ونجوم الغناء يتألقون في حفل افتتاح Boom Room اول مركز ت




.. تفاصيل اللحظات الحرجة للحالة الصحية للفنان جلال الزكى.. وتصر