الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أحزان وأحقاد

صبحي حديدي

2003 / 9 / 30
اخر الاخبار, المقالات والبيانات


 

رحيل إدوارد سعيد أصاب الملايين، في مغارب الأرض قبل مشارقها، بحزن عميق امتزج بإحساس ــ لا يقلّ عمقاً، على الأرجح ــ بأنّ الإنسانية خسرت عَلَماً كبيراً وضميراً فريداً وطاقة عطاء استثنائية. الأسباب كثيرة، بل ليس من المبالغة القول إنها لا تُعدّ ولا تُحصى، إذْ قد يكون لكلّ امرىء أسبابه الخاصة في احترام الراحل، سواء في الاختلاف أم في الاتفاق.
غير أنّ الآلاف، وليس في هذا القول مبالغة هنا أيضاً، تنفسوا الصعداء لأنّ هذا الطود الشامخ غاب عن المشهد، وغابت معه سلطته السجالية ـ النقدية، العالية الجبّارة، الأخلاقية والفكرية والثقافية والسياسية. ولقد أراح رحيل سعيد أولئك الذين لم يعرفوا طعم الراحة في حضوره، حين كانت جهودة الشجاعة والمبدئية واللامعة تفضح أنساق انحطاطهم كافة، وتنقلب إلى سيف مسلط على رؤوسهم... منه اليوم يتحررون!
ولعلّ المرء لا يبالغ، للمرّة الثالثة، حين يتلمّس مظاهر هذا الارتياح في بعض المراثي التي دبّجها خصومه (حيث لا تخفى الأحقاد حتى في الجملة الطافحة نفاقاً وتدجيلاً وكذباً)، أو في الامتناع ببساطة عن أيّ تعليق حول منجز الراحل. خذوا، علي سبيل المثال الأوّل الفاقع والساطع، تعليق برنارد لويس حين سُئل عن رحيل سعيد، فأجاب: De mortuis nihil nisi bonum! لقد فضّل بطريرك الإستشراق المعاصر الذهاب إلى اللغة اللاتينية لكي يختصر جوهر موقفه: عن الأمـــــوات لا تُقال ســــوى الأشياء الطيّبة. بالطبع لا يقصد لويس المعنى النبيل الذي ينطــــــوي عليه الحديث الشريف طأذكــــروا محاسن موتاكمط، بل يقصد العكس تمـــــاماً: لا أملك حول سعيد سوى الأشـــياء غير الطـــــيّبة، وما دامت الأشـــياء الطيّبــة هي وحدها التي تُقال عن الأموات، فلا تعليق لديّ على رحيله!
أو خذوا، في مثال ثان، سوء طوية تحرير صحيفة الـ "غارديان" البريطانية، التي وضعت جانباً عشرات الكتّاب المساهمين في صفحاتها، ممّن كتبوا مراراً وتكراراً عن سعيد وراجعوا أعماله ويعرفونه حقّ المعرفة، وعهدت بمهمّة رثائه إلى واحد من ألدّ خصوم الراحل، والذي تشاء المصادفة (أهي حقاً مصادفة؟) أن يكون يهودياً أيضاً، وأحد كبار كارهي الإسلام والمسلمين: عشية الحرب على أفغانستان، وبعد أسابيع معدودات على 11/9، كتب في الـ "غارديان" ذاتها يقول: حاذروا من أسامة بن لادن، إنه صلاح الدين الجديد القادم لتحرير المسلمين من أهل الغرب الصليبيين!
وماليز روثفن (أو، لكي لا يغضب منّا، ماريز روفين كما في اللفظ الإسكتلندي الصحيح لاسمه وكنيته) لا يكفّ عن دسّ السمّ في الدسم وهو يرثي إدوارد سعيد: الناقد الأكبر لوسائل الإعلام الأمريكية، ولكن الـ "سوبر ستار" في دفاعه عن القضية الفلسطينية؛ الإنسيّ الذي يتكيء على فلسفة عصر الأنوار الأوروبية، ولكن الإنسي الذي يهاجم تحالف فلسفة الأنوار مع مؤسسة الإستشراق الإستعمارية؛ والعلماني الذي يكره الحركات الأصولية، ولكن العلماني الذي جلب نقده للغرب الراحة كلّ الراحة للأصوليين؛ وعضو المجلس الوطني الفلسطيني منذ العام 1977، الذي حمل عبء الصياغة الإنكليزية لإعلان الجزائر 1988، ولكن الرجل الذي استقال من المجلس ورفض اتفاقيات أوسلو وانقلب إلى شوكة في خاصرة السلطة الفلسطينية...
أهذه تناقضات تُحسب ضدّ الراحل، أم مزايا تُحسب له؟ ماريز روفين لا يتورّط في إطلاق أيّ من أحكام القيمة، ما خلا النقد الخفيف الخجول لكتاب "الإستشراق". ولكنه في الآن ذاته يرسم صورة مستترة لا تقوم باستذكار الراحل، خيراً أو شرّاً، بقدر ما تحاول تهديم شخصيته ومنجزه على نحو مستتر موارب غير مباشر. ثمة مثلاً إشارة عابرة، وجيزة وسريعة ومبتسرة، إلى موقف سعيد من موسيقي فاغنر (في "مقالة لامعة" حسب روفين!)، يتلوها عىي الفور استنتاج خبيث بأنّ الراحل كان يفصل بين الموسيقى والرسالة الإيديولوجية لصاحب الموسيقى، أي أنّ فلسفة فاغنر في العداء للسامية لم تكن تعني الراحل في شيء!
وذات يوم كتبتُ، في هذه الصحيفة، أهنيء سعيد بعيد ميلاده الستين. ولقد تحدّثت عن عمر حافل لامع غصّ بالتوابع والزوابع حتى كاد يختنق، وتزاحمت في مساراته محطات ومنعطفات وأطوار نَفْس كبيرة قسّمت نفسها في جسوم كثيرة، حتى تعب في مرادها الجسد، واشتكت العروق التي تضخّ الدم والقلب في القلم والورقة والمنبر. وقلت إنّ "الفلسطيني الطائر" يحطّ علي حجر يحمل الرقم الستين، ويرسم المزيد من تضاريس التاريخ والجغرافيا، دون أن يطوي شوكة الأسئلة العميقة المريرة التي طرحها محمود درويش ومنها استلهم سعيد عنوان واحد من أجمل أعماله: إلى أين نذهب بعد الحدود الأخيرة؟ أين تطير العصافير بعد السماء الأخيرة؟ أين تنام النباتات بعد الهواء الأخير؟
آنذاك اتصل بي الراحل من نيويورك، وقال: أليس كثيراً عليّ لقب "الفلسطيني الطائر"؟
التاريخ تكفّل بالإجابة كما أعتقد، وكذلك تكفّلت به أحزان السواد الأعظم من الناس، مثل مباهج القلّة القليلة من الحاقدين.

 

 








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مقتل 6 فلسطينيين في هجوم عسكري إسرائيلي على مدينة جنين بالضف


.. الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية الفرنسية: تابعوا النت




.. بريطانيا: سوناك يقر بهزيمة حزبه ويستقيل من زعامة المحافظين


.. عواصف رملية، جفاف، تصحر.. الوضع حرج في العراق! • فرانس 24 /




.. صورة حقيقية لطائر فلامنجو -بلا رأس- تثير ضجّة بعد الفوز بمسا