الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مناديل العنبر

ايناس البدران

2007 / 7 / 28
الادب والفن


- عيناك جميلتان .
الدهشة تعقد لسانها ويحتقن وجهها بحمرة الخجل ،المدى يفتح ذراعيه باسما وهي تستقبل بكل جوارحها اولى كلمات الغزل تنثال عليها كعقود الآس والياسمين ، وممن ؟ من ديك العنبر ،كما كان يحلو لهن تسميته فيما بينهن ، في لحظة ودت لو تمتد حتى آخر العمر .
ههمات البنات تتباعد ومعها اصوات المكائن التي كانت تطرق سمعها اليفة رتيبة كنبض حياة.
لم تكن لديها فكرة عن الزمن الذي كان يمر بها ويتحول عنها تاركا لها بقايا من طفولة في ذلك المكان الضاج بكل شيء حتى لكأنه البقعة التي تتشكل فيها الحياة و النقطة التي يبتدئ عندها العالم وينتهي .
بحركة مفاجئة سحب يدها الممدودة له بكوب الشاي الساخن ،وصار يرقب بتلذذ بخاره وهو يلسع اصابعها اطراف قلبها وثوبها و الارضية المفروشة بالموكيت .. ليفلتها بعد هنيهة وفي عينيه ابتسامة ظفر.
الذاكرة تشهق ذات حزن و الفرحة توأد في صدرها حين تولد فالجملة ذاتها سمعتها قبل عام وفي ذات المكان كان يهمس بها لفتاة سمراء في نفس العنبر حينها صار طيفه يطاردها كأضواء السيارات على نحو اربك عقلها البريء.
كانها تعيش زمنا آخر وراء الزمن ومع كل كان ثمة ذاك الاحساس الخفي الذي طالما شدها الى تلك الجماعة بعينها مثلما ربط بعضهم ببعض –رغم الاختلافات – كطوق نجاة او رباط مقدس دون حاجة لطرح الاسئلة .
عيون البنات تسرح مع اغنيات الحب المتقطعة التي يجود بها المذياع المصدور ، لتظل عالقة في الاجواء كذرات غبار ، احلاما وحشية ما اسرع ما تتناثر بين ايديهن كالمناديل التي شاءت الاقدار ان تكون مصدر رزقهن في ذلك المكان المنسي .
هي مثلهن مجرد رقم من بين الارقام الكثيرة الداخلة و الخارجة بصمت مريب ، ورغم ان ايامها كانت تسرق بعضها على نحو ما الا انها ظلت تشعر انه ما من شيء ضائع او منته تماما ، فكل شيء كان يقود الى اخر ليتخذ معنى ومغزى .. كل شيء يبقى ممكنا .
عيناها تتابعانه على استحياء وهو يمشط العنبر يسبقه صوته المميز متصيدا الاخطاء او وهو يوزع الاوامر والآراء فيثني على هذه ويوبخ تلك ، كان كل ما فيه يدعوها للانجذاب اليه ، حتى شتائمه كانت تتبدى لها كقطرات عصير سقطت سهوا على مفرش نظيف !
كان شلال حياة ينثر شموسا حيثما حل تضيء تدفيء وقد تحرق ، لذا ارتعد جسدها كله حين باحت لها نفسها بالحقيقة لاول مرة :
- انت تحبينه.. فتنهدت وغمرها استسلام لشعور خفي عذب ، وادركت بغريزة الانثى ان فصلا مثيرا من حياتها قد ابتدأ .
وهكذا قادتها خطواتها الخجلى الى حيث يزدحم طابور البنات في فسحة الغداء للأستماع لما تجود به شفتا الحاجة أم مزهر التي كانت تؤكد في كل مرة ان قراءة الفنجان ليست حراما ما دامت لاتأخذ مقابلها نقودا ، لكنها كانت تقبل بالهدايا الصغيرة التي تجود بها ايديهن اذا ما تم المراد !
شعرت ان العجوز تشويها بنظراتها وهي تسألها بفضول :
- منذ متى تهتمين بهذه الامور ؟ حسنا اشربي فنجانك .. واقلبيه .. اجل هكذا.
طوفان من المشاعر يجتاحها ، مزيج من لهفة وحياء خوف يداهن شعورا مضطربا بطمأنينة زائفة ، وطيف تلك الفتاة يطفو متماوجا حزينا على سطح ذاكرتها ليعذبها كوخز ضمير – وهي الي غبطتها فيما مضى – لتستعيد مرآها مرارا وهي ممسكة بقميصه وتهمس به وسط دموعها :
- تغيرت
فتنبعث من ركام الذاكرة قصة روتها المعلمة حين كانت في المدرسة عن ليلى الصغيرة التي شقت طريقها وسط الغابة الموحشة ، وكم اراحها ان الذئب لم يفلح في التهامها لسبب لم تعد تتذكره .
في الاستراحة تتأمله وهو يلهو مع العمال بالكرة ويركلها بقدمه ببراعة لا تجارى لتبلغ اعلى نقطة في السماء ثم وهو يتابعها بنشوة حين تهوي لترتطم على نحو مؤلم بالارض معفرة بالتراب .
لاتدري لماذا تبدت لها الكرة قلب تلك الفتاة دامعة العينين . ذات يوم ربطت جأشها وسألته :
- لماذا تركتها ؟ اجاب بلا مبالاة ..
- لأنها لاتعني لي شيئا
- اذن لماذا كنت ....
قاطعها وعيناه تقدحان غضبا قائلا :
- اصبحت تكثرين من الاسئلة .
رأسها كرة من نار تتناهبه الافكار بحثا عن اجوبة لاسئلة بلا معنى ، تحدق في الجدار حتى تتراءى لها ذراته كدبيب نمل تتخلله خيوط عنكبوتية صفراء تكاد لاترى .
ضجيج المكائن لم يعد يفلح في اخماد فوضى الحيرة داخل رأسها .. تتأمل المناديل الكثيرة حولها ، وكم هي رقيقة لدرجة العطب لأدنى سبب ، مناديل من كل لون ونوع تهب كل شيء مقابل لاشيء لتنتهي في سلة المهملات .
كان الكل من حولها متعطشا لحياة اخرى لدرجة الهته عن حياته .. الا هي كانت تعيش وترى كل شيء من خلال عينيه العميقتين الباسمتين حتى وهو غاضب !
كانت مشاعرها تجاهه تربكها ، تختلط ، تتفرع ، تبتعد ، لتلتقي فيها جميع انواع الحب .
المذياع يقرقر من بعيد ، صوت المذيع يعلو قليلا ليقول :
- سيظل عصيا على ... صامدا في وجه .
ليختلط بصوت ام مزهر وهي تتأمل الخطوط البنية المتعرجة لتخرج الكلمات من فمها الادرد كمن يلفظ نوى ثمار حامضة
- لا أرى في فنجانك غير فراق .
ضجيج المكائن يختلط بصوت المذيع من جديد وهو يختتم خطبته الرنانة
- هذه النار التي لا ولن تنطفيء
بقلب كسير تتابعه وهو يهمس للوجه الجديد بذات الجملة ، والعينان تومئآن له بالقبول .
البنات مازلن يحشرن ايامهن بصمت في العلب الكارتونية فيما اغنياتهن تسرح في الجو آهات من حنين ورماد ليغيبها الضجيج او لتنبجس دموعا تمسحها على عجل أناملهن المتشققة بما تلفظه المكائن من قصاصات .
تعيش معهن دوامة الحياة الأزلية ، الدوامة التي ابتدأت قبلهن والتي ستدوم بعدهن لأطول وأطول من السنين والتي ستنسى وجهها بعد حين مثلما نسيت كل الذين مضوا .
- فراق لاشيء غير فراق ... عيناك جميلتان .
تسري في جسدها رعشة اذ تستذكر انفاسه المغسولة بنكهة الشاي والتبغ ، صوته المترع .. الذي كان مترعا باللهفة .. واليوم بودها ان تنام ، تنام كي لاتحلم به ، لتنسى من ايقظ فيها ما يصعب نسيانه ، توقفت ايامها عند اعتابه وتجاهلت عيناها ماعداه .
ليس ثمة ما يحيط بها غير خواء يترجم صمت الدمى ، ومناديل كثيرة من كل نوع ، مناديل تكفكف عرق الخيبة .. مناديل تشرق بالدمع .. مناديل تلوح بالوداع .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي