الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زهور بلاستيك رواية الفصل العاشر

شريف مليكة

2007 / 7 / 28
الادب والفن



الموت.. والحياة

لو تعرف الخلق.. ويا الخلق تتواجد
وان تبتعد بيهم خطاهم.. تانى تعود وتتواعد
ده ما بين يومين الحياة ويوم الموت.. لحظة
والعيشه خيط دخان.. شويتين بــيــبان.. بعدين بيتصاعد

غاب عامر عن الوجود..
أسبوع..
رافقته فيها خلال رحلته التى ذهب ليأتى منها بإجابات عن كل أسئلته.. جالس أنا أتأمل صمته الهادئ، وهو راقد فوق سريره بالمستشفى يبحث عن باب يعود من خلاله إلينا بكل الردود.. تناوبنا الإنتظار بجانبه أمينة زوجته، وإيزابل، وأنا.. ومر لقائى بأمينة بسلام، ربما إحترامًا لحضور عامر وسطنا، تغلبتُ به على غريزتى المتأصلة..

وفى اليوم السابع كح عامر..
نعم كح كحتين متعاقبتين ثم فتح عينيه، وتمتم بكلمات قليلة مضغمة.. كانت نحو العشرة مساء وكنت جالسًا بمقعد بجانبه غافيًا ربما، أو ربما كنت سارحًا فى لا شئ.. إنتفضت من مجلسى تلقائيًا، ثم هرعت لباب الغرفة صارخـًا أستدعى الممرضة.. جاءت فى لحظة وفى يدها أنبوب بلاستيك رائق، غرسَته فى فمه وإذا به شفاط يسحب المخاط المتراكم بفمه، من طول السكوت فيما إعتقدتُ.. أسبوع من الصمت عند عامر كفيل بتكدس الكلمات بفمه ثم إلتحامها، بعد ذلك الركود المتــَّصل، فى شكل سائل لزج تجمَّع مع الوقت حتى كاد أن يخنقه!..

ثم بعدها بثلاثة أيام بدأ الكلام يتدفق بسلاسة من جديد.. وحكى عامر عما حدث فى عصر ذلك اليوم، على مسمع منى ومن أمينة وإيزابل..

كان عائدًا من عمله كالمعتاد، راكبًا الأتوبيس، وعند محطته نزل فوجد سعدالله الشاب العراقى فى إنتظاره.. ألقاه السلام بإبتسامة إعتاد لقاءه بها، ومستفسرًا عما أتى به، حيث لم يسبق وأن قابله عند محطة الأتوبيس قبلا، فما كان منه إلا وأعلمه أنه مرسل من طرف الشيخ غنيم، حيث أنه يرغب فى مقابلته على الفورلإصلاح ما بينهما.. وعلى بعد خطوات كانت تنتظر سيارة يقودها رجل ذو لحية سوداء كثيفة لم يتعرف عليه عامر حيث لم يره من قبل، وجلس بجواره بالمقعد الأمامى زوج إبنة الدكتور خطـَّاب الذى لم يكن رآه منذ مدة طويلة، حتى أنه كان قد نسى إسمه.. إتخذ عامر وسعدالله الأريكة الخلفية، وإنطلقوا فى طريقهم.. بقى أربعتهم صامتين، إلى حين لاحظ عامر أن السيارة تتجه بهم بعيدًا عن منزل الشيخ، فعلق هو على ذلك متسائلا، فتعلل سعدالله بأن هناك حادث بالطريق المعهود يحاولون تفاديه..

وعند جانب الطريق السريع الخالى من السيارات تقريبًا فى ذلك الوقت، توقفت السيارة، وإذا بنسيب الدكتور يستدير نحوه ويقول:
ـ "الشيخ بيبلغك بأنه فاض بيه منك ومن كلامك إللى بتزن بيه على ودان الخلق يمين وشمال.." فبوغت عامر بكلامه، وإن رد عليه الفور ببديهته السريعة:
ـ "وإنت مين كلفك تتكلم عن لسان الشيخ غنيم؟ كلها شويه ونوصل عنده، ويبقى هو يقول لى كل إللى عاوز يقوله" ولكن الرجل أصر على إستثارته بقوله:
ـ "لأ ماهى دى آخر السكة ياروح أمك!.."
وإذا به فجأة يطوح قبضته فى الهواء بين المقعدين، ويكيل له لكمة من الوضع جالسًا تدفع برأسه جانبًا ليصطدم بزجاج النافذة المجاورة له. وفى لحظة كان الرجل قد غادر السيارة وإلتف نحو بابه وفتحه، فى حين قرفص سعدالله بقدميه، ثم فردهما ملقيًا بضربة قذفت به من خلال الباب المفتوح، ليتلقاه الرجل الأول فيكيل له اللكمات والركلات بكل جزء من جسده، إلى حين لحق به سعدالله وقد رفع بماسورة معدنية ثم هوى بها على رأسه ففقد الوعى ولم يستعده ثانية إلا بسريره فى المستشفى.. لم يتذكر إذا كان الأمركله قد إستغرق أكثر من بضعة دقائق، فقد بعدها طحاله، وتربنت جمجمته، وووضعت ذراعه فى الجبس، ومن فرط المهانة التى حلت به هرب فى غيبوبة لمدة أسبوع.. كمثل زلزال مر بحياته العادية، وفى خلال ثوان قليلات تركت هزاته المدمرة تغييرات بحياته سوف تلازمه من فرط هولها إلى آخر أيامه، ثم إلتف أقرب الناس حوله بعدها يدعونه إلى أن يكون شاكرًا حيث أنه، وبالرغم من كل ما جرى، لم يزل بعد حيَّا !..

فور إنتهائه من السرد، سكن عامر ليلتقط أنفاسه حيث كان يصف لنا الواقعة بإنفعال متوقع بعد ما حدث، مستعينـًًا بكل جزء من جسده كان يستطيع تحريكه عندئذ..
وكان رد فعل أمينة هو الأسرع، فقد بادرته بشهقة لازمت آخر كلماته، أعقبتها بصرخة مدوية من طراز (يالهوى ياخووويا!)، ثم إنهارت فوق صدره مولولة.. أما هو فأخذ يربت على رأسها بحنان، حتى بدت وكأنها نامت فوق صدره..
وبعد أن سكن أداء أمينة الهيستيرى، قالت إيزابل معقبة بنبرة واضحة، وإن كانت مفعمة بهدوء قاطع:
ـ "يجب أن نبلغ البوليس على الفور.. هذه جريمة شروع فى قتل، ويجب عقاب مرتكبيها، والمحرضين عليها على السواء.. هذا بلدٌ يحكمه القانون، ولايجوز أن تمر هذه الجريمة بدون عقاب مرتكبيها.. هذا رأيى، مع إحترامى لأى رأى آخر، حتى وإن كان مخالف"..
وتقوقعت أنا فى صمتى، أتفكر فيما سوف أعقب به، فقد جاء دورى للتعليق، وإن لم تتبلور بعد ردة فعلى..
فبينما أنا مقتنع تمامًا برأى إيزابل، إلا أننى شعرت بأنها فى رأيها القاطع ضد العدوان الذى تعرض له عامر، إنما كانت تدافع من خلاله عن نفسها، هى شخصيًا، ضد كل الإعتداءات التى تعرضت لها فى الماضى، قبل أن تحمى عامر من شر ضاربيه..
أما عن أمينة فقد تعاطفتُ معها، لأننى أحسست أنها تبكى بصدق ما آل إليه حال زوجها، الرجل الصعيدى الشهم المطعون فى كرامته، وتبكى موقف الجامع منه من الآن فصاعد، ومن ثم منها، فبكت شعورها بالمهانة والإرتباك ومرارة الخسارة حيال كل ذلك..
ولكننى، وقبل كل ذلك، إعترانى شعور جامح بالإضطراب، لمجرد أن الفكرة فى إبلاغ المسؤولين كانت بشأن إعتداء له خلفية "دينية".. شعور متأصل يرفض تلك الفكرة من أساسها، لما قد تكون عقـِبات تلك الشكوى.. إحساس قديم ومتغلغل فى أعماقى، تمتد جذوره لـ "آبا" وللحاج شرقاوى، ولأمى وعائلة المصرى برمتها، لم تقو سنون الهجرة على إنتزاعه منى.. نوع من الجبن أو الحيطة ألجم لسانى فلم أعلق.. برغم نظرات عامر المتسائلة للحظات، أشاح بعدها بوجهه بعيدًا، إذ فهم ما كان يعترينى من أفكار دون أن أنبس بكلمة.. كانت تلك هى معانى الصداقة الممتدة فيما بيننا بدون أى رتوش..

ولكن أدار عامر وجهه ناحيتى ثانية، وزر عينيه وبصعوبة ركز نظراته نحوى، بعد أن كان قد فقد نظارته السميكة ـ علامته المميزة ـ فى خضم المعركة التى كادت أن تودى بحياته، ثم إبتسم لى.. إبتسامة حانية عطوفة وكأننى أنا المجنى عليه!.. ثم رفع عن صدره رأس إمرأته الباكى، ونظر لوجهها الحزين الموشح بالحجاب، ونتطلع إليها بحب عميق، وقال:
ـ "أنا أوافق إيزابل رأيها، كما أنى متعاطف مع بكائك يا أمينة يا حبيبتى، وحتى مع صمتِك يا سامى، ولكن مضمون (الحق) فى كلام إيزابل لابد أن يسمو فوق المشاعر.. والحق يعنى أنه لابد أن يدفع المعتدون الثمن، تحت جناح القانون والعدالة.. فالقصاص الذى أراد الشيخ غنيم أن يأخذه بيده، كان بسبب أن (القانون والعدالة) المتعارف عليهما، ظلا بعيدين كل البعد عن (الحال الأمثل) الذى أملته عليه أيديولوجيته، فلم يبق له من سبيل إلا أن يقنن لذاته قانونه من خلال مرجعيته الشخصية، أو حتى الدينية، يحكم بها بالموت علىَّ، ثم يبعث برجاله (المؤمنين) بأحكامه لتنفيذ الحكم.. هكذا بلا محكمة، أو مناظرة، أو حتى فرصة للدفاع عن النفس، وهذه طريقة متخلفة فى معالجة إختلافاتنا يجب أن تنتزع إنتزاعًا من بيننا.." كان فى رده يضغط على كلمات الحق، القانون والعدالة، الحال الأمثل و المؤمنين ليؤكد كلامه..
فعادت أمينة وسألته:
ـ "يعنى عاوز تبلغ عن الشيخ غنيم يا عامر؟"
ـ "أيوه يا أمينة، بينى وبينهم القانون، والعدل.. ولا إيه رأيــِك إنتِ؟"

وكما تــُصارع ضياء الشمس الوليدة ثقل الظلام الراسخ عند مطلع الفجر، فتهز ثباته تباعًا، ظهر الإضطراب على وجه أمينة. هاهو نور العدالة الآن فى مواجهة صريحة مع سلطان الدين، ومع سطوة أبيها الذى ترتعد حتى الآن من مجرد ذكره، ومع عرف وتقاليد المجتمع الذى أمضت جل عمرها جزءًا لا يتجزأ منه، وعليها الآن أن تختار إمَّا جانبَ زوجها أو جانب كل هؤلاء..
ـ "بس يعنى.." فقاطعها عامر:
ـ "ماتخافيش يا أمينة، الحق معانا وهاينصرنا بإذن الله" ثم أدار وجهه نحو إيزابل وقال:
ـ "شكرًا يا إيزابل، ولكن أرشدينى كيف أبدأ؟"

دائمًا ما تحوم الجوارح فى دوائر متعاقبة حول جثة ساكنة، وكذلك كانت أخبار المحاكمة تملأ الجرائد وتتابعها، وحامت نشرات الأخبار التليفزيونية تدور حولها لعدة أشهر، وحازت أنباءُها بردة فعل شعبية عارمة، متعاطفة مع عامر طبعًا، فى ظل الحملة المعلنة ضد "الإرهاب" و"التطرف الدينى" التى بدأت فى أعقاب أحداث سبتمبر الشهيرة، حتى أنهم وجدوا صعوبة فى البداية بالإتيان بمحلفين محايدين فى نظرتهم للمسلمين بصفة عامة.. ومع ذلك، كان موقف الدكتور خطـَّاب وبعض رجال الجامع، أى الدائرة الداخلية من حول الشيخ، غريب جدًا بالنسبة إلى، إذ أبدوا تعاطفًا غير متوقع مع المجنى عليه وضد الجناة. حتى وإن كان أحد هؤلاء هو نسيب الدكتور، أو حتى، وياللعجب، لو كان الشيخ غنيم شخصيًا!.. وأمَّا بقية الجالية العربية، على إختلاف أصولهم، فكانوا يتوافدون بالعشرات فى كل يوم خارج قاعة المحكمة رافعين لرايات ولافتات مطالبين بعقاب الجناة، ومتضامنين مع عامر..

كنًا نراهم كل يوم جالسين على سلالم المحكمة أو واقفين حولها، وسمعت من المصريين منهم تعليقات شتى مثل:
ـ "هو ده الإسلام إللى بيكلمونا عنه؟ هايموتوا الراجل علشان مش ماشى على هواهم؟ لأ ده إسلامهم هم لامؤاخذه!"
ـ "دول سرقوا مننا إسلامنا، وفهمونا إنه يا نمشى وراهم، يا هانتحسب مع الكفرة وأهل الردة وبئس المصير!"
ـ "وهم يعنى كل أهالينا إللى سبقونا دول ما كانوش مسلمين ولا إيه؟ ده ولا أمى ولا ستى عمرهم ما لبسوا الحجاب، ومع ذلك كانوا بيصلوا وبيصوموا.. إيه؟ هايروحوا النار كل الناس دى ومافيش غيرهم بس اللى رايحين الجنة؟"
ـ "هو يعنى الإسلام ماينفعش من غير الجلابية والحجاب؟.. وفين يا ناس الضدق والأمانة ومكارم الأخلاق؟"

تعاقبت الأيام وتوالت.. وبعد إجراءات قضائية طويلة ومعقدة، أعلِن عن ثبوت الجرم بالمتهمين الثلاثة.. وأما محرضهم الشيخ غنيم، الذى شهد ثلاثتهم ضده، فلم يستطع المحلفون إثبات تحريضه لهم، لعدم توافق شهاداتهم التى كانوا قد بالغوا فيها، كمحاولة لإبعاد صفة العمد عن أنفسهم، مدعين ضد الشيخ تحريضهم على إرتكاب ما إرتكبوا تحت ستار الدين.. وكان الجزاء قاسيًا نسبيًا، فألقى سعدالله بالسجن لمدة إثنين وعشرين عامًا، وللآخرَين بالسجن خمسة عشر عام، وثلاثة أعوام.. كما تم ترحيل الشيخ غنيم فورًا إلى مصر، بعد المحاكمة، وسُلم إلى أيدى السلطات بمصر وذلك للتحقيق معه بشأن إنتماءاته لجماعات دينية محظورة كشفت عنها أقوال الشهود، ولم أسمع أنا عن نتيجة تلك التحقيقات، ولا ما آل إليه حال الشيخ غنيم من بعدها..
وتولى رجل باكستانى إدارة شئون الجامع من بعد رحيل الشيخ، وإتسمت قيادته بالحياد تجاه أمور السياسية، بل ولم يكن يتدخل فى شئونها مطلقــًا فى أغلب الأحوال.. ثم إتجه جموع المسلمين ثانية نحو المشاركة التدريجية فى نشاطات الجزيرة الإجتماعية والسياسية، وإزداد إحساسهم بالإنتماء للمجتمع من جديد، حتى أن نجح عامر فى الفوز بمركز هام بمجلس المدينة مؤخرًا..
وفى وقت قليل، شاب أمينة تغيير ملحوظ فى موقفها من زوجها عامر ومن أهل الجامع.. بدأت تعتنق آراءه وتجاهر بها أثناء فترة المحاكمة، دفاعًا عن موقف زوجها، وبعدها مباشرة خلعت أمينة عن رأسها الحجاب، بحجة ما كان يتطلبه موقعها الإجتماعى الجديد، كزوجة عضو فى مجلس المدينة، من مقابلات، فقابل عامر إختيارها بالإرتياح إذ إعتبر إرتدائها للحجاب نوع من التمييز الدينى لم يعد يتقبله.. والعجيب أن حذا حذوها الكثيرات من السيدات المسلمات، حتى صار إرتداء الحجاب نادرًا بالجزيرة، إنحصر بالمهاجرات الجديدات، وبين الطبقات الأقل تعليمًا أو الأدنى إجتماعيًا، وحتى أولئك سعين نحو التحرر منه لما حمله من إنطباع سلبى عنهن..

وكان ما حدث كمثل إعصار إجتاح الجزيرة، فخلع من جذوره كل فكر أفسد على أهلها الإعتزاز بأنفسهم، وبإنتمائهم للوطن الجديد، وبإستمتاعهم بالحياة، حتى لو كانت فوق جزيرة وهمية لا تمت بصلة للوطن الذى كانوا قد هاجروا إليه أصلا.. ولكن لم يكتف ذلك الإعصار بالتأثير على المسلمين فحسب، وإنما شمل أيضـًا المسيحيين العرب، اللذين تخلوا كثيرًا عن إنعزالهم وتقوقعهم داخل جدران كنيستيهم، القبطية المصرية والمارونية اللبنانية.. وحتى غير العرب من الأمريكيين من حولنا، إهتزوا من صدمة المحاكمة ومن التغيير الذى إجتاح المهاجرين العرب من بعدها، فبدأوا يراجعوا مواقفهم من هؤلاء العرب اللذين إضطلعوا بمراقبتهم، وبتقديم التقارير عنهم.. فبعد أن كانوا يحسبونهم مواطنين همجيين، غير قادرين على مواءمة تقدمهم الحضارى، فإذا بهم يعاينون صحوتنا الصامتة تلك، فيدركون حقيقة معدننا..
وبدأنا نلحظ جميعًا تغير لغة التعامل معنا تدريجيًا، حتى فوجئنا فى يوم من الأيام، حين رأينا البعض منهم يتجمهرون فى ساحة الميدان الرئيسى بالجزيرة، حول كنيسة القديس بطرس.. أتوا من كل ناحية، فى صباح أحد السبوت المشرقة بأشعة الشمس الدافئة، فى شبه مظاهرة سلمية أعلنوا فيها عن عصيانهم المدنى، وإمتناعهم عن مراقبتنا وتقديم التقارير عن أحوالنا وتصرفاتنا.. وكانت تلك هى أول مجاهرة من جانبهم بحقيقة الجزيرة وبواقع حياتنا فى وسطهم.. وسرعان ما إنضم إليهم العشرات، ثم المئات، بل الألوف مؤيدين للحركة، مما دفع بالسلطات فى خلال فترة وجيزة بإقرار مطالبهم، تحسبًا لتداعيات العصيان المدنى..

وفعلا أعلِن رسميًا منذ أسبوع، يا عزيزى، عن إنتهاء مشروع "الجزيرة" بصفة نهائية، وتحولت جزيرتنا إلى مدينة أمريكية عادية، بإسم "الجزيرة الحرة" وهى تابعة سياسيًا لولاية "ساوث كارولاينا" فيما أعتقد..

* * *

وإبتسم سامى راضيًا بهذه الخاتمة السعيدة لحكايته، فمال بجذعه للوراء متمطئــًا، وكنا قد أجهزنا على آخر قطرة من النبيذ الفرنسى، وإن لم يكف عزف الموسيقى المنساب من حولنا، فأضفى تناغمًا متناسقــًا مع سرده لحكايته، وكأنها الخلفية الموسيقية لفيلم سينمائى قام فيه سامى بدور الراوى، وقمت أنا فى خيالى بحياكة خلفية المناظر وإستدعاء أشكال الأبطال من وجوه أناس حقيقيين أعرفهم.. ومن ثم قمت بتحريكهم من حولنا فى مشاهد متعاقبة، بحسب السيناريو المتاح، وأضفى العزف من حولنا إنسجامًا بالمشاعر فإكتملت المكونات جميعها..

وكانت الساعة تقترب من الثانية صباحًا، وقد حل التعب بأبداننا وطرق النعاس بأجفاننا، وعلمنا أنه حان الوقت لأن نترك المطعم ونفترق، وأن نستعد للرحيل كل إلى عالمه.. فسامى كان يزمع السفر فى اليوم التالى، عائدًا إلى الجزيرة، كما كان على أن أذهب فى الصباح لتفقد والدى بالمستشفى، ثم أهرع إلى مكتبى بعدها، لملاحقة عجلة الحياة التى تركتها تدور بدونى ليومين، من بعد العطلة الأسبوعية يومى السبت والأحد..

ولا تزال كلمات سامى الأخيرة ترافقنى بطول طريق عودتى.. كنا قد إفترقنا منذ دقائق بعد أن شددنا كل فوق راحة الآخر.. كان سامى قد همَّ بعناقى، ولكن بقايا من إحساسى بعدم الإرتياح تجاهه لم تزل عالقة، منعتنى من تقبل هذه الفكرة بعد.. فأذعن هو على مضض.. سألته متى يعتزم العودة للقائى من بعد، فأعلمنى أنها أسابيع قليلة يعود بعدها لتنفيذ شحن أول دفعة من الزهور البلاستيك للجزيرة بعد أن فاز هو بتوكيل بيعها هناك، فصار التربح من تداولها هناك مقصور عليه.. لازالت تلاحقنى غرابة فكرة الزهور البلاستيك فوق جزيرة إستوائية المناخ، مكتظة بالزهور الطبيعية حتى من قبل ما أن تصير مأهولة.. ولكننى حسبت أنه خيار شخصى خاص بسامى، وأنه لكل منا طريقته الخاصة جدًا فى تحقيق ذاته على هذه الأرض، لا يشاركه بها آخر. وكل منا فريد فى سبيله حتى لو كان يسلك بأرض جزيرة مجهولة فى مكان ما وسط المحيط، دُعيت مؤخرًا بـ"الجزيرة الحرة"!..

عند زيارتى لأبى فى الصباح لم أشعر بالإطمئنان الذى كنت قد إختبرته حين رأيته بالأمس.. كان كثيرًا ما يتهرب من كلماتى المستفسرة وينسحب إلى عالم النوم المريح، ثم يعود ـ مكافأة لإصرارى ـ فيبتسم كالمعتذر، ويفتعل الصحوة لثوان، ينزلق بعدها للغفلة من جديد.. قالت لى الممرضة المسئولة أنه لم ينل حظه من النوم ليلة الأمس، وإن كانت لا تعلم سبب أرقه، فقد أبلغـَتها به قبل أن تنصرف ممرضة الفترة الليلية.. سألته فى آخر إستفاقاته إن كان يشعر بتحسن، فإبتسم بسخرية وأومأ بنعم. ولكنه نظر إلى متوسلا أن أكف عن الكلام، لأدعه يغفو لأنه منهك ويريد أخيرًا أن يستريح.. كانت قنوات التفاهم بيننا ممتدة بدون الحاجة للغه منطوقة، فإلتزمت بصمتٍ لثوان معدودة كانت كفيلة بأن يغوص من جديد لدنياه الحالمة، ومسحت يدى فوق شعره الأبيض الناصع، وطبعت قبلة فوق جبينه وإنصرفت..

دلفت إلى السيارة وإنطلقت مسافرًا فى طريقى إلى مكتبى.. شعرت بوحدة غريبة تجتاحنى. وحيدًا فعلا فى محيط سيارتى وحبيسًا بها لثلاث ساعات ـ على الأقل ـ حتى أبلغ مقصدى.. وحيدًا فى قفص جميل من الجلد الإيطالى، والخشب الناعم البرازيلى، والزجاج المحكم الأصم البارد.. أبصر من حولى المارة المارقين نحو مقاصدهم كالسهام، وسائقى السيارات الأجرة، مهاجرين مثلى غالبًا، يتفادون عيون الآخرين، وقائدى الشاحنات المخيفة ونظراتهم المحتقـِرة من مقصوراتهم العالية.. وأصحاب السيارات الفارهة، والمنمنمة، أدقق فى عيونهم الزجاجية، تنظر تجاهى ولكنها لا ترانى، أقرأ تعابير وجوههم المغلــَّـفة بصرامة وجدية رزق الصباح الجديد، أشحذ ذرة تواصل، بسمة، لفتة يعنيها صاحبها، أناديهم، أصرخ إليهم وحدتى، ولا جواب..

أفتقد سامى!
فوجئت بهذا الخاطر يقتحمنى.. نعم.. تعايشت لمدة أربعة أيام معه، ومعه عامر وإيزابل والشيخ غنيم وسعدالله والدكتور خطـَّاب و.. الجزيرة! أصبحت جزء من تفكيرى، من أزمتى حين تتأزم وإنفراجها حين تنفرج.. والآن؟ وحيد.. فى سياراتى ألتهم الأميال، فى سبيلى إلى حياتى العادية.. حياة ما قبل الجزيرة! ووجدتنى ألتقط التليفون وأطلب رقم سامى..
وأنتظر..
رنين.. لا يرد.. لابد أنه مايزال بعد فى الطائرة ..
طلبت أمى وأخبرتها بأننى فى الطريق لعملى بعد أن مررت بأبى بالمستشفى، وبأننى لم أرتح لحالته الذهنية.. ولكن طمأنتها وطلبت منها أن تعلمنى بأى تطورات..
ثم طلبت زوجتى، ولكنها كانت منشغلة بمرضاها فلم نتبادل سوى بضع عبارات عرَّفتها خلالها بأننى فى الطريق، وأخبرتنى هى بأنها قد تتأخر فى إجتماع، ثم إعتذرت بأنها ينبغى أن تذهب لعيادة مرضاها، ولكنها حرصت أن تنهى الكلام بقولها : " أحبك"..
عدت ثانية إلى وحدتى.. وصمتى.. فإنشغلت بمراقبة الطريق الأسفلت الممتد، بحاراته المزروعه بالسيارات والشاحنات فى سباق مع الزمن للوصول إلى مختلف الأهداف وإن جمعهم نفس السبيل فتحسبهم يقصدون ذات النهاية.. أو هو خط البداية يرومونه ليبدأ عنده السباق الحقيقى؟ وتتلاحق العلامات الخضراء تباعًا، تعلمنى ببلاد أحسبنى أمر بها وأتخطاها دون أن أدرى عن وجودها شئ، أو عدد الأميال المتبقية لبلدان أخريات بطول الطريق، لن أصل إليها أبدًا!..
تعبث أصابعى بمفتاح الراديو أبحث عن صوت يملأ الفراغ من حولى دون جدوى.. إنتقلت إلى تسجيلات مصرية أحتفظ بها بالسيارة.. حفظتها من كثرة ما سمعتها، وإنتقيت "موعود" لعبد الحليم.. حاولت أن أتناسى النغمات حتى أدهش من جديد بعبقرية اللحن، وأداء الكلمات المملوءة بالشجن، المنسابة عبر الصوت العذب.. لم أنجح.. فقد إنغرست فى ذاتى بكل تفاصيلها، وإن إستغرقتنى المحاولة، فإنشغلت بها لمدة ساعة أو نحو ذلك، فى حين ما إقتربت نهاية الطريق..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد


.. تفتح الشباك ترجع 100 سنة لورا?? فيلم قرابين من مشروع رشيد مش




.. 22 فيلم من داخل غزة?? بالفن رشيد مشهراوي وصل الصوت??


.. فيلم كارتون لأطفال غزة معجزة صنعت تحت القصف??




.. فنانة تشكيلية فلسطينية قصفولها المرسم??