الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة قصيرة :(( مع خيوط الفجر ))

عبد الرزاق السويراوي

2007 / 7 / 30
الادب والفن


حينما تناهى الى سمعه , صوت طرقات خفيفة على الباب الخارجي ,كان منشغلا بمطالعة كتاب بين يديه ,وقد جلس في غرفته , كالعادة , في ذات الزاوية التي تستهويه عادة حينما يرغب بالمطالعة , وقبل أن يخمّن شخص القادم إليهم, سمع صرير الباب الذي سارعت إحدى بناته بفتحه ,عندها عرف أن القادم اليهم هي جارتهم ( الحاجّة ) , تلك المرأة العجوز التي لا تنقطع عن زيارتهم بين الحين والآخر , و بعد أن شرد ذهنه قليلا عند سماعه طرقات الباب , عاد ليستأنف القراءة من جديد . أسند ظهره الى الحائط , فخيّم الهدوء على المكان. وكانت ( الحاجّة ) قد جلست في الغرفة المجاورة لغرفته , الى جانب زوجته وبناته , لكنه على ما يبدو, لم يستطع مواصلة القراءة كما هي رغبته , فقد بدأت ترن في أذنيه, بين لحظة وأخرى , ضحكات زوجته وبناته وقد إمتزجت بقهقهة ( الحاجّة ) التي شرعت تحدثهن بصوت كان يسمعه بوضوح .( إنها إمرأة غاية في اللطف ) .هكذا ينعتها أحيانا , وكان يكنّ لها ودّا ملحوظا, وهو الى جانب ذلك , كان يشعر نحوها , رغم بساطتها , بإرتياح بالغ, ولطالما تسائل عن سرّ هذا الإرتياح ,لكنه لا يعوّل كثيرا على أهمية الإجابة ,فقد كان مقتنعا في قرارة نفسه , بأنها أمرأة خبرت الحياة جيدا, وذاقت كما يقال حلوها ومرها , خاصة وأنها تنحدر من اعماق الريف وقد قضت فيه الشطر الأكبر من عمرها, من هنا فان الحكايات التي تسردها عليهم بطريقتها الخاصة والمحببة كانت تجعلهم منشدين اليها بحماس. وها هو يكرر المحاولة لمواصلة القراءة , لكنه شعربأن الكتاب سوف لا يمنح نفسه بيسر وكما ينبغي , طالما أن ( الحاجة ) مستمرة في حديثها داخل الغرفة المجاورة مع زوجته وبناته ( إذن ) ,همس مع نفسه , ( من العبث أن أستمر بالقراءة ..) . وفعلا , كان حديث ( الحاجة )لازال يتناهى الى سمعه مع ما يتخلله من الضحك , جعله يفقد التركيز على القراءة , الى حدّ بات يشعر معه بنوع من التناغم مع ذلك الحديث.
زوج ( الحاجّة ) , كان رجلا طاعنا في السن ,ويتذكر بأنها غير مرة , صرّحت بأنه كان يكبرها بأكثر من عشر سنين وربما أكثر , وفي هذه السنة , وخاصة في الأشهر الأخيرة, هدّه المرض بحيث اقعده الفراش , ووصل الأمر بأهله , وحتى جيرانه أيضا , أنهم باتوا يتوقعون وفاته في أيّة لحظة . إحدى البنات سألت الحاجة وهي تمزح معها : ( ماذا ستفعلين يا حاجة , إذا ما الحاج لا سامح الله توفي؟ ) . إستحوذ هذا السؤال على إهتمامه, بحيث جعله يطبق الكتاب ويضعه جانبا وكأنه كان يبحث عن أيما سبب يحفّزه على ان يركن الكتاب ومن ثمّ ليترك القراءة ,وقد شعر برغبة ملحة بأن لا تفوته كلمة واحدة من إجابة ( الحاجة ) على سؤال إبنته ..
( أولا الأعمار بيد الله يا أبنتي )...قالت ( الحاجّة ) ذلك, وهي ترسم إبتسامة خفيفة على شفتيها , ثم أردفت ... ( ثقوا , مهما فعلت لأجل الحاج , فلا أعتقد بأنني سأفيه حقّه , فهو رجل يشهد له معظم من عرفه بالطيبة , فضلا عن أنني لا أتذكربأنه قصّر معي في شيئ مذ عرفته ) .
كانوا يعرفون في ( الحاجّة ) أنها تختزن في ذاكرتها الشئ الكثير من الأهازيج , تقول أنها حفظتها عن أبيها ..ولِمَ لا وهي تلك المرأة التي تقول بأنها عشقت الريف , وعاشت فيه أكثر من خمسين عاما ,وكم كررت مثل هذا القول , ( فلا غرابة إنّ هي تأْسرنا بأحاديثها التي تذيقنا فيها من حلاوة ماضيها البعيد , الذي تعتزّ به كثيرا ..) .قالت وهي تمزح ( سأرثيه بأهازيج , ربما لم يقلها أحد قبلي , فالحاج يستأْهل ماء عيني ) . قلن لها ..( إذن نريد أن نسمع بعضا من الذي ستقولينه بحقّه ) , فرفعت يديها النحيفتين بوشمهما الأزرق , حتى قاربتا سمْت رأسها , وأخذت تهزج بصوت جميل ومنغّم , ثم شرعت بتحريك يديها فيما كان رأسها الملفّع بالسواد , يتمايل ببطئ نحو الجانبين , في حركات بدت متناغمة تماما مع إيقاع الأهزوجة وأيضا مع حركة يديها , وكانت أثناء ذلك , لا تنفك عن رسم إبتسامتها المعهودة على شفتيها , فأنزلت يديها بحركة شبه سريعة . ثم لمْلمتْ عباءتها على جسدها النحيف..( آه ..أنسيتموني نفسي , عليّ أن أغادر في الحال , فالوقت مضى بنا سريعا , وأخشى أنّ يكون المؤذن قد أذّن للصلاة ) .كان وقت العصر قد تلاشى فعلا , ليحل محله الغروب ناشرا عباءته على كل الموجودات , نهضت الحاجة بتثاقل وقد توكأت على عصاها , ثم توجهت ببطئ صوب الباب الخارجي .
في اليوم التالي , وإذ عاد للتو من العمل فأن الوقت تجاوز الظهيرة , وحينما إنعطف نحو الشارع باتجاه منزله , ابصر سرادقا طويلا بعض الشئ , منصوبا بموازاة واجهة منزل جارهم الحاج , همس مع نفسه ( إيه , الحمد لله على كل حال , لك الحمد يارب , لا يدوم إلاّ وجهك الكريم ) . وما إن دخل البيت , حتى همّ بسؤال زوجته: ( متى توفي الحاج, رحمه الله ؟ ) ,تباطأت زوجته عن الأجابة قليلا , بينما إنعكست على وجهها مسحة حزن بدت واضحة تماما , ثم قالت بمرارة : ( ليس الحاج , وإنما هي زوجته الحاجة..لقد وجدوها ميتة وهي على سجادة الصلاة صباحا ).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المغرب.. إصدارات باللغة الأمازيغية في معرض الكتاب الدولي بال


.. وفاة المنتج والمخرج العالمي روجر كورمان عن عمر 98 عاما




.. صوته قلب السوشيال ميديا .. عنده 20 حنجرة لفنانين الزمن الجم


.. كواليس العمل مع -يحيى الفخراني- لأول مرة.. الفنانة جمانة مرا




.. -لقطة من فيلمه-.. مهرجان كان السينمائي يكرم المخرج أكيرا كور