الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الترجمة الشفوية، العلة في العتالين

منهل السراج

2007 / 7 / 30
الصحافة والاعلام


تحدثت إلى صديق عن قلة اطلاع الغربيين على ثقافتنا ومحدودية فهمهم لنا وتفسيراتهم التي تكاد تتطابق مع بعضها عنا وعن أوضاعنا، أجابني مختصراً القضية كلها بجملة واحدة وجدتها حكمة حقيقية:
ـ العلّة في العتّالين.
لعل المترجمين الشفويين، هم أهم هؤلاء العتالين.
من المعروف أن الترجمة الشفوية لاتقل أهمية عن الترجمة الكتابية، ذلك لأنها عمل مأسور بالوقت وبطرفين ينتظران فهم بعضهما لتأدية الشأنين، وربما من هذا المنطلق، يحتاج هذا العمل إلى خبرة قوية باللغتين، وقبلها ذكاء وثقافة وسرعة بديهة. ولكن كم عدد الذين يعملون في هذا الحقل ويتمتعون بهذه الضروريات؟.
في الآونة الأخيرة، وبسبب كثافة الهجرة إلى السويد، صارت قضية الترجمة الشفوية والمترجمين، الشاغل الأكبر للمسؤولين ووسائل الإعلام، ذلك لأنها تحولت إلى أزمة شديدة الوطأة. فالمترجمون الشفويون الذين يعملون في مؤسسات كوظيفة ثابتة، مثل دائرة الهجرة التي تحتاجهم بكثرة، نجحوا في امتحان الترجمة ونالوا الوظيفة، وهؤلاء وإن كانت خبرتهم لاتكفي، ذلك لأن نجاحهم كان على الأغلب لقلة عدد المتقدمين وشدة الحاجة إليهم، لكن تبقى هذه الخبرة أقل سوءاً، ممن يعملون ضمن مكاتب خاصة، يُستدعون لأداء الترجمة في الأمور المؤقتة، كترجمة بين طبيب ومريض.
لانبالغ إذا قلنا إن وضع الترجمة الشفوية من العربية إلى السويدية وبالعكس، في أردأ حال، وربما تعتبر سبباً أساسياً في سوء الصورة التي تكرس عن المهاجرين.
رغم أن أغلب السويديين يتحدثون الإنكليزية وبإتقان، إلا أنهم ومن أجل أن لايتحمل أحدهم مسؤولية ضعف اللغة الأخرى/ الإنكليزية/ من القادم أو من قبلهم، يصرّون على التحدث كل بلغته الأصلية والمترجم الشفوي يقوم بالنقل.
معظم المترجمين يبذلون الجهد كي يعرفوا اللغة الجديدة غير آبهين بتقوية لغتهم الأصلية، ذلك لأنهم يعتبرون لغتهم الأساسية/ العربية مثلاً، هي اللغة الأم ومن الطبيعي أنه يعرف التحدث فيها. ولكن ما يحدث أن العامية العربية التي أتوا بها، ظلت كما هي أو ضاع منها الكثير، وهي في الأساس ربما لاتتجاوز لغة الصف التاسع في البلاد. معظم المترجمين المتواجدين في السويد، والذين ينقلون من العربية إلى السويدية وبالعكس، لايتقنون العربية، إلا كلاماً يومياً ضيقاً، وربما لم يقرؤوا كتاباً بالعربية إلا كتب مدارسنا التي كانت تلقن الطالب موادها ومعلوماتها، عبر مناهج دراسية هزيلة، يقوم الطالب في آخر العام برمي كتب العام وتنظيف رأسه من معلوماتها.
كنت مستعدة للتحدث بالإنكليزية مع طبيبة ابني، لكنها آثرت أن تحضر مترجمة بيني وبينها. وكنت قد بدأت بتعلم بعض كلمات بالسويدية، لكن بالطبع ليست كافية للقاءات طويلة.
باشرت بالعربية أتحدث بسرعة وتلقائية ذلك لأن هناك من سيحمل هم توصيل فكرتي بلغة قوية، لغة صار لصاحبتها أكثر من خمس عشرة عاماً. ولكن..
معظم ماقلته، لم تقله كما قلته، وبعض ماكنت أقوله كان ينقل بمعنى آخر تماماً. كلمة زعل مثلاً، ترجمتها: صراخ. لم أعلق، اكتفيت بإعادة الجملة عليها كي تترجمها بشكل صحيح، لكنها لم تأبه. دققت في كلام الطبيبة لألتقط بعض الكلمات وأتأكد من صحة ماتقول المترجمة إذ شعرت أن الجمل التي تنقل على لسان الطبيبة شديدة الضعف علمياً تصل أحياناً إلى حد السذاجة، ولايمكن أن تكون لغة طبيبة تعمل في مدينة استوكهولم. كان لقاء طويلاً ومليئاً بالأخطاء والالتباسات، وقد راعيت أن أصمت أمام هذه الأخطاء ذلك لأنني جديدة جداً و" لست بالقصر إلا البارحة العصر". إلى أن التقطت جملة من الطبيبة، قالتها بوضوح شديد: تتزايد حدوث هذه الحالات في العشرين عاماً الأخيرة. التفتت المترجمة إلي قائلة بثقة: لم تحدث هذه الأمراض منذ عشرين عاماً. فوجئت، المعلومة بمنتهى الأهمية، أعدت ترجمة المترجمة بالإنكليزية للطبيبة لأتأكد من صحة ما سمعت وخطأ ماوصلني، وتبين أن ماسمعته أنا، حيث كان قاموسي لايزيد 500 كلمة سويدية، أكثر دقة من المترجمة التي تعمل عبر مكاتب الترجمة منذ سنين في استوكهولم. وتراءى لي القادمون الجدد والظلم الذي يقع عليهم عبر هذه المواهب الضعيفة، وكم يحدث بالآن نفسه سوء فهم عن العربي وعن الغربي، وكم يحدث التباس وإشكال بين الطرفين، لم أستطع أن أصمت. أخبرت الطبيبة عن خطأ المعلومة التي نقلت إلي، وياليتني لم أفعل، لأن المترجمة ذات الصوت الجهوري انهالت علي بالصراخ، لدرجة شعرت أن كثيراً من الحنين إلى البلد قد تبدد، اكفهر وجهها:
ـ إذا كنت تعرفين اللغة لماذا تطلبين الترجمة؟
لم تترك لي مجالاً كي أجيب، نظرت في وجه الطبيبة فوجدته جامدا كوجه السويديين في العادة. اكتفت الطبيبة بالانتقال إلى وراء مكتبها، ربما فكرت أنه أكثر أماناً أو أنها فكرت ربما تحتاج هاتفها للاستنجاد بأحد. نعم، المترجمة العنيفة أخافت الطبيبة وأخافتني، وفضلنا أنا والطبيبة أن ننهي اللقاء هنا وأعطتني ورقة مكتوبة لموعد قادم مع مترجم جديد. ولكن.. لم يكن اللقاء الثاني مع المترجم الجديد أفضل حالاً.
قلت للمترجم، هل تفضل أن أتحدث باللغة العربية الفصيحة؟ ذلك لأني افترضت أن اللغة العامية وبسبب اختلافها من بلد عربي إلى آخر، ربما تفعل سوء فهم، خصوصاً أن المترجمة السابقة ادعت أن سبب المشكلة كان اختلاف اللهجات، ضحك المترجم مستهزءا من سؤالي:
ـ تكلمي كما تحبين وبأي لهجة.
قالها بلهجة المتمكن من عربيته ومن سويديته. قلت لنفسي: عظيم أستطيع أن أتحدث على سجيتي.
وكانت معركة أخرى. قالت الطبيبة: الحلق، ترجمها: الفم، وحين قالت كلمة أمعاء، ترجمها أخونا: بطن، هذا عدا عن شروده وترجمته لربع الكلام فقط. فقدت صبري أيضاً.
معركة أخرى، لكنها أقل وطأة بما أني والطبيبة اختبرنا المترجمين وعرفنا أنه علينا عدم استفزازهم، والاكتفاء بالاتفاق على تغيير المترجم إلى ثالث في اللقاء القادم.
التجربة الثالثة، كانت فريدة من نوعها، إذ المكتب الذي خجل كثيراً من المركز الصحي ومن الطبيبة التي أنبته على سوء مترجميه، قرر أن يرسل مترجمة جديدة، بظنه مطلعة على مصطلحات الطب أكثر من غيرها. كنت والطبيبة على حذر من التجربة الثالثة، واتفقنا أن نتعامل بالبريد الالكتروني، إن حصل شك بفهم قضية ما. المترجمة كانت شديدة الثقة بنفسها، لدرجة أنها لم تقم بالترجمة، كانت تتولى شرح كلام الطبيبة لي وشرح كلامي للطبيبة. أقول خمس كلمات تقول ثلاثين كلمة، تقول الطبيبة ثلاثين كلمة تقول المترجمة تسعين كلمة، واستمر اللقاء استعراض من المترجمة لمعلوماتها في الطب وتجربتها الخاصة في الأمومة. وحين سألت الطبيبة عن طرق العلاج نسيت المترجمة دورها تماماً وامتلأت حماساً وراحت تجيبني على سؤالي من خلال معلوماتها الخاصة، للحق كانت معلومات لطيفة، لشعبيتها.
لأول مرة أرصد امتعاضاً على وجه سويدي أشقر، هم الذين لايبدون الامتعاض إلا "للشديد القوي"، غضبت الطبيبة السويدية، وسحبت ورقة دوام المترجمة، وقعتها لها وصرفتها بتصميم نهائي.
وهذه الحالات ليست سيئة بالمقارنة بما كان يحدث بالماضي، حين كان عدد المترجمين قليل جداً، وكانوا يتولون الترجمة والشرح وحتى التصرف بمصير القادم الجديد، ويرسمون الصورة التي تروقهم للعربي عن السويدي وبالعكس.

قالت لي إحدى المترجمات بافتخار:
ـ حين أترجم، أتصرف بالترجمة. قالتها وكأنها تبدع إبداعاً على إبداع.
سألتها:
ـ لماذا تتصرفين بالترجمة، وأنت دورك أن تنقلي بدقة..
قاطعتني:
ـ ذلك لأن منهج السويديين في الحديث يختلف عن منهجنا، هم مباشرون جداً، مما يؤذي شعور مواطننا.
كانت هذه المترجمة معتمدة في المحاكم، وتترجم في قضايا الجرائم والسرقات التي تكثر بين المهاجرين، فتقوم بتخفيف لهجة المحقق حسب طريقتها واعتقادها. تقول:
ـ لأن مواطننا، المتهم بالسرقة، يشعر أن المحقق عنصري.

وهكذا بسبب هذه الوسائط تظلَم بلادنا وتعتم صورتنا.
فليسرع كل قادم إلى تعلم لغة البلد، ولينفد بجلده ويحمل حمله على ظهره، بدل أن يسلمه للحمال فيتلفه أو يأخذه إلى عنوان آخر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد قضية -طفل شبرا- الصادمة بمصر.. إليكم ما نعرفه عن -الدارك


.. رئيسي: صمود الحراك الجامعي الغربي سيخلق حالة من الردع الفعال




.. بايدن يتهم الهند واليابان برهاب الأجانب.. فما ردهما؟


.. -كمبيوتر عملاق- يتنبأ بموعد انقراض البشرية: الأرض لن تكون صا




.. آلاف الفلسطينيين يغادرون أطراف رفح باتجاه مناطق في وسط غزة