الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الهروب من الحرية

خالد سليمان

2003 / 10 / 2
اخر الاخبار, المقالات والبيانات



                           
    لو سأل العراقيون أنفسهم سؤالاً واحداً حول صورتهم الهلامية بعد سقوط عُبَاد الموت ، لكانت الحرية جزءاً من نصيبهم أو لكانوا أقتربوا من الجسر الذي يربطهم بالموت طالما بقيت صورته معلَقة بين الكسل المتمثل بسياسيات البعث وبين فنتازيا الكمال التي كانت مكرّسة لإمتصاص قدرة الفرد في الحركة والعمل . فسؤال مثل من نحن و أين أمسنا المظلم وما الذي علينا فعله اليوم ؟ هذه الأسئلة التي يمكن طرحها ضمن سياقات مختلفة ، لم يسألها العراقيون ولم يلتفتوا الى" عُبَاد " البعث الذين منعوهم حتى بعد سقوطهم من التفكير وسؤال واحد حول جميع تلك الأيام المترّملة في صحارى الكسل الديكتاتورية التي أستفحلت عبر حب الموت لا غير ذلك .
    لقد حاول عُبَاد الموت في العراق منع دخول أية فكرة تتعلق بالرخاء اليومي لحياة الفرد والأُسرة والمجموعة ، وكانت الدولة المُزيَنة بسيرة الرئيس وصوره المملة التي كانت تُعبر عن العجز وفقدان شهية الحياة وعبادة الشرّ ، وسيلة من وسائل إجتثاث " المواطنية الفعّالة " من الفرد  وسوقه بالتالي ضمن مجتمع فرجوي غير فعّال أو بالأحرى مجتمع (الجوقة ) المكون من الخوف والذعر والمؤيد والمعارض والقاتل والمقتول الخ.. من المتعارضات الصامتة أمام قوة دولة العُبّاد التي حصلت على النصيب الأكبر من العراقيين أمام مشروع المعارضة . ووصل الخوف الى مرحلة تغذية عناصره  من الخائف الذي سمح لجماح رغبة " العوام "  في القتل والتنكيل أن يرسم صورة الهاربين من قول (لا) ضمن خارطة الخوف من خلال الدفن الجماعي إذا اقتضى " الأمن " . بعبارة أُخرى لقد تمكن عاميٌ كسلان جاء من قاع المجتمع والسياسة بالسيطرة على البلد بأحزابه وأفراده ومؤسساته و ماضيه وحاضره  ولم يترك مجالاً الاّ لحالة نعم دائمة له ولشهيته المفتوحة على أكل " سمك المسقوف " . وكان وراء صمت الخائف ومنظر الشواء مسلخة كبيرة لتاريخ والسياسة والمعارضة والناس وساحة واسعة للحرب وإخراج صورة القائد من حضيض الطفولة والإرتقاء بها من الكسل والخمول بين العشيرة وقوانينها الى المدن وساحاتها وغضب أهلها المتآكل في الصمت والخوف . وبالتالي ، أصبحت تلك الصورة المنتشلة بين واحات الطبيعة والقبيلة إلى إشارة يومية للتحذير من خطر الموت ومراقبة الذات من أطياف ( العُبّاد ) المنتشرة في كل مكان ، فأياديهم كانت طويلة كما قال صدام مرة :
- أيادينا طويلة وتصل العدو أينما كان.
    لقد أدى طول اليد في مزرعة البعث وإنغراس الأصابع والأضافر في مكامن الجسد العراقي الى هجرة جماعية من أقاليم الذات والخروج من حدائق الدنيا وقبول موت " اللحظة " أو إختفاء المفاجيء أو إعدام المواسم أو إمحاء الإسم من سجلات القيد قبل الإفناء كحقيقة يومية تتكون من عناصرها الدولة وملحقاتها الإضطرارية لإقناع الفرد والمجتمع بأن هناك طريق واحدة تربط بينهم وبين الحياة ، وهي طريق الصمت والكسل واللا إشتهاء واللاحب واللا " رأي" ، وهي طريق التحذير أبضاً . احذر من الغير ، الجاسوس ، الكردي ، الشيعي ، الشيوعي ، الأجنبي ، المجوسي ، احذر من الهروب من خدمة الوطن ، ومن الإستماع الى الإذاعات العميلة أو الصحف المهرّبة والقصائد المهرّبة والروايات المهرّبة والأفكار المهرّبة ، احذر واحذر واحذر من الحياة المهرّبة .
   في سباق هذه الخطابات المكونة من عناصر التحذير ، أصبح الفرد جزءاً من سيستم أُوتوماتيكي يحرّكه هاجس الخوف من كل شيء ورقيباً على نفسه خوفاً من التخاطر والتذاهن حول " لاءٍ " تقوضت في زمن " العوام" وحاصرته دوائر من التحذيرات . ففي الوقت الذي تحولت دولة " البعث " الى إشارات المرور التحذيرية وعبدت طرقاتها على جسد المتآكلين – العراقيين –  في  صيفها الطويل ، تمكنت بالدخول ليس الى الحياة العامة فحسب بل الى غرف النوم والأحلام أيضاً . وكانت النتيجة بالتالي تحويل الجميع الى فعل " الخشية " ؟!
   أخش ولا تتكلم في السياسة ، لا تتقرب من الدولة ولا تفكر بها ، أخش صديقك ، لا تذهب بعيداً وابقى قريباً من البيت والعائلة والعشيرة ، لا تسمع الاّ للأحاديث التي تتعلق بالأكل والوظيفة والإكراميات الشهرية للموظفين والمسلسلات المصرية والسرقات الليلية المتكررة . كل هذه المعاني التي أصبحت رموز ثقافة " الخشية " تم زرعها في الحياة العراقية مع الثقة المطلقة بأن الجميع يرددها للجميع أو يتمخض عنها الصمت .
   هل حدث هذا ؟ سؤال يواجه كل عراقي اليوم شريطة تخليه عن مفهوم القائد والجيوش الباسلة معاً ، وتأمل في الوقت نفسه تاريخ أمسه والريبة التي كان يعيش فيها ، وكيف بقي حياً لليوم ؟ لا يختلف هذا السؤال عن ( مَن نحن ، أين أمسنا المظلم ، ماذا علينا اليوم فعله ؟ ) . وإذا سأل العراقي هذا السؤال أو هذه الأسئلة بالأحرى فسوف يترك صور " مقتدى الصدر " والجيش المنقذ ويعبد طريقاً لفرديته التي أنتزعتها منه صور صدام حسين . وبهذا يستعيد حريته ويبتعد عن المبدأ الشيعي القائل الذي يقول :
- إذا بقي إثنان على الأرض فيكون واحداً منهم إماماً .
   أن جاذبية " القيادة " والحاكمية وعناصرها المتأصلة في الشعور بالمأسآة  ليست سوى  " الهروب من الحرية " ، لأن مفهوم الحاكمية المطلقة يستوجب إستبعاد المواطنية الفعّالة التي تتجسد صورها في الفردية والرخاء الثقافي والإقتصادي والإجتماعي والنفسي على غرار ما أسسته البروتستانتية في أوروبا والقارة الأمريكية . فبدون الفردية وتجاذباتها المتنوعة ومفاهيمها المتعلقة بإكتشاف التاريخ في مفترقات الطرق وليس في المأسآة والعقم كما يحصل في النظم الشمولية التي تستثمر خوف الناس من الكلام وتجاوز " المحرّم " كإحدى أسلحتها الأديولوجية وآلياتها اليومية لتكريس العبادة والكسل ، لا يمكن الخروج من اليأس والشعور بالمأسآة والركض وراء " أخ كبير" يقود التاريخ كيفما يشاء .
   لم تتورع غالبية العراقيين بعد سقوط دولة " مزرعة الحيوان " – بالإذن من جورج أورويل- عن إعلان الحيرة في المفترق الذي خلفه المغامرون ، وبدل إلتفاتة صغيرة لما جرى الأمس على يد " الرّيس" وزبانيته ، أعلنوا الهروب من الحرية التي جلبها المغامرون الأمريكان والأنجليز ،  وتمكن " شاب متحمس "  للحاكمية على غرار الأمس ايضاً من إستدعاء الآلاف منهم  لجيش منقذ سينتشل الحرية – ليست حرية المحتَل – ولو في بحر من الدماء .
   لأن الحرية لا يستعيدها الاّ الجيش ! أليس هذا هروب من الحرية .









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الزمالك المصري ونهضة بركان المغربي في إياب نهائي كأس الاتحاد


.. كيف ستواجه الحكومة الإسرائيلية الانقسامات الداخلية؟ وما موقف




.. وسائل الإعلام الإسرائيلية تسلط الضوء على معارك جباليا وقدرات


.. الدوري الألماني.. تشابي ألونزو يقود ليفركوزن لفوز تاريخي محل




.. فرنسا.. مظاهرة في ذكرى النكبة الفلسطينية تندد بالحرب الإسرائ