الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رحيل إدوارد سعيد في زمن الخريف

حيان نيوف

2003 / 10 / 2
اخر الاخبار, المقالات والبيانات


 

" باغتتني رغبة حارة بالبكاء ، وبالفعل ذرفت دمعتين يتيمتين ، لم أجد بعدهما ما أذرفه . أليس العجز عن البكاء هو جزء من هذا الخواء الداخلي الذي كان يهيء موتي ، ويعلن عنه ؟ "
ذاكرة النبوءات – سعد الله ونوس

منزل ريفيٌّ يطلّ على غابة تسكنها الأرواح المهاجرة ، مدلّلة ، طيّبة تحضنها الأوراق " المناهضة" لأشعة شمس حارقة تأتي من الشرق .
أمّ عجوز تنتظر أمام هذا المنزل الريفي . الوحشة والانتظار بين عينيها وهي تجلس على كرسيّ مصنوع من خشب السنديان . يمتدّ خدّها على يدها اليمنى ، لتصبح شاردة في قبة السماء لعلّ من تنتظر يعود مع المطر أو نسمات الهواء .
تنتظر عودته من سنين  ، وفي كل عام يحطّ رفٌّ من الدّوري على نافذة غرفتها ليقرأ سورة الغربة والحنين ، ويطير متعبا من تأملاتها المنكسرة في كل مكان نحو ما زرعه ولدها في الأرض وفي قلبها قبل رحيله : شتلة حبق ، عود مسك وياسمين ، وشجرة تين  لا تأكلها سوى العصافير الجائعة .
قالوا لها أنه لن يعود .. فقالت أنها ستنتظره حتى تموت . قالوا لها أنه مات منتحرا على أوراقه ودفاتر أشعاره في بلد المهجر .. فقالت أن الصخور لا تبدو زاهية وقوية إلا عندما تموت على صدرها أعواد الزوفا والزعتر . قالوا له أن ساحرة غربية اختطفته من أوهامه .. فقالت أن الشرقي لا يُختطف إلا من أحلامه ..
وانتظرت عشرين سنة .
مات الديك البلدي العجوز وابنها لم يعد .
تغيّرت الوجوه وتراكمت عليها تضاريس من جبال الحزن  وأنهار الدموع التي لا تجد من يمسحها لأن المناديل البيضاء سُرقت ذات ليلة ...
تغيّر اللوز ، وتدلّت أشجار العنب بين الحجارة هربا من الدوري والدرغل وأبو حن فلم تعد هناك "فزّاعات" تُنصب في البساتين منذ زمان بعيد ...
هنا، في هذا الامتداد الروحي والمشهد المتصدّع ، لن يكون أمامك سوى أن تكتب – لا بل هذا المشهد هو الذي يكتبنا ويطوينا بين حناياه، ويضمنا إلى حين آخر نقرر فيه الهروب من الحرف والرمز كما هرب ولدها عندما كان يصرّ أن الشمس تشرق من خلف الجبال بعد صعودها على سلّم خشبي صنعه والده ، وفي المساء تغيب الشمس عندما يخطفها بحّار ويضعها في قاربه ويرجع بها إلى قريته ...
ثمة كلمة تنضح بين حروفها زفرات محزون ... وثمة حكاية تسقط حروفها مع تساقط أوراق الخريف على الأرض النائمة .

تصادف أن يرحل إدوارد سعيد في الخريف ، فلما ُيكتب على الكثيرين من كتابنا ومفكرينا أن يرحلوا في زمن الخريف أو الشتاء ؟! . لقد رحلوا مرتين : المرة الأولى عندما ُشردوا من أرضهم وأوطانهم ، والمرة الثانية عندما مرضوا وماتوا في أزمان الخريف والشتاء . مع تساقط أوراق الخريف والتحافها بوجه الأرض النقي ، كانت من بين هذه الأوراق ورقة كبيرة تشبه القلب ويسهل عليها انزلاق الدمعة – ورقة اسمها إدوارد سعيد . وكم كان عصيا على العقل البشري المحاط بأشرطة شائكة ، لا ينصبها النواطير بل ينصبها آخرون ، أن يخرج من التيه ومن أسئلة الكون ! وبنفس القدر سيصعب علينا أن نجد دائما أمثال إدوارد السعيد الذي يقول كلمته ويمشي دون خوف ، ولكن بحب للأرض البعيدة هناك خلف العالم المنسي .. . بجدارة ، نعم بجدارة ، نعيش خريفين هذا العام : نعيش نهاية فصل جميل من حكاية محزنة من حكايا أوطاننا اسمها إدوارد السعيد ، والخريف الآخر نعيش فيه ويعيش فينا حتى تكونت بيننا صداقة طويلة. 

إدوارد سعيد ، الذي ولد في الشرق ومات في الغرب ليُحمل نعشه على الأيدي ، لن يتكلم بعد اليوم عن الشمال والجنوب أو الثقافة والإمبريالية . خفت صوته واختطفه مرض خبيث كما اختطف من قبله سعد الله ونوس وكثيرين دون إذن منهم لأنهم أحبوا الحياة ورفضوا الإذعان بسهولة ، وقبل أن يختطفه المرض والموت كان قد اختطفه الاحتلال وأجبره على العيش في المنفى .

سنفهم كلام إدوارد سعيد كثيرا لو قرأنا روايتين مهمتين من أدب " ما بعد الكولنيالية " Post Colonialism   : الرواية الأولي هي "موسم الهجرة للشمال" Season of Migration to the North للروائي السوداني الطيب صالح ، والرواية الثانية هي "أشياء تتداعي" Things Fall Apart  للروائي النيجيري شيناو أشيبي . ففي رواية الطيب صالح سنجد أكثر من شخصية تستخدم لغة المستعمِر لتحدثه وتنتصر عليه بلغته أي محاربته بسلاحه ، وقد نجح الطيب صالح بذلك لأنه قام بتفكيك لغة الاستعمار وخطابه وتحويلها إلى مفردات قابلة للتلاعب من قبل الشعوب المستعمَرة وهذا ما ندعوه بالإنكليزية : Deconstruction of Language  . إضافة لفكرة الحنين للوطن الموجود في الجنوب Nostalgia  . وأما رواية شيناو أشيبي فقد تناولت بتعمق علاقة أهل الجنوب بالأرض ، وهو يكرر في روايته التركيز على الشبه الكبير بين الأم والأرض إلى درجة أصبحت فكرة الأم هي الجنوب وسنجد أن جملة من قبيل Mother is Supreme     قد باتت محورا رئيسا في بنية الرواية . وهذا ما ندعوه بلغة تحليل النص الأدبي في الأدب ما بعد الاستعمار" الأمة والسرد"  Nation and Narration ؛ لنسأل سؤالا في هذا الأدب : أيهما يصنع الآخر الأمة تصنع السرد أم أن السرد يصنع الأمة ؟ وما نلبس نخلص من هذا السؤال حتى ننتقل إلى سؤال آخر أكثر صعوبة واجتهادية : هل هذا السرد ، الذي يصنع الأمة ويكون سلاحا للمواجهة ، يصبح هوية الأمة ؟

تحدث إدوارد سعيد عن كل هذه المفاهيم الأدبية، وحاول دائما أن يجعلها وثيقة الصلة بالأرض وكيفية استمرارها في مواجهة الثقافة المنتشرة من حضن الإمبريالية .  لكن هنا سيخطر ببالي أن طرح مفهوم أدب ما بعد الكولنيالية والاهتمام بدراسته وتحليله كان فخا كبيرا سقط فيه المبدعون غيلة لأن ذكر " ما بعد " يعني أن الكولنيالية قد انتهت وهذا غير منطقي باعتبار أن الكولنيالية استمرت ولو بأشكال جديدة ؛ ومهما كانت هذه الأشكال فإنها حرمت إدوارد سعيد كما حرمت غيره من الأرض " والمكان " .

في كل خريف نخسر مفكرا من هذا الوطن ، وكلما حاولنا نسيانه لترتاح أرواحنا، يذكرنا بموته موت مفكر آخر في وقت مبكر قبل أن يصيح ديك العالم العربي وقبل أن يستيقظ الحلم على رنة منبه الكون المجنون . ضاع خيالنا يا إدوارد ، وأصبح الحلم شوكة في خاصرتنا . وداعا إدوارد سعيد على أمل اللقاء يوما في عالم أكثر نبلا وجمالا من عالمنا هذا حيث قد نجد الحرية والأرض ولا يشردنا الأشرار من أرضنا . وداعا ..

حيان نيوف
كاتب سوري

هاتف
00963 41 810568

 








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الاحتلال يلقي مناشير في معسكر جباليا تطالب السكان بالإخلاء ا


.. مظاهرة في العاصمة الإسبانية مدريد تطالب الدول الأوروبية بالا




.. لحظة استهداف إسرائيلي بمنطقة جباليا في غزة أثناء تغطية صحفيي


.. مظاهرة لعشرات الإسرائيليين بالجليل تطالب بتنحي الحكومة لتخلي




.. أمريكا تعرض على إسرائيل معلومات استخباراتية لتحديد موقع قادة