الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-بعيداً عن بغداد- لقتيبة الجنابي المكان المنفي يعثر على صورته

علي البزاز

2007 / 8 / 3
الادب والفن


كثيراً ما يتمنى المرء الوقوف حازماً ضد رغبته حين ينظر إلى اللوحات التي تصوّر المقاهي والمدن والبشر في تجمعاتهم، متجنباً طرح هذا السؤال: هل يشهد الفن المعاصر تراجعاً في إنتاج ما اصطلح على تسميته خطأً الفن الواقعي؟ وهو يريد من السؤال ان لا تبلغ به الجسارة حد العصيان عندما يجعل الكاميرا الفوتوغرافية بديلاً من الريشة.
شجّعني الكتاب المصوّر، "بعيداً عن بغداد"، والذي أصدره أخيراً الفنان قتيبة الجنابي، لأعلن العقوق حيال ما يسمّى فناً واقعياً، فالكتاب يضم صوراً - لوحات توزعت على أربعة أقسام: الأول صور لمدن أهمها في المجر حيث درس قتيبة الجنابي في مدرسة "براترأوتاسا" عندما غادر العراق منفيّا عام 1978، ولاحقاً حيث أكمل دراسته في أكاديمية الدراما والفيلم في بودابست. القسم الثاني يصور اللاجئين الفلسطينيين في مخيمات لبنان عام 1981، والثالث بورتريهات لفنانين وشخصيات عراقية منفية، إضافة إلى القسم الرابع وهو عن بغداد بعد سقوط النظام وتحت الاحتلال.
دقة الكاميرا وافتتانها باقتناص لحظات حميمية، سواء على الصعيد الإنساني أو المكاني، يحملان على عقد مقارنة بين الصورة الفوتوغرافية وخصوصاً بالأسود والأبيض وتلك اللوحات الآنفة الذكر. ذلك أن التلوين في الرسوم يسعى في المقام الأول إلى التضليل من حيث انه لا واقعي مهما تكن دقة اللون في مطابقة الأصل، فضلاً عن ان اللون هو إنتاج مزاج الرسام وذائقته، مقارنة بالأسود والأبيض اللذين ينبثقان عفويا من الصورة حيث لا غشّ ولا ممارسة خداع على المشاهد. براءة تكاد أن تكون عادلة في واقعيتها، مع حرارة الآنيّ باعتباره زمن الصورة، ترافقها رغبة في التلقائية الطبيعية كحاضنة للصورة، في حين أن هناك تصميماً واعياً لممارسة الخداع في اللوحات، وتأجيلاً للآنيّ. فاللوحة تستغرق زمنا آخر لإكمالها ينضوي تحت المستقبل مثلاً، أياماً أو أشهراً.
يقول الفنان في هذا الصدد إن "للكاميرا الفضل الكبير في إنجاز الصورة تقنيا لكن يبقى للعين أسلوبها وقرارها الحاسم في تعيين لحظة التقاط الصورة، ولذا على المصور أن يعيش لحظة الصورة مثلما يتعامل مع عائلته من ناحية دفء المناسبة. ففي صورة "ليث وفالا " تجسيد لهذه الآصرة التي يخلقها المصور ويعمل من خلالها على الإرتباط بشخصياته التي ستعطيه حتماً الثقة الضرورية لإكمال العمل الفنيّ إن هو اتبع أسلوباً كهذا".
الصورة هي فعل تعايش إنساني حتى مع المكان، وينبغي للمصور أن يكسب ثقة المكان الذي يصوره، ولكي يتمكن من التقاط صورة جميله عليه أن يفوز برضا المكان. استفاد قتيبة الجنابيّ من خبرتة كمخرج أفلام وثائقيّة لينضمّ بسهولة إلى عالم التلقائية غير المتكلِّف. فعالم الصورة الفوتوغرافية يشبه الحدث في الفيلم الوثائقيّ، وإن يكن هذا العالم عبارة عن مكان مجرد أو أشخاص صامتين. الكاميرا تشبه المرأة والطبيعة من حيث ترويض المحيط والإندماج معه من دون عنف، وعدسة الكاميرا تشبه عدسة العين، أما الإنسجام الوظيفي بين العدستين فهو الذي ينظّم هذا الكون الفني. فالمصور هنا هو كالطبيعة متلبسةً بالعين البشرية. الكاميرا مشاعيّة، إسوة بالفرشاة والقلم، لكن لا يُستغنى مطلقاً عن المصور والكاتب والرسام.
تنتمي صور الكتاب إلى التوثيق وشحذ الفهم لمعرفة العلاقة العلنية بين الموجودات. فلا التباسات ولا ألغاز وإنما تضامن صريح بين العين والعالم اليومي، حراسةً للبصر وسهراً عليه، من أجل احتضان الظل والضوء، حيث يستفاد من خبرة المصور في تهيئة الأمكنة وكذلك الأشخاص بشكل نفسيّ وجماليّ ليتحدثوا بالصورة عن تجاربهم. يحنّ المكان إلى ساكنيه ويبوح بشوقه إليهم، على غرار ما يحدث في الفيلم الوثائقي. ففي صور سلوفاكيا 1997، وباريس 1996، وبودابست 2004، نشاهد الإرتباط اليومي بين المكان والبشر من جهة، والفنان من جهة أخرى، بوصفه مدركاً ذلك الارتباط ومحرراً إياه من القيود، حيث تكتمل عفوية التعايش بأن يؤثث البشر المكان الذي بسعيه يؤثث الفراغ. ولأن قتيبة الجنابي هو إنتاج المنفى، كحال معظم الفنانين العراقيين، نراه مأخوذاً بالعلاقة بين المنفى والمنفي. وقد تعمّد الكتاب الاحتكاك الصادق بالناس والمنفى، من خلال صور لمنفيين عراقيين، حيث اللونان الأسود والأبيض يعززان الشعور بمأساة كل واحد منهم. الأبيض والأسود هما أيضاً لونان منفيان على مساحة الورقة البيضاء، حيث يضاف الى المنفى مفهوم آخر غير مفهوم المكان، يشتغل على الحنين والحرمان المنبثقين من البعد.
من هنا تسمية الكتاب "بعيدا عن بغداد" والتي أختلف معها لأن عنواناً كهذا لا يكشف عن قوته إلا ضمن فكرة النفي المكاني. وعليه، نلاحظ مفردات المكان طاغية البوح ( بعيداً، بغداد)، في حين أن فكرة النفي الروحي تشتمل على مفهومي الزمان والمكان معاً وهي أشمل وأكثر مرارة.
من جانب آخر لم يحافظ الكتاب على وحدة التسلسل الزمني والموضوعي للصور ليتسنى للمشاهد أن يتابع التطور، بل هناك حشد عشوائيّ بسبب من فوضى التواريخ. أما حجم الكتاب 22 سم× 26 سم فلم يكن موفقا على المستوى البصري، الأمر الذي ساهم في حشر البصر بما لا يسمح لها بأن تحتل الحيز المكاني الكافي. الا أن ذلك كله لا يحول دون كون الكتاب عملاً توثيقياً حميمياً مرهفاً، حيث الصورة أشبه بعثور على المكان المنفيّ وزمنه وناسه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي


.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل




.. ما حقيقة اعتماد اللغة العربية في السنغال كلغة رسمية؟ ترندينغ


.. عدت سنة على رحيله.. -مصطفى درويش- الفنان ابن البلد الجدع




.. فدوى مواهب: المخرجة المصرية المعتزلة تثير الجدل بدرس عن الشي