الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الديون.. وكوابيس التاريخ

إكرام يوسف

2007 / 8 / 5
مواضيع وابحاث سياسية


كانت مدخلا للتدخلات الأوروبية ثم الاحتلال الانجليزي لمصر


لا أعتقد أن منا من لم يردد في حياته مرة على الأقل مقولة "الدين هم بالليل ومذلة بالنهار". بصرف النظر عن المستوى الاجتماعي والمادي؛ بداية من الديون الشخصية التي تتراوح بين الاقتراض لغرض تعليم العيال أو تزويجهم أو العلاج أو حتى لإسكات الجوع، مرورا بالقروض المتمثلة في صورة أقساط السيارة أو الشقة السكنية، ووصولا إلى القروض الهائلة التي تصل إلى المليارات، لتوسيع المشروعات وزيادة الثروة!. ورغم أننا كأفراد ربما يؤرق الكثيرين منا هاجس كيفية التخلص من الدين وسداده؛ إلا أن الأمر يختلف بالنسبة للدول، حيث تمثل عمليات الإقراض والاقتراض جانبا جوهريا من جوانب حركة الاقتصاد. ونعلم جميعا أن هذا الجانب ذو حدين، ويتطلب ممارسة حذرة وحنكة تداني السير على الحبل المشدود حتى لا يتحول إلى معول تخريب في بنيان الوطن، وثغرة يتسلل منها النفوذ الأجنبي وتتسرب السيادة الوطنية.


وتعلم جميعا كيف تحول عصر الخديو اسماعيل من عصر للنهضة العمرانية والثقافية والفنية إلى عصر التدخلات الأجنبية التي أدت إلى وقوع مصر تحت الوصاية الأجنبية منذ إنشاء صندوق الدين في 1876 الذي تحول إلى دولة داخل الدولة؛ وذلك بعدما تعاظمت الفوائد المتراكمة على الديون. ومن هنا كان اللجوء للاستدانة يحتاج إلى حكومات تعرف تماما أن تحدد متى، وأين، وكيف، تستدين.كما يتعين أن يكون القائمون على هذه الحكومات من أولي العزم الذين لا يجب أن يتميزوا فقط بالحنكة وإنما أيضا بالنزاهة والقدرة الهائلة على مجاهدة النفس الأمارة بالسوء؛ وهو أمر لو تعلمون عظيم.
فهناك من الحكومات التي تستدين لإصلاح خلل ما في اقتصادها ولديها من التصور والخطط لكيفية سداد هذه الديون على النحو الذي لا يتعارض مع مصالحها الاقتصادية ولا السياسية أيضا. بينما تزخر قصص التاريخ بحكومات من أمثال حكومات الخديو اسماعيل الذي كان يستسهل الاستدانة بفوائد باهظة حتى أصبحت خدمة الدين وحدها عبئا ناءت بحمله إمكانيات البلاد والعباد فكان ما كان. كما أن هناك الحكومات التي تسارع بمد اليد للاقتراض من أجل وضع حلول مسكنة لمشكلات حادة بأمل تأجيل انفجار ما إلى ما بعد انتهاء ولاية الحكومة الحالية، ولا يشغل القائمون على هذه الحكومات بالهم بالتفكير في حلول أخرى من قبيل ترشيد البذخ الحكومي وأوجه الصرف المظهرية، على سبيل المثال!

حتى أمريكا واليابان

ولا شك أن الاستغناء نهائيا عن الديون أمرا بات من الصعوبة بمكان، حتى أن الولايات المتحدة صاحبة أقوى اقتصاد منتج في العالم واليابان التي تضعها تقديرات في المركز الثاني بين الاقتصادات المنتجة تعانيان من أعباء دين ضخمة متصاعدة. ويرجع محللون زيادة الديون الأمريكية إلى امتناع الولايات المتحدة عن سداد مبالغ كثيرة من نفقاتها العسكرية التي تعتمد في تغطيتها على الاستدانة من الصين واليابان وكوريا الجنوبية وتايوان والهند وهونج كونج. (ذكرنا في مقال سابق كيف يحذر اقتصاديون وساسة أمريكيون مما أسماه بعضهم بالاعتمادا على "الحبل السري" الذي يربط أمريكا بالبنك المركزي الصيني حتى أن البنك المركزي الصيني أصبح الممول الأول لعجز الموازنة الأمريكية من خلال إقراض أمريكا أكثر من مليار دولار يوميا في صورة مشترياته من سندات الخزانة الأمريكية التي تصدرها حكومة واشنطن لتمويل العجز المتزايد في الموازنة. كما يحذر الخبراء من حاجة الولايات المتحدة إلى استيراد رأسمال يقدر بنحو ملياري دولار يومياً لدفع قيمة نفقاتها الحكومية، مما يفاقم من حالة عدم الاستقرار المالي حيث أن أي قرار تتخذه بنوك آسيا الشرقية بنقل أجزاء كبيرة من أموالها من النقد الأجنبي من الدولار إلى اليورو من أجل حماية نفسها من احتمال هبوط قيمة الدولار لا بد أن يشكل أكبر الأزمات المالية في العالم كله.فيما يرى خبراء أن تفاقم ديون اليابان الخارجية يرجع إلى الجهود التي بذلتها من أجل مساعدة الاقتصاد الأميركي على النهوض، موضحين أن اليابان عملت منذ نهاية الحرب الباردة على توفير الدعم مالي بما يصل إلى 70 مليار لنفقات القواعد العسكرية الأميركية الموجودة في اليابان.

فإذا كان هذا هو حال أكبر اقتصادين منتجين في العالم (تشير تقارير السي آي إيه إل أن الاقتصاد الصيني يأتي في المرتبة الثانية إذا حسبنا التقييم على أساس القوة الشرائية). وإذا كانت تحذيرات الخبراء شديدة من تفاقم حجم الدين في دول بهذه القوة الاقتصادية، فماذا سيكون عليه حجم الخطر الذي يهدد بلداننا النامية من تنامي حجم الدين الخارجي؟ ولا شك أننا جميعا نلحظ سهولة استخدام الدول الكبرى ومنها الولايات المتحدة لورقة المعونة كسلاح للضغط بهدف تمرير سياسات ربما تتنافى مع أبسط مقتضيات سيادة الدول. كما نلحظ نهج التلويح بعصا لمعز وذهبه، كلما تطرقت الدول الكبرى إلى مسألة خفض مديونية الدول الفقيرة، والتلويح بورقة خفض الديون أو شطبها إن لزم الأمر مقابل تقديم المزيد من التنازلات والخدمات التي تصب في خانة مصالح الدول الكبرى على حساب مصالح شعوب العالم الثالث؟

وتشير التقارير الأخيرة إلى أن نصيب الفرد الواحد في مصر من ديون البلاد الخارجية والداخلية بلغ نحو خمسة آلاف وخمسمائة وسبعين جنيها وهو مبلغ يعادل أكثر من خمسة عشر ضعف الدخل الشهري للأسرة لأكثر من أربعين في المائة من الشعب المصري. وكما لو أنه لم يعد يكفي المواطن المصري ما يعانيه من هم الليل ومذلة النهار بسبب ديونه لشخصية لمواجهة همو الحياة اليومية. فإذا بكل مصري ـ رجلا كان أو امرأة أو طفلا ـ يجد نفسه دون أدنى خيار منه محملا بعبء دين يزيد عن خمسة آلاف جنيه تولت الحكومة اقتراضه باسمه ولا يعلم سوى الله وسواها قنوات صرف هذه الديون.

استسهال الديون
هذه الأرقام لم تمنع الحكومة المصرية من إعلان اعتزامها الاقتراض من الخارج عبر إصدار سندات دولية تهدف من خلالها إلى جمع ستة مليارات جنيه أي ما يعادل نحو مليار دولار. وبررت الحكومة هذه الخطوة برغبتها في خلق طلب على الجنيه المصري لتعزيز قيمته في الأسواق العالمية مؤكدة أنه بشهادة صندوق النقد والبنك الدوليين فان ديون مصر الخارجية البالغة حسب أرقام البنك المركزي نحو سبعة وعشرين مليار دولار هي في الحدود الآمنة. ومع ذلك، هناك من يجادل بأنه رغم أن ديون مصر الخارجية تبدو حسب المعايير الدولية في الحدود الآمنة إلا أن الديون المحلية جاوزت كل الخطوط الحمراء المتعارف عليها عالميا إذ وصلت قيمة الدين العام المحلي إلى أكثر من خمسمائة مليار جنيه. ومن ثم، فإن إصدار هذه السندات حسب هؤلاء يفاقم مشكلة الديون إجمالاً وهي النقطة التي تأخذها المؤسسات المالية الدولية على الأداء المالي الحكومي. كما أن هناك تساؤلات بشأن مبررات الاستدانة من الخارج في الوقت الذي تتمتع فيه البنوك المحلية بسيولة كبيرة. ولم يجهد القوم أنفسهم في البحث عن سبل أخرى لتجنب زيادة حجم الدين؛ كمحاولة
سد الثغرات المتمثلة في المخالفات المالية التي ترصدها حتى التقارير الرسمية لحكومية مثل تقرير الجهاز المركزي للمحاسبات الذي رصد مؤخرا نحو ست عشرة مخالفة مالية!، ومن بينها على سبيل المثال "استخدام جانب كبير من أموال بعض الصناديق والحسابات الخاصة في غير الأغراض التي أنشئت من أجلها... ومن أمثلة ذلك تأثيث مكاتب قيادات الإدارة المحلية‏،‏ وتجهيز قاعات الاحتفالات فضلا عن مصروفات متعلقة بالدعاية والإعلان والعلاقات العامة ونشر التهاني والتعازي وصرف المكافآت‏.‏" وأيضا "‏استمرار تجنيب جانب من أموال الصناديق والحسابات الخاصة في صورة ودائع بالبنوك التجارية‏,‏ أو منح بعض الجهات قروضا وسلفا وإعانات دون اتخاذ الإجراءات اللازمة لتحصيلها الأمر الذي ترتب عليه عدم الاستفادة منها في تحقيق الأغراض المنشأة من أجلها‏." حسبما ورد في تقرير الجهاز المركزي للمحاسبات عن الأداء المالي للحكومة للسنة المالية‏2004‏ ـ‏2005. ويلاحظ التقرير نسبة أن أعباء خدمة الدين العام الحكومي إلى إجمالي استخدامات الموازنة نحو‏24.6%,‏ وإل إجمالي الإيرادات الفعلية نحو‏37.3%‏ الأمر الذي يشير إلى أن أعباء خدمة الدين العام الحكومي أقساط وفوائد تلتهم أكثر من ثلث إيرادات الموازنة العامة للدولة‏.‏


أما النقطة الأكثر إثارة في هذا الجدل تتضح من أن بعض هذه السندات التي تطرحها الحكومة المصرية تزيد الأعباء الملقاة على عاتق الاقتصاد المصري حيث وصلت أسعار الفائدة على السندات التي تقدمها الحكومة للمشترين الأجانب، إلى أربعة أضعاف معدلات الفائدة العالمية وكمثال على ذلك إصدار طرحته الحكومة المصرية عام 2001 يستحق عام 2010 بقيمة مليار دولار وسعر فائدة 11% في الوقت الذي كانت فيه معدلات الفائدة العالمية علي السندات بالأسواق الخارجية لا تتجاوز 3%. أضف إلى ذلك ما ينبه إليه محللون من قيام الحكومة باستثمار قيمة هذه السندات في سندات خزانة أمريكية بالولايات المتحدة الأمريكية وبفائدة 75.3%، بما يعنيه ذلك من أعباء زائدة على اقتصاد البلاد.
يضاف إلى ذلك، ما يثار من شكوك حول الكيفية التي سيتم بها استخدام حصيلة بيع هذه السندات. فهل سيجري استغلالها في أنشطة إنتاجية أم في مجرد سد العجز المزمن في موازنة الدولة ـ في تكرار لتجربة الخديو اسماعيل ـ وبالتالي فقد تتحول إلى عبء هائل عند سدادها ليكون مصيرها مماثل لمصير جانب كبير من حصيلة الخصخصة التي بلغت خمسين مليار جنيه ورغم ذلك لم يحس المواطن العادي حتى الآن على الأقل بـتـأثير إيجابي لها على مستوى معيشته..

لا شك أننا نعلم جميعا كيف تطورت الأحداث بعد زيادة عبء الدين العام في عهد الخديو اسماعيل حتى وصلت إلى تدخل الدول الأوروبية الدائنة في شئون مصر على نحو سافر منذ إنشاء صندوق الدين وحتى تشكيل لجنة التحقيق الأوروبية العليا، التي صار لها حق التحقيق في ميزانية البلاد وإيرداها وطرق صرفها لضمان حق الدائنين، وانتهى بها الحال إلى أن اعتبرت الخديو نفسه مشولا عن العجز في مازنة البلاد، وطالبته بالتنازل عن اطيانه وأطيان عائلته لسداد هذا العجز، ونزل بعض الأمراء والأميرات عن جزء من أملاكهم رهنت فيما بعد لضمان سداد قرض. وتوالت الأحداث إلى أن سعت اللجنة لدى الدولة السنية في الآستانة لعزل الخديو إسماعيل وتعيين ولده الخديو توفيق الأمر الذي تم في عام 1879 ، وكان تمهيدا للاحتلال الانجليزي بعد أربع سنوات. فهل يتعظ من يستسهلون اللجوء للاستدانة من الخارج؟ وإذا كانت لجنة التحقيق الأوروبية وجدت في أطيان الخديو وعائلته ما يمكن أن يضمن حقوق الدائنين. فما الذي سنفعله، وأي ضمانات يمكن أن نقدمها للدائنين الأجانب تجنبنا مخاطر تدخلاتهم. وخصوصا وأن وتيرة بيع أصول الدولة وشركاتها في تسارع لا يطمئن بإمكانية الصمود إذا ما حاول الدائنون استخدام ورقة الديون للنيل من استقلالنا وسيادتنا. بينما لم تعد هناك أطيان الخديو اسماعيل وأسرته التي يمكن أن تكفي لسداد ديون البلاد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مقتل حسن نصر الله.. هل تخلت إيران عن حزب الله؟


.. دوي انفجار بعد سقوط صاروخ على نهاريا في الجليل الغربي




.. تصاعد الدخان بعد الغارة الإسرائيلية الجديدة على الضاحية الجن


.. اعتراض مسيرة أطلقت من جنوب لبنان فوق سماء مستوطنة نهاريا




.. مقابلة خاصة مع رئيس التيار الشيعي الحر الشيخ محمد الحاج حسن