الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كيمياء المشاعر - قطط حمراء و فئران زرقاء

إبراهيم إستنبولي

2007 / 8 / 10
الطب , والعلوم


في يوم من الأيام ، عندما كنت اعمل طبيباً متمرناً في مشفى كاشينكو ، احضروا فتى على أبواب المراهقة . لم يكن يقاوم عندما راحوا يغيرون ملابسه ، لكنه كان طوال الوقت ينظر إلى ما حوله و يلقي نظرة عابرة على أرضية المكان . كانت تنعكس على وجهه علامات الخوف تارة ، و علامات الحيرة تارة أخرى . و وفقاً لإجاباته القصيرة كان يمكن التخمين أنه لم يكن يعرف بشكل جيد إلى أين جاءوا به . كان قلبه يخفق بسرعة ... أما والدته المرتعبة فلم تستطع أن تشرح شيئاً بالشكل الكافي . بصعوبة استطعنا أن نفهم ما يلي : كان صبياً كجميع الصبيان ، سليم البنية تماماً و فجأة جاء في مساء أحد الأيام و هو بحالة هياج و اضطراب شديد . راح يضحك ليلاً و صار يركض في الغرفة يحاول القبض على فئران ما ، متسائلاً لماذا هي الفئران زرقاء اللون ...
- ماذا ترى ، يا كوليا ؟
ابتسامة ارتباك و قلق ، صمت ... نظرة كلها خوف و فضول تتجه إلى جهة ما وراء السرير ، كما لو يراقب شخصاً ما متسللاً ...
مَن هناك ؟
يصمت .
يوضع في سرير في غرفة خاصة تحت المراقبة ..
يستلقي بهدوء ، أحياناً ينتفض ، يتطلع حوله ، يحاول ضرب شخص ما على السرير ، يستكشف تحت السرير ... و أخيراً يسحب الغطاء عليه حتى رأسه بالكامل و يغفو .
في صباح اليوم التالي :
- دكتور ، هل يمكنني أن أسألكم متى سيتم تخريجي من هنا ؟
سلوك طبيعي تماماً . فقط بعض الكسل و بعض الإحباط .
اصابتني حيرة . هذا لا يشبه الفصام . و الإهلاسات البصرية يمكن أن تصادف في حالة الإدمان الكحولي – مع تطور ما يسمى بالذهان الكحولي Alcoholic Delirium . و لكن لا ينطبق بتاتاً على تلك الأعراض .
و مع ذلك قلْ لنا ماذا شاهدت ، يا كوليا ؟
لا شيء مهم ... مجرد فئران كانت في البيت . فئران سوداء .
و هنا ؟
هنا قطط . قطط حمراء . صراصير .
و الآن ؟
لم أعد أرى شيئاً .
كان كوليا قليل الكلام . لم نفهم شيئاً . لا بد لنا من الاستعانة بقسطنطين ماكسيميتش . ها هو يمشي مستقيماً ، أشيب الشعر ، بعينين سوداوين حزينتين ، يعرج ببطء وسط المرضى ، يجلس على السرير و يتكلم بهدوء مع كل مريض عن شيء ما . طيار في السابق . في البداية كانت الحرب ، أصيب بجروح . ثم دراسة الطب و التخصص بالأمراض النفسية . طبيب ممارس لا يهتم بالمناصب و بالراتب . و ببساطة رئيس قسم الحالات الحادة .
يمتاز بصفتين مدهشتين : الأولى – يتحدث مع كل مريض كما لو أنه ، أي قسطنطين ماكسيميتش ، يعرفه منذ زمن بعيد ، و بالتالي تنشأ لدى المريض ردة فعل كما لو أنه هو الآخر ، أي المريض ، يعرف الدكتور منذ زمن بعيد ؛ الثانية – خلال 3 – 4 دقائق ينشأ انطباع و كأن الحديث استمر لأكثر من ساعة ، فالمريض راض و صار يشعر كما لو أن قسطنطين ماكسيمويتش هنا لأجله بالضبط . يا له من فن .
قطسنطين ماكسيميتش ، من فضلكم انظروا ...
هكذا هو الأمر . أنا تمعنتُ لكنني لم أشاهد . لقد تطلعت في العينين و لم أرَ الحدقتين . لقد بقيتا متوسعتين طوال النهار مع أن الذهان لم يعد موجوداً . أما قسطنطين ماكسيميتش فقد اخرج الجواب ، كما الأبرة عن طريق الخيط ، من حدقتي كوليا . مجرد سؤال – سؤالين في الصميم ، و كل شيء أصبح واضحاً .
لقد كان المذنب هنا – الأتروبين Atropine . عقار معروف يستخدم لتخفيف الألم الناتج عن القرحة المعدية . و هو يسبب توسع شديد في الحدقتين . مساء في باحة المنزل أخرج رفيق كوليا عبوة صغيرة و قدمها مقترحاً تجريبها : سوف تكون كالسكران . كوليا شربها دفعة واحدة بدون تردد ( علماً أن الجرعة العلاجية – بضعة نقاط فقط ) .
يمكن تخريجه بعد يومين . اكتبوا قصة المرض .
كان يمكن أن تنتهي القضية بشكل أسوأ . من المصادر الطبيعية للأتروبين - نبات ست الحسْن ( البلادونا ) ، نبات الداتورة ( البنج ) . و هناك نبات آخر ، يحتوي على الأتروبين ، قدّم للبشرية شخصية معروفة بشكل جيد للجميع : العجوز التي التهمت فطور السيكران ، الأكثر براءة ، على الأرجح ، من بين الوسائل الحديثة المستخدمة في أبحاث الذهانات الاصطناعية .
بالمناسبة ، إن تاريخ الكيمياء العقلية أو Psycho- chemistry لم يبدأ من هذه العجوز بتاتاً ، بل على الاغلب قبل ذلك بكثير .
راح الجنود المسلحون يتمرغون على الأرض كالوحوش ، و هم يضحكون كالمجانين ، يصرخون ، يشوهون وجوههم و يتحدثون بعبارات بذيئة جدا – هذا ما حدث مع جنود القائد الروماني انطونيو قبل حوالي 1500 سنة . كما راحوا يقلبون كل حجر يصادفونه في الحقل . ربما هم أيضاً راحوا يبحثون عن تلك الفئران الزرقاء . لقد تسمم الجنود إذ تناولوا نبات البنج . إنه مصدر طبيعي لمادة الأتروبين و قد اطلقوا عليه في القرون الوسطى اسم " نبات الشيطان " أو " نبات السَحَرة " .
إلا أن جنود أنطونيو لم يكونوا أوائل المجرّبين لمادة الأتروبين . فقد كانت مشعوذات ديلفي ، كما يُعتقد ، يتنبئن تحت تأثير البِلادونا ، و أن تسمية " أتروبين " بحد ذاتها مشتقة من اسم إلهة المصير عند اليونان القدماء ، التي تقوم بقطع خيط الحياة البشرية .
لقد استخدموا الأتروبين في أوروبا بهدف التسميم ، من أجل الابتزاز ، للتمويه و إدعاء المرض ، من أجل استخراج الأسرار الدفينة – بكلمة واحدة ، إن عدد الحالات التي كان يستخدم فيها الأتروبين كبير جدا . و بالمقارنة مع هذا السيرة الغنية ، فإن الاستعمال المعاصر للأتروبين في حالة الألم تبدو عملاً نفعياً بائساً Bad Utilitaris . كما استخدمه الهنود في أمريكا و كانوا يلقبون المدمنين على عقاقير الأتروبين – " الجثث الحية " ...
يجب القول أن الهنود قدموا مساهمة محترمة جدا في علم الأدوية النفسية المعاصر . فهم أول مَن دخّنوا التبغ ، كما كانوا أول مَن جرّب استعمال المواد الأخرى ، التي صارت مشهورة في أوروبا فيما بعد .

المسيح و الصبّار

" هل شربتَ أو أعطيتَ آخرين ليشربوا البيوتلْ و ذلك من أجل الكشف عن أسرار أو إيجاد أشياء مفقودة أو ضائعة ؟ " – هذا السؤال كان من بين الأسئلة التي كانت السلطات الكاثوليكية تطرحها على الهنود عند وعظهم بعد أن تم احتلال المكسيك من قبل المستعمرين الأسبان .
و قد كان الهنود يطلقون اسم البيوتلْ على نوع خاص من الصبار و على العقار المستخرج منه . كان العقار يحتوي على مادة الميسكالين Mescaline ، التي تسبب حالة شبيهة بالسُكْر مع تهيؤات بصرية عجائبية .
كان الاستيك يعتبرون البيوتلْ من مصدر إلهي . لذلك سارعت السلطة الجديدة ، الكاثوليكية ، إلى اعتبار البيوتلْ " مصدر كل الشرور " أو " أصل الشيطان " . ( كان الشيطان في ذاك الزمن يجسِّد كل ما هو غامض و مريب من الناحية الايديولوجية ) . و مع ذلك لم يتقيد الهنود بالحظر . و بالفعل كيف يمكن الإمتناع عن الوسيلة التي تحمي من الأخطار و الأمراض ، و تمنح الحظ و الشجاعة و العمر المديد ، و إذا ما تمت خياطته إلى الزنار ، فإنه يجبر أي حيوان متوحش إلى الهروب ؟
استمر الهنود في تناول البيوتلْ بشكل سرّي ، و في بعض مناطق أمريكا لا زالوا يستخدمونه إلى الآن . و قد انتهى الأمر في النهاية بطريقة الصفقة Сompromiss . فقد تحول الصبار إلى أحد رموز السيد المسيح . و إلى اليوم يمكن أن نشاهد كيف أن الهنود يصلِّبون على صدورهم بمجرد أن تقع أعينهم على البيوتلْ .
و خلال هذه الفترة راح البيوتلْ – ميسكالين ينتقل إلى المستشفيات و معاهد البحوث و ذلك اعتباراً من تسعينيات القرن العشرين .

" رأس دانتي في الجهة اليسرى "

... بقعة زرقاء على الموقد . تتحول إلى ضوء أزرق متوهج يغطي كل شيء في الغرفة . و لمعت علبة السجائر كالكركهان ( الأماتِسْت ) . إحساس ضاغط بقرب الإصابة بلوثة الجنون و مع ذلك هناك فضول المراقب الحيادي . كل ما يجري يبدو غريباً و لا أهمية لـه . تملأ كل المساحة البصرية مياه خضراء ، و فيها تنغل ملايين الكائنات الحية الدقيقة .
غناء في الأذُنين .
غياب الرغبة في الحركة .
أسماك بلون كارنجي تطير في الهواء ...
عند محاولة مدّ اليد و ملامسة الطبيب المتفحص تتطاول الأصابع كالأفاعي .
فجأة يختفي كل شيء .
العودة من صالة الرؤية إلى حيث الضوء النهاري .
هذه هي المعاناة ، التي عاشها أول فنان يوافق على الخضوع للتجربة بتناوله المسكالين في مركز الأبحاث .
فنان آخر قام برسم إهلاساته الشخصية بعد أن تناول المسكالين . كانت اللوحة تشبه إلى حد لا يطاق منظر الأوعية في قعر العين .
" كان الشاي مالحاً . و اللعاب صار طعمه رائعاً لدرجة كنت سأطلب قنينة أخرى منه لو أنه كان خمراً " – هكذا نقل انطباعاته شخص آخر ، طباخ ، بعد أن خضع للاختبار .
قام الطبيب غوتمان بتناول المسكالين بنفسه . راح يشاهد عدداً من السيارات الصغيرة التي تغير شكلها باستمرار ، دون أن تتحرك من مكانها . بعد مرور ثمانية أعوام من تناول المسكالين تكررت نفس الرؤية بدون مسكالين - في حالة الإرهاق الشديد و على أثر تناول مشروب كحولي .
أما المدمن الكحولي فقد صرّح بعد تناول المسكالين ما يلي : " يوجد فيَّ شخصان – سكران و غير سكران ، أنا أشاهد نفسي غير سكران ، و الآخر – سكران ؛ أنا نفسي الثاني ، أكافح لكي اُخرِجَ السكرانَ مني " .
تظهر عند مريض الفصام هلوسات من تلقاء ذاتها بدون مساعدة المسكالين . كانت الأصوات تأتيه من الخارج و تشتمه بكلمات بذيئة و تتهمه بجرائم حكومية قاسية ؛ لم تكن الأصوات البطيئة في داخل الرأس أفضل من الخارجية من حيث المضمون ؛ أما الأصوات السريعة داخل الرأس فقد كانت تثرثر كلاماً غير مفهوم . بعد تنوال المسكالين صمتت جميع الأصوات ! و لم تعد تظهر أية إهلاسات بصرية . لقد اقترب المريض بعد تناول المسكالين إلى الحالة الطبيعية لفترة قصيرة .
و أخيراً ، تجارب عالم الأدوية الفرنسي روييه Ruieh ، التي أوردها ل . ل . فاسيلييف في كتابه " الإيحاء عن بُعد " . " تم اختبار تأثير البيوتلْ على مهنس شاب Т. ثم حاولت السيدةС أن توحي لـه عن بُعد هلوسة بصرية – تمثال نصفي للشاعر دانتي . بعد ثلاث دقائق أعلن الخاضع للاختبار ما يلي :
" رأس دانتي توجد بشكل واضح في الجهة اليسرى " .
بعد ذلك ، و بنفس الطريقة ، أوحي لـه شكل إهلاسي للذئب . أعلن الواقع تحت الاختبار : " غابة ؛ شعور بالوحدة ؛ هناك ذئب ينظر إليَّ " .
كما نلاحظ ، إن البيوتلْ استطاع أن يثبت حضوره في أوروبا و من زوايا مختلفة جداً . لقد كانت له مشاركة هامة في الفن و قد تخطاها إلى مجال التخاطر عن بعد ( و سوف يتم الحديث عن التخاطر في واحد من الفصول اللاحقة ) . لكننا نمتنع مبدئياً عن التعليقات و نعود إلى التاريخ .

الخيانة الكيميائية

بعد الصبار تنتظرنا هنا الفطور . و من جديد – الهنود .
" كانوا يشربون الشوكولاته و يأكلون الفطر بالعسل ... بعضهم كان يرقص ، يبكي ، أما الآخرون ، الذين حافظوا على بعض وعيهم ، فقد ظلّوا في أماكنهم و راحوا يتمايلون برؤوسهم . في رؤاهم كانوا يراقبون كيف هم يقتلون في المعارك ، كيف تلتهمهم وحوش مفترسة ، كيف يأخذون العدو أسيراً ، يصبحون أغنياء ، يخونون أزواجهم ، كيف تكسر رؤوسهم ، يتحولون إلى حجارة أو يغادرون الحياة بسلام ، يسقطون من علو يعادل ارتفاع البيت و يموتون ، و عندما ينتهي مفعول الفطر ، كانوا يقصون لبعضهم البعض محتوى رؤياهم " . لقد روى القس الفرانسيسكاني بيرناردينو دي ساهاغون Bernardino de Sahagun في كتابه " التاريخ العام لأسبانيا الجديدة " الصادر في عام 1546 ، عن عقار آخر مقدس قامت الكنيسة الكاثوليكية بالاعلان عن اعتباره من " نتاج الشيطان " .
الفطر السحري تيونانكاتل Theonankatl . لقد وجدوا رسوماً حجرية لـه في غواتيمالا ، في زمن حضارة المايا التي كانت قائمة قبل آلاف السنين . تحت قبعة الفطر يوجد مغروساً في الساق رأس صغير قريب بشكله من رأس الفأر أو حتى رأس إنسان ؛ الوجه ينظر إلى الأعلى قليلاً ، بطريقة متوحشة بعض الشيء و بحذر . إنها الروح . و قد تكررت القصة مع هذا الفطر : بعد إعلان حظره من قبل الكنيسة فإن تأثيره المرتبط بالسحر لم يختفِ ، لكنه أصبح سرياً . لقد أخفى الهنود سرَّ التيونانكاتل عن الإنسان الأبيض حوالي 400 سنة ، و بطريقة ذكية بحيث أن أحد علماء النبات الأمريكيين اتهم عام 1915 القس الاسباني بارتكاب الخطأ . إذ أكد أن بيرناردينو دي ساهاغون قد خلط بين الفطر و مسحوق البيوتلْ . إلا أن العلماء اكتشفوا رأس الخيط في الثلاثينيات من القرن العشرين . فقد قام علماء الإثنيات ، الذين زاروا الأماكن البعيدة من جنوب المكسيك ، بالاطلاع على الطقوس المرتبطة بالتيونانكاتل .
لقد قرر الإنسان الأبيض أن يجرّب بنفسه . فقام الامريكي وايسون بالاشتراك مع هنود إحدى القرى النائية بممارسة ذاك الطقس السحري . إذ تناول اثني عشر فطراً في كوخ ضيق ، حيث كان الهنود يجلسون حول المذبح في المعبد . و أمام المذبح راحت عجوز ساحرة تتمتم التعاويذ بدون توقف .
كانت تتكرر بإصرار في الرؤى الخيالية للأمريكي زخارف هندسية تشبه إلى حد غير معقول زخرفات الثقافات الهندية .
كان ذلك في عام 1955 ، و بعد عامين تجرأ عالم الكيمياء النباتية السويسري هوفمان من تناول 32 فطراً مجففاً بالكامل و ذلك في المختبر الذي كان يرأسه . ( في ذلك الحين كان خبراء الفطور الفرنسيين قد تعلموا زراعة فطر التيونانكاتل كما هو الأمر مع فطر الـشمبانيون ) .
" بعد مرور نصف ساعة تغير كل شيء من حولي بدرجة مدهشة ، و اكتسب طابعاً مكسيكياً . كنت أفهم أن معرفتي بأن المكسيك هي مصدر هذه الفطور ، يجعلني قادراً على رؤية لوحات مكسيكية بالتحديد ، ولذلك سعيت عن وعي لأن احتفظ بتصوري الصحيح عن العالم المحيط . و لكن ، بالرغم من كل جهودي ، فإن محاولاتي أن أرى أشكالاً و ألواناً عادية قد باءت بالفشل . سواء مغمض العينين أو بعينين مفتوحتين ، كنت أشاهد تزيينات هندية مع ما يميزها من تمازج في الألوان . و عندما انحنى الطبيب فوقي كي يقيس التوتر الشرياني ، فقد تحول أمامي إلى كاهن من الأزتيك ، الذي يقوم بتقديم القربان ، و لِما كنتُ دُهشِت لو أنه ظهرت في يده سكين من الأوبسيدان ( الزجاج البركاني ) . و على الرغم من كل جدية التجربة ، فإنني لم أستطع الإمتناع عن اللهو و الضحك عند رؤيتي كيف أن وجه زميلي المعروف لي صار يشبه وجه الهندي . و بعد حوالي ساعة و نصف من تناول الفطور ، فإن طغيان المشاهد الداخلية – و قد كانت في أغلبها ، مشاهد مجردة ، لوحات تتغير بسرعة من حيث الشكل و اللون – قد وصل إلى حدٍّ كبير ، بحيث أنني خشيتُ أن أذوب و أضيع في دوامة الأشكال و الألوان . بعد ست ساعات تقريباً انتهى الحلم . أما أنا فلم يكن لدي أي تصور عن مدة تلك الحالة ، التي فقدت فيها الإحساس بالزمن . و قد كانت العودة إلى الواقع المحيط بمثابة العودة إلى الوطن من عالم آخر لكنه حقيقي تماماً " .
لقد استخلص هوفمان من الفطر المادة الكيميائية الفعالة و أعطاها اسماً " بسيلوسايبين Psylosypin " ( من الاسم العلمي باللغة اللاتينية للفطر " Psylosipes " ) .
و عندما قام بتحليل التركيب الكيميائي للبسيلوسايبين ، فقد اكتشف معلومة في غاية الأهمية .
تبين أن " البسيلوسايبين " يشترك في تركيبه الكيميائي مع " مصدر الطاقة " للخلايا العصبية عند الإنسان ! إن أساس البنية في ذلك " المصدر " هو مركب الايندول Indol – المادة العضوية ، التي تقوم بدور العمود الفقري بالنسبة للكثير من المركبات الهامة بيولوجياً ، و بشكل خاص تلك التي تستخدم الخلايا العصبية .
هذه القرابة تدفع للتفكير بالاستبدال ! أليس من الممكن أن يكون البسيلوسايبين قادراً على دخول الخلايا العصبية كمفتاح غريب في قفل غير مخصص له ؟ أليس وارداً أنها تحدث تقليداً ( تنكراً ) كيميائياً ؟
إن البسيلوسايبين ، المسكالين و المواد الأخرى ، التي تسبب حدوث الذهانات الاصطناعية ، قد حصلت على هذه التسمية " بسايكو – ميميتيك Psycho-mimetic " ( من الكلمة الإغريقية " mimeo " - أي أمثل ، أتصنع ) . كما يسمون هذه المواد " مُسبِّبات الإهلاس Hallucinogens " . جميعها تقريباً تحتوي في أساسها الكيميائي على مركب الإندول . إن البسياكو – ميميتيك هذه ، و هي تحل مكان المصدر الطبيعي " للطاقة العصبية " تعبر ، على الأرجح بطريقة الغدر ، إلى الآليات الحميمية للتبادل الحاصل في الخلايا العصبية . يمكن مقارنة تأثيرها بتأثير المضادات الحيوية على الجراثيم . فالمضادات الحيوية شبيهة جداً من حيث التركيب بالمواد ، التي تستخدمها البكتيريا ؛ و لذلك فإن أنظمة التمثيل في البكتيريا " تلتقطها " بكل رحابة " دون أن تلاحظ " الفخ المنصوب لها . و هذه المواد تختلف عن الطبيعية قليلاً فقط ، لكن هذا القليل يسبب حصاراً لتبادل المواد في البكتيريا و بالتالي قتلها . و كيف الحال مع " مولدات الذهان " ؟ إن ذاك " القليل " عندها يسبب اضطراباً في عمل العصبونات ...
إن الرغبة كبيرة لمعرفة : هل رؤية الـزخارف ( الأورنامينت ) الهندية عند وايسون و هوفمان هي مصادفة أم لا ؟ بكلمات أخرى ، هل هي ناتجة عن تأثير كيميائي صرف أم لعبت دوراً محورياً عملية التوجيه النفسي المسبق ؟
من الصعب أن نعرف الجواب . لكن الاحتمال الأخير يبدو أكثر رجحاناً .
في الوقت الحالي إن البسيلوسايبين أصبح من " المقيمين " الدائمين في مشافي و مختبرات العالم ، و إن اللوحات النفسية الناتجة عن استخدامه ليست أقل تنوعاً عن تلك التي تحدث تحت تأثير المسكالين . بالنسبة للبعض يحدث إكتشاف " الجمال السامي " ، " مغزى الأشياء " ؛ عند آخرين ينشأ ببساطة شعور بالقرف . البعض ينغلق على نفسه ، بينما آخرون ، كما حدث مع الكاتب الفرنسي ميشو ، يميلون إلى المصارحة إلى درجة " إنقلاب كلي إلى الخارج " . لقد شرح ميشو ذلك فيما بعد بأن فقَدَ المستقبل عنده أية قيمة بعد تسممه بالبسيلوسايبين . أما بخصوص الزخرفات الهندية ، فإنها لم تظهر فيما بعد ، على ما يبدو ، عند أحد . بل كانت المواضيع تتغير : أحد الخاضعين للتجربة في أحد المختبرات صار يسمع أصوات هاندل و موزارت .
إن إحدى الخصائص الأساسية لمنظومة الفكر ( النفس ) عند الإنسان – أنها فريدة ، لا تخضع للتكهن ، أو بالأحرى من الصعب توقعها بشكل كامل . النفس – هي نوعاً ما عبارة عن ارتجال موسيقي Improvisation Music ، إنها تشبه اللحن المتدرج في تطوره . و هل يمكن لصاحب الخيال أن يعرف إلى أين ستقوده مجموعة متصلة من الأصوات ؟ و مع ذلك هو يعرف ، و أصابعه ذاتها تشعر على أي مفتاح يجب أن تضرب ، و كل صوت يُولد على نهاية الأصبع السابق . من الصعب أن تُكررَ الفعل حتى لو أردت :
في أحسن الأحوال ستكون مجرد تغير لموضوع واحد ، لكنه تغيرٌ متنوع ، يبتعد بالتدريج عن النموذج الأصلي .
إن ميزة العقل هذه تحيّر بعض الباحثين ، و ليس الباحثين فقط ، بل و جميع الناس الذين يفكرون بشكل جامد ، بشكل تقني ، ذلك أن الفرادة تخيفهم و يصعب عليهم الوقوف بوجهها . لكن إذا ما فكرنا ، أليس فيها يكمن مغزى الطموح الدائم نحو المستقبل ؟ أليس نمو مستوى العقل هو ، بالاضافة لأشياء أخرى ، عبارة عن زيادة في مقياس الفرادة ؟ مَن سيتمكن في يوم من الأيام من حساب هذا الثابت " الزئبقي " ؟
لقد تم في تاريخ الكيمياء النفسية تسجيل نتائج باهرة جداً لمختلف التجارب ، التي قام بها البشر و الوحوش في مطبخ الطبيعة الكيميائي الهائل . فقد تم فيها جمع مختلف المطابقات الكيميائية المدهشة ، التي تختفي تفسيراتها ، على الأرجح ، خلف مدوّنات تأريخ نشوء الحياة .
أين هي جذور الشغف القاتل للقطط – المدمنة على الفاليريان Valerian ؟ ما هو المغزى من هكذا شغف يجبر الحيوانات السكرانة على الدوران بشكل جنوني هناك ، حيث تم سكب بضعة نقاط من الشراب؟ يجب الافتراض أن القطط لم تكن قد عرفت الفاليريان في الطبيعة قبل أن يُدلّها عليه الإنسان ، إذ لو كان عكس ذلك لما كانت استمرت في الحياة .
إن هذا العقار المهدئ ، الذي تم اختباره دون أن يشكل ضرراً على الإنسان ، يجعل القطط مجنونة و لا تعود تذكر أي شيء آخر ، كما هو الحال مع الفئران المخبرية في تجارب أولدز – السلك المزروع في " الجنة " الدماغية . بماذا يمكن تفسير ذلك ؟ يبدو فقط بأن جزيئة الفاليريان تمتلك جاذبية كيميائية قوية جداً نحو " النعيم " في دماغ القطط . و قد انتظر هذا التطابق العفوي في الطبيعة لحظته المناسبة . ألا يعتبر التأثير المهدئ اللطيف لشراب الفاليريان عند الإنسان - الكابح " لجهنم " – عبارة عن ظلّ باهت لحفلة " الجنة " التهتكية ( Orgium ) عند القطط ؟
نلتقي مع الفطر العجيب أيضاً في صفحة من تاريخ البلدان الاسكندنافية . فقد حفظت الذاكرة الشعبية قصص المحاربين الشجعان لحد الجنون (البيرسيرك ) – أي الجنود الذين يحاربون و هم عراة الصدور ( من كلمة ber serk “ - " عاري الصدر " ) .
فما هي الفطر الذي كان يأكله جنود الـBer serk لكي يبعثوا الغضب الاصطناعي في نفوسهم ، فقد بقي الأمر غامضاً ، و لكن بالتأكيد إن الأمر يتعلق بنوع من التسمم و بنشوء حالة ذهانية . كان يحدث ترفع حروري ، انتفاخ في الوجه مع تبدل اللون ، و كان المحاربون يعوون كالوحوش الكاسرة ، يعضون دروعهم و يندفعون إلى ضرب و قتل كل مَن يقع في طريقهم : الدواب و البشر ، الأعداء و الأصدقاء . و قد استمر الأمر على هذا المنوال إلى أن تم صدور قرار ملكي خاص بمنع ظاهرة الـBerserkism و صاروا يعاقبون عليه بشكل صارم . و كان العقاب يطال ليس المدمنين فقط بل و مَن يساعدهم في الحصول على ذلك . و كان يُطلب من المحيطين بتكبيل المقاتلين المتسممين على الفور . بعد هذه الإجراءات الحاسمة اختفت ظاهرة الـBerserkism .
إن الكيمياء النفسية تؤثر ، على الأرجح ، على البشرية بدرجة أعمق و أدق ، مما سبق لنا أن نتصور . و كيف سيكون الوضع لو أننا حذفنا نظرياً المخدرات و الكحول من تاريخ البشرية ؟ من الصعب أن نتخيل ذلك ، لكن يمكن الافتراض أن اللوحة العامة للطباع ، للأخلاق كانت اختلفت تماماً عن الحالية و كحد أدنى إلى تلك الدرجة ، التي تختلف معها ذهنية الصاحي المتوسط عن ذهنية المدمن المتوسط .
و ربما أكثر من ذلك بشكل كبير . " البيرة تحول البشر إلى أغبياء و كسالى " – صرّح بسمارك ، حاكم البلد الذي يستهلك سكانه البيرة أكثر من أي بلد آخر . فماذا يمكن القول عن البلدان ، التي يستهلكون فيها مشروبات كحولية أكثر تركيزاً ؟


ملاحظة : هذه مقتطفات من فصل من كتاب مترجم عن الروسية للطبيب و الباحث فلاديمير ليفي و قد صدر عن دار الفرقد بدمشق منذ أيام تحت عنوان " رحلة صَيد وراء الفكرة " . المترجم إبراهيم إستنبولي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجزيرة ترصد تزايد أعداد السفن المنتظرة في المياه الإقليمية


.. واشنطن تستعمل التكنولوجيا لكسب تأييد جزر المحيط الهادي




.. ??طلاب من معهد العلوم السياسية في باريس ينددون بالحرب الإسرا


.. علاء الشربينى الا?كل نفس وا?بويا كينج الطبخ في ا?ي مكان




.. صحة غزة تطالب بتحقيق دولي في اغتيال الطبيب عدنان البرش