الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المغريات أو إيروس، وبليتوس ، والمجد

محمد الإحسايني

2007 / 8 / 12
الادب والفن



شارل بودلير
ترجمة: محمد الإحسايني

صعد شيطانان رائعان وشيطانة، لاتقل عنهما ميزة، الليلة الأخيرة المرقاة السرية على الصعيد الذي يشن فيه الجحيم هجومه على ضعف الإنسان الذي ينام، ويتصل به سراً. وُضعوا أمامي بشكل رائع، وُقوفاً كالطود. كان ينبعث عن هذه الشخصيات الثلاث التي أخذت تنفصل عن الليل البهيم، سطوع كبريتي. وكانت تبدو على وجوههم سمة الفـَخَـار، ويطغى عليهم حب السيطرة، وقد حسبتهم ثلاثتهم آلهة حقيقيين.
كان وجه الشيطان الأول من نوع مبهم، كما توجد ليونة البواخيس القدماء في خطوط جسمه. وكانت عيناه الجميلتان الفاترتان وهما بلون قاتم، تشبهان بنفسجيتين محملتين بأنداء إعصار ثقيلة، وتشبه شفتاه المفتوحتان قليلاً، المباخر الساخنة التي تنبعث منها رائحة طيب من عطارة؛ وكلَّ مرة يعتاد أن يتنفس فيها، كانت تتألق في الفضاء حشرات معطرة بالمسك، حائمة مع حدة أنفاسه.
كان قد تمنطق حول ردائه الأرجواني على سبيل الحزام، بثعبان لامع، مرفوع الرأس، مابرح يلتفت إليه بعينيه المتقدتين بارتخاء. وكانت السكاكين اللماعة وأدوات الجراحة تتخللها غِبّاً قنينات مليئة بالخمور الفاخرة المنحوسة في هذا الحزام الحي. ظل يمسك بيده اليمنى قنينات أخرى كان محتواها من لون أحمر مضيء، وكانت تحمل في علامتها، هذه الكلمات الغريبة: " إشربوا فهذا هو دمي، مشروب منعش، وممتاز"؛ ويمسك بيده اليسرى كماناً ظل يساعده بدون شك، على أن يتغنى بملاذ ّه وآلامه ويشيع به سريان عدوى جنونه، في ليالي السبت.
كانت تسترسل في كاحليه بعض الأحزمة لسلسلة منكسرة من الذهب، فظل ينجم عنها التضايق الذي أخذ يجبره على خفض بصره إلى الأرض، فجعله يتأمل في غرور أظافر قدميه اللامعة والمصقولة، كأنها أحجار كريمة متقنة الصنع.
رمقني نافد الصبر بعينيه الكئيبتين اللتين مازال ينفذ منهما انتشاء ماكر، فقال لي:" لوتشاء، ولو تشاء، لجعلتك سيد الأنام، فتصبحنّ رب المادة الحية، ولجعلتك، علاوة على ذلك، أمهر من النحات، يخلق من الطين مادته؛ وستعرف المتعة بدون توقف، من نفسك بالذات، كي تغفل عن نفسك في الاعتناء بغيرك، و لتجذب إليك النفوس الأخرى إلى أن تمزجها بنفسك " وأجبته: " شكراً جزيلاً! ما عليّ سوى أن أجعل من هذه البضاعة الرخيصة مَن هم، بدون شك، ليسوا بأفضل من أناي البئيسة. وبالرغم من أنني أحس ببعض العار لأن أتذكر، فلا أريد أن أنسى يتاتناً؛ ومع ذلك قد أتنكر لك، أيها الوحش العجوز، فمصنع سكايكينك العجيبة، وقواريرك الغامضة المحتوى، وسلاسلك التي قـُيدتْ بها قدماك، إن هي إلا رموز توضح بجلاء كافٍ عواقب صداقتك. فاحتفظ بهداياك!
لم يكن للشيطان الثاني ذلك المظهر المأساوي والمبتسم في آن، ولا تلك الأساليب التلميحية، ولا ذلك الجمال اللطيف المضمخ طيباً. كان ضخماً، ذا وجه غليظ بلا عينين، وكان بطنه الثقيل يميل على فخذيه، وكان جلده براقاً ومزيناً بالرسوم كأنها صور وشمية لحشد من وجوه صغيرة متحركة تمثل الأشكال المتعددة للبؤس طراً. هناك رجال صغار هزْلى معلقون طوعاً بلا تعب في مسمار؛ وعفاريت صغار دميمو الخلقة نحفاء، أعينهم المتوسلة، وهي تطلب الصدقة أفضل أيضاً من أيديهم المضطربة؛ ثم أمهات عجائز يحملن أجنة جهائض معلقين في أثدائهن المنهوكة. وهناك أيصاً غيرهن.
أخذ الشيطان الغليظ يضرب بقبضة يده على بطنه الضخم الذي كانت تصدر منه حينذاك قعقعة مديدة ورنانة للمعدن الصائت، تتلاشى في تأوه غامض مكون من أصوات بشرية متعددة. وطفق يضحك مظهراً في وقاحة أسنانه العفنة، يضحك ضحكة ًهائلة بلهاءَ شأنَ بعض أبناء البشر في جميع البلاد إذا ما هم تعشوا كما ينبغي.
قال لي ذلك الشيطان: " أستطيع أن أهبك ما تنال به كل شيء، وما يقوم مقام كل شيء، وما يعوضك عن كل شيء! " فضرب على بطنه الضخم الذي قام صداه الرنان بتفسير كلامه الماجن.
أشحت عنه بوجهي متقززاً ثم أجبتُه: " لاأحتاج في استمتاعي بالحياة إلى شقاء أحد، ولا أقبل بثراء كئيب يُحزن النفس مثل ورق الجدران، ولا مثل رسوم المصائب الظاهرة فوق جلدك. أما الشيطانة ؛ فقد أكذبُ إذا لم أعترف بأنني وجدتها فاتنة تسبي العقول عجباً، من أول نظرة إليها. ولتوضيح ذلك الجمال، فقد لاأستطيع أن أشبهه بشيء أحسن عند العودة، سوى مقارنته بذلك الجمال الذي تتسم به الغواني وهن في غاية أنوثتهن، اللائي لا يهرمن بالرغم من ذلك، واللائي يحتفظ جمالهن بسحره نافذاً إلى أعماق شباب ولـّى رجوعه؛ فلا تزال ممشوقة القوام، وذات مظهر استبدادي في آن، وما انفكت عيناها، تمتلكان قوة جذابة، ولو أنهما متعبتان. فكان مما أثـّر فيّ تأثيراً بليغاً لغز صوتها الذي كنتُ أجد فيه تذكراً للأصوات النسائية الواطئة،كونترالتي الأكثر رقة: (صوت موسيقى، مقتبس من الإيطالية (وشيئاً كذلك من بُحة حناجر غسلها شراب العَرق.
وسألتني الإلهة المزيفة بصوت فاتن وغريب: " أتريد أن تعرف قوتي؟ إسمع. "
وعندئذ نفخت نفخة هائلة في بوقها الموشح بالشريط الشبيه بزمارة من خشب، نفخت فيه نفخة شبيهة بعناوين كل الصحف الكونية، فأعلنت عبر ذلك البوق عن اسمي الذي دوّى النطق به هو الآخر، وسط الفضاء، مجلجلاً جلجلة مائة ألف من دوي الرعود، فجاءني مرتداً من خلال صدىً وارد من أقصى الكواكب، هتفت؛ وأنا نصفُ مأخوذ بفتنتها: " ويلك! فها هو ذا التحذلق! " غير أنني وأنا أتفحص المرأة المسترجلة الغاوية بحذر أشد رهافة، بدا لي في غموض أنني أعرفها لكوني قد رأيتها تقارع الكؤوس مع بعض الغرباء من معارفي؛ وقد حمل صوتـُها الأجش إلى أذني ذكرىً من ذكريات ما،لمغنية عاهرة.
كذلك أجبتها بكل استخفاف: " إليك عني! أنا لست مخلوقاً لكي أتزوج بعشيقة أحد أصدقائي الذي لأريد أن أسميه الآن. " أكيد، كنت أمتلك الحق لأغدو فخوراً بإنكار الذات إلى هذا الحد، غير أنني استيقظت لسوء الحظ، فخانتني قوتي كلها، وقلت في نفسي: "حقاً، كان ينبغي أن أستغرق في نعاسي ببطء شديد، لإظهار مثل هذه الوساوس. واأسفاه! فلو استطاعوا أن يعودوا فتـْرةَ أكونُ مستيقظاً لكنت معهم متساهلاً!" ثم إنني دعوتهم بصوت عال، متوسلاً إليهم أن يصفحوا عني، فقد عرضت عليهم أيضاً أن يفضحوني مراراً كما ينبغي كي أنال فضائلهم، غير أنني كنت قد أشبعتهم إهانات، ذلك أنهم بالتأكيد لم يأتوا أبداً.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا