الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صنع في اليابان Made in Japan

عبدالله المدني

2007 / 8 / 14
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم


خصصت مجلة "جابان بلاس" الشهرية التي تعنى بشئون المجتمع الياباني و ثقافته و دور اليابان في المجتمعات الآسيوية أحد أعدادها الأخيرة للحديث عن المنتج الياباني و تاريخ تطوره منذ انتهاء الحرب الكونية الثانية، وصولا إلى تأكيد حقيقة لا جدال فيها هو أن هذا المنتج صار اليوم وبعد مرور أكثر من نصف قرن على اجتياحه للأسواق العالمية يحتل موقعا رائدا في خيارات المستهلك أينما وجد، إن لم يكن هو خياره الأول، و ذلك بفضل جودته و متانته و ما استثمر فيه من إبداعات و تقنيات و أبحاث.

دخلت البضائع اليابانية منطقة الخليج للمرة الأولى في أواخر خمسينات القرن الماضي، يوم كان المنتج الأوروبي و الأمريكي من السلع الاستهلاكية الحديثة هو المهيمن على الأسواق، و كانت النظرة السائدة لدى جمهور المستهلكين وقتذاك انه لا خير في سلعة من تلك السلع لجهة الجودة والمتانة إن لم تكن واردة من الغرب المتقدم. والذين عاشوا تلك الحقبة لا بد و أنهم يتذكرون كيف أن المستهلك كان يهجر المنتج الياباني المعروض من بطاريات و مصابيح و مراوح و أجهزة تسجيل و راديو و تلفزيون لصالح مثيله المصنوع في الغرب بدعوى أن الأولى مقلدة وبالتالي لا بد وان تكون اقل جودة و اقصر عمرا.

وهكذا كان السؤال الأول للمستهلك العازم على شراء جهاز راديو أو تلفزيون مثلا هو عن ماركة "فيليبس" الهولندية أو ماركة "غروندغ" الألمانية أو ماركة "باي" الإنجليزية ، وليس عن "توشيبا" أو "سوني" أو "ناشيونال". ويصدق القول نفسه و لذات الأسباب على سلع اقل تعقيدا مثل البطاريات التي كان المستهلك لا يرضى بالمصنوع منها في اليابان من نوع "افريدي" أو ما اصطلح على تسميته شعبيا ببطاريات القطة، كبديل لبطاريات "بريك" الألمانية، و مكائن الخياطة التي لم تستطع اليابانية منها من ماركة "مرديكا" اقتحام السوق إلا بشق الأنفس بسبب تفضيل المستهلك لماركة "سنجر" الإنجليزية. أما المركبات اليابانية فلم تكن قد وصلت بعد إلى أسواق الخليج – بل لم تكن اليابان في حينه تصنع سوى سيارة شعبية صغيرة تحت اسم "سوبارو 360 " من إنتاج شركة فوجي للصناعات الثقيلة التي كانت قد بدأت أبحاثها في عام 1955 و طرحت أولى سياراتها في عام 1957 - و إلا كان حظها مشابها في ظل هيمنة المركبات الأمريكية والألمانية والإنجليزية على الأسواق المحلية.

وقتها كانت السلع اليابانية مقلدة بالفعل، و كان أصحابها لا يجدون حرجا و هم في بداية مشوار استعادة قوتهم الصناعية و التكنولوجية بعد حرب مدمرة، في الاعتراف بذلك، خاصة و أن عملية التقليد و المحاكاة ظلت على الدوام جزءا من منظومة القيم الثقافية اليابانية و وسيلة لتعويد النشء على التأمل و معرفة كنه الأشياء غير الدارجة وصولا إلى خلق ما هو أروع و أتقن.

غير أن هذا لم يستمر طويلا. فمن جهة كثفت المصانع اليابانية جهودها وأبحاثها لوضع بصماتها وتقنياتها الخاصة على ما تنتجه كي تبدو متميزة وأكثر إغراء عند المستهلك، مع إنفاق جزء معتبر من أرباحها المتأتية من حقبة الازدهار الاقتصادي في الستينات على البحوث الميدانية في أقطار شرق آسيا لاستطلاع آراء جمهور المستهلكين في المنتج الياباني و ملاحظاتهم حولها كي يصار إلى تقديم هذا المنتج بطريقة تلبي رغباتهم و تتوافق مع ظروفهم و استخداماتهم بصورة أفضل. و لعل أفضل مثال يمكن إيراده في هذا السياق ما قامت به شركة "توشيبا" التي ابتكرت قدور طهي الأرز – الوجبة الرئيسية للسواد الأعظم من الآسيويين – الاوتوماتيكية في عام 1955، ثم راحت تعدل فيه وفقا لنتائج أبحاثها الميدانية في هونغ كونغ و تايوان و دول جنوب شرق آسيا حتى غدت سلعة فائقة الإتقان و السرعة و متعددة الاستعمالات و لا غنى عنها عند ربات البيوت الآسيويات و غيرهن.

ومن جهة أخرى، راحت الشركات اليابانية المصنعة تستثمر عقول و مواهب أبنائها في اكتشاف الجديد و إنتاجه و من ثم التفرد بطرحه في الأسواق. حدث ذلك مثلا حينما طرحت اليابان ابتداء من عام 1958 من خلال شركة "سوني" الرائدة أجهزة الراديو الترانزستور الصغيرة حجما والخفيفة وزنا، فأحدثت في حينه ثورة شبيهة بثورة المعلوماتية و الاتصالات التي نعيشها اليوم، و يسرت للملايين من البشر عبر القارات الاستمتاع ببرامج الإذاعة في أي وقت و مكان، مخلصة إياهم إلى الأبد من متاعب أجهزة المذياع الضخمة و أسلاكها و هوائياتها بدليل بيع أكثر من نصف مليون جهاز خلال الأشهر الأولى من الإنتاج.

وحدث ذلك أيضا بعد نحو عام من ذلك حينما بدأت شركة نيكون اليابانية في إنتاج و تسويق آلات التصوير الاوتوماتيكية ذات العدسات المتنوعة فائقة الدقة، فكانت تلك نقطة البداية لثورات ستتوالى في عالم التصوير الفوتوغرافي، و كل ثورة عليها بصمة يابانية متميزة تنم عن مقدرة فذة في الخلق و الابتكار و الإضافة. وقتها لم تجد صحيفة أمريكية مرموقة كالنيويورك تايمز إلا أن تقر بفضل اليابانيين و أسبقيتهم في مجال صناعة الكاميرات و تطويرها.

في هذه الأثناء، و طبقا لما ذكره رجل الصناعة الياباني البارز و أحد أقطاب شركة سوني للالكترونيات "أكيو موريتا" في الكتاب الذي يحكي فيه قصة هذه الشركة العملاقة، كانت الأخيرة تنفق الملايين على الأبحاث و التجارب و تواصل الليل بالنهار من اجل إنتاج سلعة بدت في حينه صعبة المنال، لكنها اليوم منتشرة و تباع بأبخس الاثمان دون أن يسأل مستهلكها عن العذابات والاحباطات التي واجهها صناعها الأوائل حتى غدت حقيقة، و نعني بهذه السلعة أشرطة الكاسيت التي تفتخر اليابان بأنها أول من صنعتها و طرحتها في الأسواق مع أجهزتها ابتداء من منتصف الستينات كبديل للمسجلات الكهربائية الضخمة وبكراتها الكبيرة. غير أن "سوني" لم تكتف بتلك المعجزة، فواصلت جهودها و ابتكاراتها في عقد السبعينات، إلى أن أضافت منجزا آخر إلى إنجازاتها في حدود عام 1981، و ذلك حينما طرحت في الأسواق أجهزة التسجيل و الاستيريو النقالة الخفيفة المسماة "ووك مان".

وتحت عنوان "صنع في اليابان" يمكن للمرء سرد قائمة طويلة من الإنجازات التي تحكي تاريخ مسيرة طويلة تحول خلالها هذا البلد العظيم من مقلد إلى مكتشف و مصنع متميز يتسابق المستهلكون في أرجاء العالم إلى اقتناء منتجاته و تفضيلها على غيرها، لكننا سنكتفي بالإشارة إلى أن اليابان لئن كانت لا تزال تنتج و تصدر ما بدأته في الخمسينات والستينات، فإنها تقتفي أيضا سياسة بديلة قوامها ترك أمر إنتاج تلك السلع الاستهلاكية للأقطار الآسيوية الصاعدة بترخيص منها وباستخدام ما تتمتع به تلك الأقطار من مزايا نسبية لجهة الموارد الأولية و العمالة الرخيصة، فيما هي تستثمر ما تراكم لديها من خبرات وتجارب وعقول في إنتاج السلع الأكثر دقة من تلك التي ينتظر لها أن تغير وجه الكون و البشرية في العقود القادمة. و لسنا في حاجة إلى القول بأن ما مرت به اليابان في البدايات مرت به كوريا الجنوبية في الثمانينات و التسعينات وتجاوزته بنجاح، و تمر به اليوم أقطار مثل الصين وماليزيا و تايلاند، التي حتما ستعبر جسر إنتاج السلع المقلدة الرخيصة إلى مرحلة إنتاج سلع تحمل بصماتها الخاصة في وقت قريب.









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سيلين ديون تكشف عن صراعها من أجل الحياة في وثائقي مؤثر


.. -هراء عبثي-.. شاهد رد فعل مؤرخ أمريكي على الديمقراطيين الذين




.. نيويورك تايمز: تجاهل البيت الأبيض لعمر الرئيس بايدن أثار الج


.. انتخابات الرئاسة الإيرانية.. مسعود بزشكيان




.. بزشكيان يحصل على 42 % من أصوات الناخبين بينما حصل جليلي على