الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بصريات الممثل ..الى فاضل خليل

فاضل سوداني

2007 / 8 / 14
الادب والفن


الممثل في مسرح البعد الرابع البصري

( إلى فاضل خليل وحلمنا المسرحي
الذي استيقظنا منه الآن في المنفى )
ليس الهدف من استخدام الأسطورة في المسرح أن نجعلها مقبولة ومتطابقة واقعيا، وإنما الهدف هو أن تغني المسرح وتخلصه من خشونته حتى يكون أكثر شاعرية وحلميه وخيالا، لان المسرح الأكثر تطورا وطليعية هو الذي يساهم في أن يجعل عالمنا المعاصر أكثر احتمالا وأقل عنفا. فكما تمر أزمنة غير مفهومة، كذلك يمر الإنسان بالمكان الغامض، المليء بالأسرار بدون أن تثيره ، فيبدأ لغز الحياة . وكما يمتلك الزمن أسطورته، كذلك المكان غني بأسطورية الزمان.
وبما أن المسرح هو مكان مكتظ بالزمان و زمان مكتظ بالمكان، أذن ليس لغزا أن يكون ويساهم في تأسيس واقعا أسطوريا، وان تكون الرؤيا الإخراجية رؤيا مثيولوجية بصرية.
فقبل نشوء الفلسفة شكلت الأسطورة ـ التي سيرت العالم والكون أبان طفولة الإنسان ـ الأسس الفلسفية للحضارات القديمة كحضارة وادي النيل والرافدين والحضارة اليونانية وحضارات الأبيض المتوسط، فامتلأت ساحات المدن ومعابدها بالطقوس البدائية والنصوص الأسطورية و الدينية واللتورغيات التراجيدية التي قد تفوقنا ونحن في الألفية الثالثة تطورا فكريا وحكمة وفلسفة ، فأصبح من الطبيعي أن يكون لها امتداداتها وانعكاساتها في حياتنا المعاصرة، فيدهشنا الآن العقل المشاكس لإنسان الحضارات القديمة الذي اعتمد السؤال كمنهج لتفسير الظواهر. ويدهشنا أيضا البعد ألاختراقي لهذا الفن الأسطوري ـ ألطقوسي.
وقد امتزج الفكر الأسطوري بالتاريخي منذ البدء وحتى الوقت الحاضر، ولهذا فان المفكر والمثيولوجي مارسيا إلياد يؤسس مفهوما مبنيا على أن الفكر الأسطوري لم يزُل نهائيا في مكونات الفكر الإنساني عموما بل مازال موجودا ولكنـه تغير بشكـل جـذري .
وعندما امتزجت أسطورة الإنسان وأحلامه العجائبية المدهشة بالحياة الاجتماعية، تشكل الفضاء ألطقوسي ـ الأسطوري والحلّمي والواقعي للمسرح. لذا فان المسرح كفضاء إبداعي... هو طقس مثيولوجي له علاقة بالحاضر دائما، هذا الزمن الذي تتلامس فيه أزمنة الماضي والمستقبل لتخلق زمنا إبداعيا رابعا هو البعد الرابع للزمن والفضاء في الطقس البصري المسرحي. وبالرغم من أن المسرح كان ومازا ل مرتبطا بالمثيولوجيا والطقوس الدينية والاجتماعية لمختلف المجتمعات القديمة، إلا انه يعبر بشكل بصري عن التصورات والأسس الفكرية والفلسفية والمشكلات الاجتماعية للمجتمع والإنسان كفرد وذات ديناميكية متفاعلة. ولهذا فان أي تفكير بجوهر وماهية المسرح هو بحث قوامه وطبيعته اجتماعية وفكرية وفلسفية وجمالية وفينومينولوجية ـ ظاهرا تيه ـ ومثيولوجية أيضا..
وتأسيسا على هذا هل يمتلك المسرح المعاصر وخاصة في عمل الممثل والمخرج مثيولوجيته المعاصرة ؟ إذن ماهي الأسس التي تكّون هذه الفرضية؟
إن أهم الوسائل التي تجسد مثيولوجية المسرح المعاصر هو النص البصري الذي ندعو له ، وما يتبعه كالفضاء الإبداعي للمخرج الرائي، ومن ثم جسد الممثل ( بعيدا عن وظائف جسده اليومي ) وإنما الجسد متحولا كذاكرة بصرية إبداعية مطلقة وخزين مثيولوجي وهذا يعني تحقيق فن الأسرار والنوايا الخفية للمستحيل المسرحي، انه رؤيا السر المباح لتكامل مثيولوجية و بصرية العرض الطقسي. وهذا يدفعنا للتركيز على الذاكرة المثيولوجية البصرية لجسد الممثل وأيضا على ذاكرة الأشياء الموجودة في الفضاء الإبداعي الذي يعمل فيه الممثل والمخرج المعاصر وكاتب النص البصري ( وليس الأدبي الثرثار ) ويحولونه إلى فضاء إبداعي له قوانينه الخاصة التي تختلف عن قوانين الواقع .
فيمكن التأكيد على أن جسد الممثل يشكل لغة بصرية في الفضاء، وهو ذاكرة وخزين حركي وبصري مثيولوجي، لان الممثل يتعامل دائما مع الزمن الفني والإبداعي فقط وخارج هذا الزمن فانه يعيش في الزمن الواقعي . إن وجود الممثل في الفضاء في علاقة ديناميكية مع الآخر ومع المادة أو الشئ هو من اجل إنتاج الصورة الشعريةـ البصرية غير الكلامية التي تمس الزمن الميتافيزيقي، لان جسد الممثل يمتلك طاقة إبداعية ـ تعبيرية وذاكرة بصرية مطلقة ) لا أعني ذاكرة الممثل كانسان وإنما ذاكرة الجسد ) يمكن إطلاقها وتقويمها من خلال مفاهيم انتونين آرتو وغروتوفسكي ومايرهولد ويوجين باربا وروبرت ولسن وطقوس الوجد الديني ـ التصوفي .
ولهذا فان فضاء الطقس المسرحي يكون مُعَبِراً فقط من خلال لغة الهذيان البصري ـ الإبداعي للجسد وارتباطه بالمادة أو الأشياء التي يتعامل معها. إن الهذيان البصري للجسد التعبيري يؤدي إلى هذيان الأشياء المحيطة والتي يدخلها في زمنه الإبداعي ، فيعديها ويحدث نوع من التحول في وجود الأشياء التي يتعامل معها الممثل(كما هو الحال مع مكونات فضاء مسرحية الكراسي ليونسكو التي تحولت فيها الكراسي إلى وجود ديناميكي تعبيري قائم بذاته ) وعندما تدخل هذه الأشياء في العملية الفنية أو في المملكة البصرية التعبيرية للمخرج و للممثل فإنها تفقد وظائفها الحياتية الواقعية وزمنها الواقعي ويمنحها الممثل والعرض معاني ووظائف جديدة لها إيقاعها ومكانها الإبداعي في الفضاء والزمن. إن غروتفسكي ومايرهولد و بيتر بروك والامريكي روبرت ولسن و Pina Bausch واريان منوشكين ويوجين باربا وبعض عروض المسرح العربي وخاصة عروض المخرجين التونسيين مثل فاضل الجعايبي ومحمد إدريس والجبالي والمنصف الصايم وعز الدين كنون وحاتم دربال ومشرقيا مثل صلاح القصب وانتصار عبد الفتاح وغيرهم يتعاملون مع الممثل كجسد له ذاكرة بصرية وبعد مثيولوجي مما ينتج لغة بصرية للتواصل مع الجمهور.
ولو استخدمنا ذاكرة جسد الممثل (وليس المقصود ذاكرة الممثل في الواقع ) باعتباره ذاكرة بصرية حية ومطلقة لها امتداداتها المثيولوجية والتاريخية للتعبير عن تكامل الزمن الإبداعي، لفرضَ هذا الأمر أن يكون الممثل وجسده مهيئا للتعبير بصريا عن تلامس الأزمنة الثلاث الماضي والحاضر والمستقبل، لينتج بعدا رابعا هو البعد الإبداعي كما أشرت توا. أي البعد الرابع للزمن والفضاء المسرحي . وفي هذا البعد تتم عملية دائرية اللحظة الإبداعية وحتى نفهم هذا الأمر في عمل الممثل من الممكن أن نورد مثالا تطبيقيا .
دائرية اللحظة الإبداعية والكينونة المتوهجة للممثل
وتحقيقا لهذا يمكن أن نورد مثالا من المأساة الإغريقية المعقدة اوديب الملك لسوفوكليس باعتبار إن الزمن الإبداعي الذي يرغب الممثل من خلاله للتعبير عن أبعاد هذه المأساة هو ( ماندعوه ) بالزمن البصري الذي يتلامس ويتداخل فيه الحاضر (انتصار اوديب على وحش المدينة وزواجه من الملكة ـ أمه ) ويتلامس أيضا بالماضي (التاريخ الذي يجب ألا ينساه الممثل أي أن أوديب سيقتل أباه ويتزوج أمه) ويتلامس أيضا بالمستقبل ( أي ذلك ا لذي يحتم إصرار البطل لملاقاة قدره عندما يكتشف الحقيقة التراجيدية الكبرى ـ قتل أبوه وزواجه من أمه ـ مما يبدأ انهياره كفعل إنساني حتى وان أدى ذلك إلى أن يكون البطل هو الذي يتسبب بانهياره الذاتي المأساوي المريع،لان مثل هذا البطل من خلال هذه الحقيقة سينقاد كالذبيحة المدنسة إلى مصيرها الجحيمي ، وبالتأكيد سيكون هو القربان البشري .
إن هذا التحليل يربط المأساة وبعدها المثيولوجي بالمعاصرة ويخلصها من كونها ميثاق تنبئي كتبته الإلهة ضد الإنسان متمثلا بالملك أوديب لتحقيق نبوءتها فتتحول هذه إلى مادة دراسية لعلم النفس (كما قام بذلك فرويد بدراسته الفريدة ) وجعلها مثلا لدراسة سيكولوجية الإنسان المعاصر.
وفي المسرح فان الممثل في الوقت الذي يفكر في حاضر الحدث والشخصية (الآن) (كنتيجة) عليه أن يبني أبعادها وان يستمد لغته البصرية التعبيرية واستخدام ذاكرة جسده البصرية ، ارتباطا بتأثير الماضي المأساوي (لأوديب) ممتدا للمستقبل الذي هو الأكثر رعبا ومأساوية (كما هو الحال مع مصير البطل). لان سعادة الحاضر القصوى بالنسبة لأوديب، نتيجة لانتصاره وتتويجه ملكا بعد زواجه من الملكة ، ممزوجة بتلك اللعنة التي أطلقتها الآلهة بحقه في الماضي (النبوءة) عند ولادته ومرتبطة أيضا بالانهيار المأساوي المستقبلي. إذن هنا يبدأ عمل الممثل الأكثر صعوبة لان المستقبل و الحاضر يولدان بنفس اللحظة التي يولد بها الماضي .
إذن حاضر الممثل والشخصية هو في ذات اللحظة ممتد إلى الخزين التاريخي والأسطوري للماضي وما ستكشف عنه الحقيقة في المستقبل الذي يعتبر التحام بالماضي وعودة للنبوءة. إذن دائرية اللحظة الإبداعية تبدأ لدى الممثل من الحاضر وتلامس الماضي والمستقبل لتعود إلى الحاضر مرة أخرى بحركة دائرية من أجل تحقيق العمل الإبداعي في الآن وعلى خشبة المسرح . وهذا يدفعنا إلى الافتراض بدائرية اللحظة الإبداعية التي يتحرك فيها الممثل في فضاءه الوجودي والسينوغرافي، وعلاقته بالأشياء التي تمتلك كينونتها الديناميكية في فضاءها الطقسي البصري أيضا الذي لا يتكامل إلا بوجود الممثل ككينونة مبدعة انطلاقا من الحقيقة التي يوردها الفيلسوف كارل يسبرز والتي تؤكد على إن (كل وجود يبدو في ذاته مدورا) وكذلك ماكتبه فان كوخ (الأغلب هو أن الحياة مدورة). فلو تصورنا دائرية اللحظة الإبداعية بهذا الشكل لاكتشفنا بان اللحظة الإبداعية تكتمل عندما تحمل صور ومكونات الحاضر لترتد إلى الماضي وتغتني به وتحمل تنبؤات المستقبل ومرة أخرى تدور من جديد لتعود إلى الحاضر.
إن هذه الحركة تؤدي إلى غنى فلسفي ومثيولوجي وبصري وحركي حقيقي لفعل الممثل الإبداعي والى التلامس الزمني (للأزمنة الثلاث) الذي من خلاله يتحول جسد الممثل إلى ذاكرة بصرية وخزين مثيولوجي ومن ثم إلى تكاملية اللحظة الإبداعية.
وبالتأكيد فان مثال الملك أوديب يوضح الأسلوب الذي سيتبعه الدراماتورج في المستقبل لكتابة نصه البصري المستقبلي (أي النص البصري الذي سينقذ المسرح الراهن ) مثل هذا النص هو الذي يوحي للمخرج الرؤيوي ـ البصري . وكذلك بالنسبة إلى الممثل الذي سيكتب نصه البصري في فضاء المسرح الذي يمكن أن نطلق عليه مسرح البعد الرابع البصري. وهذا المفهوم يمنح غنى وامتلاء للزمن في العرض المسرحي البصري (الآن) لأنه في الوقت الذي يؤكد فيه حاضريه العرض الذي يحدث أمام المتفرجين ويضج في دواخلهم، وحاضريه اللحظة الإبداعية، فان زمن حاضر الطاقة التعبيرية للممثل يتلامس مع الماضي والمستقبل في ذات الوقت مما يؤدي إلى خلق رؤيا مسرحية بصرية .
شمال الكوكب








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. طنجة المغربية تحتضن اليوم العالمي لموسيقى الجاز


.. فرح يوسف مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير خرج بشكل عالمى وقدم




.. أول حكم ضد ترمب بقضية الممثلة الإباحية بالمحكمة الجنائية في


.. الممثل الباكستاني إحسان خان يدعم فلسطين بفعالية للأزياء




.. كلمة أخيرة - سامي مغاوري يروي ذكرياته وبداياته الفنية | اللق