الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سيكولوجيا المحفزات الثانوية للإرهاب

محمد بن سعيد الفطيسي

2007 / 8 / 15
مواضيع وابحاث سياسية


يشكل الإرهاب مشكلة متعاظمة تؤرق العديد من الدول والحكومات في مختلف أرجاء العالم , لدرجة أننا نستطيع أن نقول بأنه ما من مشكلة أخرى , استطاعت أن تنال هذا النصيب من الاهتمام الدولي كقضية الإرهاب , حتى سخرت لها من الإمكانيات البشرية والمادية ما لم يسخر لقضية من قبل , فاشغلت العالم بأسره عن نفسه , لدرجة الغرق فيها حتى أخمص قدميه , حيث لا تمر ثانية من الزمن إلا وهذه القضية تتصدر نشرات الأخبار العالمية اليومية , والمحاضرات والندوات السياسية والأدبية والثقافية , بل وتعتلي سلم أولويات اهتمام المحافل العامة والخاصة في مختلف أرجاء الأرض , حتى أصبح المواطن العادي البسيط , يخوض غمارها , ويناقش امتداداتها ويتفيهق حولها في المجالس والمقاهي وجلسات السمر, وكأن الإرهاب قد بات ثقافة شعبية عالمية , قد تمكنت من التسلل كالقطط ليل إلى عقول ونفوس سكان هذه الأرض 0
ولكن الغريب في الأمر, هو انه وبالرغم من كل تلك الجهود المبذولة لمواجهته , وتقصي أثره , واقتلاع جذوره من الأعماق , إلا أن قوته وحجمه يزدادان كبر مع الوقت , وكأنه قد بات يمتلك من المناعة المكتسبة تجاه المعالجات المطروحة , ما يجعله قادر على احتواءها والتنصل منها , لذا فإننا سنحاول من خلال هذا الطرح المختصر, تقليص دائرة البحث والتقصي حول أسباب المشكلة الرئيسية , وذلك من خلال المرور بطريق جانبي تجاهله الكثيرون , أو بمعنى آخر معرفة الحقيقة الكامنة وراء تضخم هذا الوحش المفترس , ولكن بطريقة أكثر عمق وصراحة لواقع غير مدرك , تحاول جل المعالجات الدولية الراهنة فيه , السعي وراء جذور المشكلة وليس محفزاتها , مع انه – وبتصوري – أن حل مشكلة الإرهاب لا يكمن في السعي وراء اجتثاث ما نتصور جميعا بأنه الأصل , ونقصد الجذور والبذور الأم لهذا السرطان , بل من خلال فهم البيئة المحفزة لظهوره , والدوافع الثانوية التي تستثيره , والعوامل الجانبية التي تشجع على استشراءه 0
فبذور الإرهاب قديمة قدم الخليقة , - أي – انه ليس بالمشكلة المعاصرة التي ترتبت على أوضاع سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية حديثة أو مستحدثة بعينها , نستطيع أن نحملها مسؤولية ظهوره واستفحاله , بل الإرهاب في حقيقة الأمر هو نتاج عوامل إنسانية كثيرة جدا , تبدأ من الظلم والمعاناة والفقر والجوع والجهل , ولا تنتهي عند سلب الحقوق السياسية والحريات المدنية وغيرها , وبالتالي فان تلك البذور متأصلة في حياة البشرية منذ القديم , وستظل كذلك حتى يرث الله الأرض ومن عليها , بحيث لن يقدر احد مهما وصلت قوته من اقتلاعها بشكل مطلق, وبمعنى آخر , فانه من الاستحالة أن يستطيع الجنس البشري أن يتخلص من الظلم والمعاناة بشكل نهائي على سبيل المثال في يوم من الأيام , ولكنه يقدر بكل تأكيد على احتواء محفزاتها على اقل تقدير, والتقليل من أعراضه الجانبية , وعليه فإننا سنطلق على تلك الأحداث الراهنة , والتي كانت احد أسباب عودة هذا الوحش إلى الواجهة بهذه الشراسة والقوة , بالمحفزات المعاصرة لمشكلة الإرهاب 0
وانطلاقا من هذه الرؤية , فإننا سنحاول معالجة القضية من خلال الفصل بين الأصل والفرع , أو المشكلة ومحفزاتها , فليس بالضرورة أن يكمن العلاج بمحاولة اجتثاث البذور والقضاء عليها , ولكن من خلال محاولة اقتصاص الفروع الناتئة منها , فالبذور دائما بحاجة إلى الماء والتغذية لتنمو وتتقوى , وهي بذلك ستظل في الأرض أن منعنا عنها الماء والغذاء , وبمعنى آخر , فهي بحاجة إلى البيئة المناسبة للنمو والحياة والتكاثر , وكذلك الإرهاب بجميع أشكاله وألوانه سيظل ينتظر تلك المحفزات البشرية للظهور إلى الواجهة بشكل دائم , وهذا هو لب المشكلة وأساسها , - أي – أن السبب الرئيسي لمشكلة الإرهاب العالمي , والذي تعاني منه مختلف دول العالم اليوم , لا يكمن في ما يمكن أن نطلق عليه بالأسباب الرئيسية في الأصل , كالجوع الذي لا يمكن أن يختفي يوما من العالم , أو الفقر والمرض , أو حتى الجهل والظلم والمعاناة , ولكن في سعي العديد من الأيادي الخفية , والقوى الظلامية إلى تحفيز تلك الأصول وتغذيتها , وذلك من خلال استغلالها كمحفزات لنشوء الفوضى والقتل والتخريب والإفساد 0
ولتوضيح الصورة وتقريبها , فإننا سنحاول ضرب بعض الأمثلة على ذلك , فعلى سبيل المثال , لا يشكل الفقر في حد ذاته مشكلة رئيسية لأغلب سكان العالم في الأصل , فالدراسات التاريخية تؤكد بان شعوب الأرض قد ظلت في فترات طويلة من التاريخ تحت وطئته , ولكنها قد عاشت بسلام وامن واستقرار , وذلك بتوفر ابسط أساسيات الحياة اليومية كالطعام والملبس والمشرب , ولكن المشكلة الحقيقية تكمن في التفاوت الاجتماعي الذي يتسبب الفقر في ظهوره , وذلك من خلال محفزاته النفسية والاجتماعية والاقتصادية ,كنظرة الأقل إلى الأعلى , وسكان ناطحات السحاب إلى أصحاب الكهوف وبيوت الطين , وبالتالي فان ذلك التفاوت الشاسع بين من يملك ومن لا يملك , سيتسبب بكل تأكيد مع الزمن إلى تحفيز الكراهية والحقد والبغضاء على الظهور, وبالتالي بروز بعض الجرائم التي تنشا من وجود ذلك التفاوت المادي , كالسرقة والحرابة وربما القتل في كثير من الأحيان , وعليه فان معالجة مشكلة الفقر لن يتأتى من خلال الاجتهاد على اجتثاثه من الأصل , ولكن من خلال السعي إلى التخفيف من مشاكله وأعراضه الجانبية , بالسعي إلى المساواة بين أبناء المجتمع وذلك بتوفير فرص العمل بشكل عادل ومهني , ومحاولة التقريب والتقليل من الفوارق الاجتماعية والمادية على سبيل المثال لا الحصر0
هذا من جهة , أما من جهة أخرى فقد يمتد ذلك التفاوت الذي كان الفقر سبب من أسبابه ويتأزم ليصل إلى مرحلة اخطر بكثير , فيتسبب في ظهور مشكلة اكبر من الفقر نفسه , وهي مشكلة الجوع في العالم , - وللأسف - , فقد ظل سكان ناطحات السحاب يعللون أمر الجوع على انه مشكلة أساسها الأرض والغذاء , ونحن هنا نبرى الأرض من مشكلة الجوع التي يعاني منها الكثير من البشر في مختلف أرجاء العالم , ( فتشخيص الجوع بأنه نتيجة لندرة الغذاء والأرض هو لوم للطبيعة على مشكلات من صنع البشر , ففي العالم يوجد على الأقل 500 مليون من البشر سيئي التغذية أو جائعين , هذا الجوع الذي يوجد في مواجهة الوفرة , وهنا تكمن الاهانة , ومن الطرق التي يمكن بها إثبات إن ندرة الأرض والغذاء ليست هي السبب الحقيقي للجوع , توضيح انه لا يوجد ندرة في أي منها , والطريقة الثانية هي شرح ما يسبب الجوع فعلا , فبالقياس العالمي يوجد الآن من الغذاء ما يكفي لكل فرد , فالعالم ينتج – على سبيل المثال - كل يوم رطلين من الحبوب أي أكثر من 3000 سعر حراري , وبروتين وفير لكل رجل وامرأة وطفل على الأرض ) , وبالتالي فان المشكلة في الأصل لا تكمن في عدم توفر الغذاء ولكن في عدالة توزيعه بين سكان الأرض 0
كما لا ينبغي أن ( ننسى دور العوامل الثقافية في الموضوع ، وفي مقدمة هذه العوامل تبني رؤية للعالم تتسم بالانغلاق الفكري والجمود النفسي , فقد ابتليت أمتنا العربية والإسلامية بفئات تمارس الإرهاب والعنف باسم الإسلام ، منطلقة من عقلية امتلاك الحقيقة المطلقة ، وعدم احتمال الرأي الآخر ولا تتسامح مع تنوع الآراء، وترفض الحوار رفضا مطلقا ، وتسعى إلى تغيير الواقع بالقوة المسلحة ، حتى لو أهدرت دماء المسلمين، سعيا وراء تحقيق المثل الأعلى الذي صاغته أفكار أمراء الجماعات الإرهابية ) , هذا بالإضافة إلى المحفزات النفسية والاجتماعية والاقتصادية التي تتفاقم مع مرور الأيام , في ظل وجود سياسات الهيمنة والامبريالية العالمية , وعلى رأسها السياسات الاميريكة والغربية , والتي طالما كانت سبب في بروز تلك المحفزات المثيرة للإرهاب والعنف في مختلف أنحاء العالم0
وعليه فانه بات من الضرورة أن يتنبه العالم إلى خطورة تلك المحفزات الثانوية للإرهاب والتركيز عليها في المعالجات القادمة , وعلى رأسها المحفزات النفسية الناتجة عن التدخلات السياسية , والتي تؤكد الدراسات الميدانية , بأنها أصبحت على رأس الأسباب التي تثير هذا الوحش وتزيد من خطورته وبطشه , وذلك من خلال نشرها لمشاعر الحقد والكراهية والضغينة من خلال سياسات التدخل في مقدرات الشعوب وثرواتها , وتغيير ثقافاتها وتقاليدها الخاصة لتساير أهواء بعض القوى العظمى , واستخدام القوة العسكرية وسياسات التجويع والتركيع لارضاخ تلك الشعوب وتسييرها , ومحاولات ابتزاز الحكومات وقلب أنظمة الحكم بهدف ترسيخ جذور الهيمنة والاستعمار والتوسع , ونشير هنا إلى سياسات الولايات المتحدة الاميريكة بشكل خاص , تلك السياسات التي تسببت بقتل وتشريد الآلاف في مختلف أرجاء العالم , في أفغانستان والعراق وفلسطين والسودان والصومال واميريكا الجنوبية 0
وانه قد حان الوقت لتبني سياسات دولية وإقليمية أكثر موضوعية وحيادية لاحتواء هذه القضية , فبدل التركيز على المعالجات الأمنية والعسكرية , وجب السعي إلى تضييق الفوارق الاجتماعية والاقتصادية بين أبناء المجتمع الواحد , والسعي لتوفير الأمن والطمأنينة والعدالة لمختلف فئاته وشرائحه دون النظر لأي اعتبارات أخرى , كالدين والجنس والعرق واللون وما إلى ذلك , وللولايات المتحدة الاميريكة في هذا الجانب نشير إلى ما قاله الرئيس الاميريكي السابق جيمي كارتر , حين قال من انه وكما سبق لنا وأرسلنا جنودنا إلى لبنان , فقد يكون من المفيد الآن ( التوجه لزيارة لبنان وسوريا والأردن لنعاين عن كثب مدى الحقد الذي يكنه مواطنون كثر للولايات المتحدة التي قصفت ودمرت وقتلت بلا هوادة سكانا أبرياء ـ نساء وأطفال ومزارعون وربات بيوت ـ في تلك البلدات المحيطة ببيروت... ونتيجة لكل ذلك تحولنا إلى نوع من الشيطان الرجيم في نظر كل من عانى من تصرفاتنا, هذا ما دفعهم فيما بعد إلى احتجاز رهائن منا (في إيران) والى القيام باعتداءات إرهابية ضدنا لم نستطع تقبلها إطلاقا ).

[email protected]
كاتب وباحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية
سلطنة عمان








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -تشاسيف يار-.. مدينة أوكرانية تدفع فاتورة سياسة الأرض المحرو


.. ناشط كويتي يوثق آثار تدمير الاحتلال الإسرائيلي مستشفى ناصر ب




.. مرسل الجزيرة: فشل المفاوضات بين إدارة معهد ماساتشوستس للتقني


.. الرئيس الكولومبي يعلن قطع بلاده العلاقات الدبلوماسية مع إسرا




.. فيديو: صور جوية تظهر مدى الدمار المرعب في تشاسيف يار بأوكران