الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اللا مفكر فيه .. عربيا

عصام عبدالله

2007 / 8 / 17
مواضيع وابحاث سياسية


كلمة "نقد" Critique تحمل شحنة فلسفية دائما ، والنقد بالمعنى الفلسفى لا يعنى فضح العيوب ولا إثبات التهافت وإنما هو أقرب إلى المعنى الكانطى : إنه إثبات حدود الصلاحية . واستقلال العقل عند كانط يعنى أنه عقل ناقد ، وهذا هو السبب فى تعريف التنوير للفلسفة بأنها العادة المنظمة للنقد ، وهذا التعريف يختلف عن التعريف التقليدى للفلسفة. كما أن فلسفة كانط النقدية هى أول تراجع مهم للفلسفة أمام العلم ، إذ أنه أغلق باب البحث عن الماهيات أمام النظر العقلى ، وجعل من مشكلة البحث عن شروط إمكانية العلم مشكلة الفلسفة الأولى .
بيد أن الفلسفة قد تنقلب إلى ايديولوجيا أو عقيدة إذا تخلت عن ممارسة "النقد" ، أو حين يترك الشك المنهجى مكانه لليقين المذهبى ، وتحل المطلقية محل النسبية ، ومن ثم تتحول الفلسفة من البحث عن الحقيقة إلى "تقرير" الحقيقة ، وعندئذ "يزول التسامح وينشأ اللاتسامح أو التعصب والعنف فى الفكر والسلوك .
فالبحث عن الحقيقة ليس هو البحث عن اليقين ، وفى مجال الفلسفة نحن نبحث عن الحقيقة وليس عن اليقين ، ولأن الخطأ الإنسانى وارد ، ولأن المعرفة الإنسانية كلها ليست معصومة من الخطأ ، فإنها محل شك باستمرار .
ولا يختلف الأمر بالنسبة للعلم ، فهدف العلماء هو الحقيقة الموضوعية وليس اليقين . وهناك دائماً حقائق لا يقينية ، لكن ليس ثمة يقين لا يقينى . ولما كان من المستحيل أن نعرف شيئاً بيقين فى مجال المعرفة البشرية ، فليس ثمة ما نجنيه من البحث عن اليقين ، أما البحث عن الحقيقة فهو أمر يستحق ، ونحن نقوم بذلك ، فى المقام الأول ، بالبحث عن الأخطاء ، حتى يمكننا تصحيحها .
وعلى هذا فإن العلم هو دائماً افتراضى : هو معرفة حدسية ، ومنهج العلم هو المنهج النقدى ، منهج البحث لإزالة الأخطاء لمصلحة الحقيقة .
ويدل تاريخ العلم – كما يقول وايتهد – على أن الآراء المتصارعة ليست كارثة ، بل أحرى بها أن تكون الخطوة الأولى نحو اكتشاف الجديد . لقد توصل عالمان شهيران فى علم الفيزياء إلى نتيجتين مختلفتين للوزن الذرى للنتروجين ولم يشهر أحدهما بالآخر . ولم ينقسم حقل العلوم على نفسه إلى قسمين ، وإنما تمت اكتشافات جديدة ، عنصر غاز الأرجون والوزن الذرى . وهكذا فإن الاختلافات الظاهرة فى الوزن الذرى للنتروجين قد وجدت تفسيراً لها .
أن التسامح يوفر المناخ المناسب تماماً لتلاقح الأفكار وتخصيبها وتطورها ، ومن ثم الابداع والابتكار فى الفكر .. يقول بوبر : "أن تحقق تقدم حقيقى فى ميدان العلوم يبدو مستحيلاً من دون تسامح ، من دون إحساسنا الأكيد أن بإمكاننا أن نذيع أفكارنا علناً ، من هنا فإن التسامح والتفانى فى سبيل الحقيقة هما اثنان من المبادئ الاخلاقية المهمة التى تؤسس للعلوم من جهة ، وتسير بها العلوم من جهة أخرى" . ويفهم من عبارة "بوبر" أن التسامح ضرورى بالنسبة للعلوم وتقدمها ، وان هذه العلوم بدورها تكرس التسامح وتؤصله ، لذلك كان من الصعب أن يتبلور التسامح بالمعنى الحديث قبل القرن السابع عشر ، ولا يمكن أن نفهم ما ذهب إليه "لوك" أو "فولتير" مثلاً دون الأخذ فى الاعتبار ثورة "نيوتن" ومن قبله "كوبرنيكوس" فى مجال العلوم الفيزيائية والفلكية وما حققه العلم والفكر من تقدم ، وعندئذ "أصبح الفهم العقلانى ممكناً" .
والعلم ينير العقل ويبدد أوهامه الكثيرة حول العالم ، وحين نتعلم شيئاً جديداً عن العالم وعن أنفسنا يتغير مضمون فهمنا الذاتى ، وقد قلب العلماء صورة العالم التى كانت تتمركز حول الأرض وحول الإنسان رأساً على عقب ، ومن ثم زعزعوا الكثير من المطلقات وبددوا العديد من الخرافات والتابوهات . هكذا ينبغى أن نموضع مفهوم "التسامح" داخل سياقه التاريخى لكى نفهمه على حقيقته . فقد ظهر تلبية لحاجة ماسة فى بواكير الحداثة فى الغرب ، بيد أن آليات هذه الحداثة ذاتها هى التى دعمت التسامح وخطت به خطوات أبعد وبدون جهود العلماء والفلاسفة أو قل بدون جسارتهم الفكرية ما كان لمفهوم "التسامح" أن يترسخ فى بنية العقل الغربى .
لقد كان مفهوم التسامح "واضحاً فى أذهانهم تماماً ، بينما لم يكن له أى معنى بالنسبة لـ "ملاك الحقيقة المطلقة" ، فهو يمثل ما ندعوه اليوم بـ "اللامفكر فيه" أو المستحيل التفكير فيه" حسب تعبير فتجنشتين" و "ميشيل فوكو”.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصر تنفي التراجع عن دعم دعوى جنوب إفريقيا ضد إسرائيل أمام مح


.. هيئة البث الإسرائيلية: نقل 300 طن من المساعدات إلى قطاع غزة




.. حزب الله اللبناني.. أسلحة جديدة على خط التصعيد | #الظهيرة


.. هيئة بحرية بريطانية: إصابة ناقلة نفط بصاروخ قبالة سواحل اليم




.. حزب الله يعلن استهداف تجمع لجنود إسرائيليين في محيط ثكنة برا