الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الصراعات السياسية في القرن العشرين - روسيا نموذجاً

إبراهيم إستنبولي

2007 / 8 / 18
مواضيع وابحاث سياسية


يتميز المجتمع الصناعي بانتصار " العقلانية و التقدم " ،
بينما المجتمع ما بعد الصناعي يميزه " الخوف و الهلع "
دانييل D. Bell
صاحب نظرية ما بعد المجتمع الصناعي

إن القرن العشرين سيكون هو الأكثر عسكرة و الأكثر عنفاً بالنسبة للأجيال القادمة. ففي هذا القرن اكتسبت الحروب لأول مرة طابعاً عالمياً . و قد انقضى القسم الأكبر منه في أجواء المجابهة المُكلفة و الصدام المنهك بين نظامين عالميين . كما تسلحت الدول الرئيسية بأكثر الأصناف فتكاً من بين أسلحة الدمار الشامل و مع نهاية القرن اختبر العديد من البلدان على نفسه التأثير غير المدروس أو المدروس بدرجة غير كافية لتكنولوجيا المعلومات ذات القدرة التدميرية الهائلة . " لقد قدم التاريخ السياسي للبشرية أكبر عدد من الصراعات . إن الصراع من أجل السلطة ، من أجل الاحتفاظ بها و توطيدها ، كما و محاولة القضاء عليها ، قد خلق الكثير من الآمال و الأحقاد ، المخاوف و الأطماع ، العمل المجهد للعقل عند المفكرين من علماء الإيديولوجيا و السياسة ، من الثوريين و أعداء الثورة ، من المحافظين و الراديكاليين ، من المتطرفين و الإصلاحيين " .
فالعالم المعاصر من حيث تطوره أصبح أكثر اعتماداً على بعضه البعض ، أصبح ديناميكياً و تشاركياً. و بهذا الخصوص صار الحديث أكثر عن عولمة العمليات المجتمعية ، بمعنى الانفتاح الأوسع و جعل المجتمع الدولي أكثر أممية ، و تشكل المجتمع ما بعد الصناعي ، المجتمع التكنوقراطي . و بالفعل ، إن التغيرات الجذرية التي أصابت و تصيب التطور الاجتماعي واضحة ، إلا أنها جميعها تنطلق و تتفاعل انطلاقاً من أساس سابق . فالإنسان يحافظ خلال تطوره على الإرهاصات الأولية و على مواصفات طبيعته الخاصة . من هنا ذلك التناقض المتأزم و الذي يثير بعض مشاعر عدم الثقة و التردد أو ، على الأقل ، الالتباس بشأن عواقب التوجهات الحاصلة .
إن المستقبل بالنسبة لغالبية سكان الكرة الأرضية يبدو في الواقع متلبداً بالغيوم و غير سعيد . ذلك أن النمو غير المنضبط للسكان ، و الذي يفوق بشكل كبير إنتاج المواد الاستهلاكية ، هو من نصيب تلك المساحات الشاسعة مما يسمى بالمحيط العالمي ، حيث مستوى المعيشة بالأساس و من دون ذلك يبلغ حداً متدنياً . و المشاكل البيئية هناك متفاقمة أيضاً ، لأنه لا توجد موارد من أجل تنفيذ مشاريع حماية للبيئة ، و هناك أيضاً نجد مدى الارتباط العميق ( الاقتصادي ، المعلوماتي ، السياسي و العسكري ) لتلك البلدان بالدول المتقدمة في العالم . و لا تعتبر هذه الحالة مميزة لسكان المحيط بالمفهوم الجغرافي فقط . إذ يوجد محيط بالمعنى الاجتماعي أيضاً . ليس هناك في العالم من مدينة كبيرة أو بلد متطور اقتصادياً ، حيث يمكن أن لا تتمايز بشكل واضح حياة الشرائح المختلفة من السكان . ففي كل عاصمة أوروبية بغض النظر عن مستوى الرفاهية ، يوجد منبوذون ، مهانون و محرومون لا تختلف حياتهم عن حياة سكان أكثر البلدان فقراً في العالم .
ليست قليلة المشاكل الخاصة ، التي تعاني منها البلدان المتطورة . إن دخول الأتمتة و التكنولوجيا الإلكترونية قد أدى إلى تقليص فرص العمل إلى حد كبير . و البطالة لا تنعكس بشكل سلبي فقط على الجانب المادي من حياة العاطلين عن العمل ، بل و تمارس تأثيراً ضاغطاً أيضاً على نفسية حتى أولئك ، الذين لا زالوا على رأس عملهم . إن ظاهرة البطالة بحد ذاتها ، حقيقة وجودها تزعزع أسس الاستقرار الاجتماعي ، تملأ حياة الكثيرين من المواطنين بمختلف مشاعر اليأس و السوداوية ، و ذلك على الرغم من المستوى العالي و الرغيد نسبياً للمعيشة من الناحية المادية . و إذا كانت اليابان ما زالت تتغلب على تعقيدات أتمتة الاقتصاد بفضل البنية الفريدة للشركات فيها، فإن الولايات المتحدة الأمريكية و أوروبا مضطرة لأن تكبح هذه العملية بشكل مصطنع ، خشية من حدوث هزات اجتماعية كبيرة .
كما تبعث على القلق المتزايد حالة النظام النقدي . فالتدفقات المالية العالمية تكتسب طابعاً متخيلاً أكثر فأكثر . لقد تخلت الولايات المتحدة الأمريكية في بداية السبعينيات عن الذهب كمعيار نقدي مما جعل من ذلك مقياساً مستقراً إلى حد ما كبير ، و إنْ يكن غير كامل ، لتقييم الأوراق النقدية . إن الأموال المعاصرة ، التي تُدعى " بالأموال الطيارة Phantom Money " ، ليست بلا رصيد فقط ، بل و غير محولة إلى سلع مادية بالشكل الطبيعي . و في حال تمت المطالبة بها من قبل المقرضين ، فإنه من غير الممكن تسديدها . و هي تبلغ أرقاماً خيالية . إذ يبلغ الحجم اليومي للتداولات المالية عبر شبكة الانترنيت أكثر من تريليون دولار .
هناك تأثير تفريقي أو ، يمكن القول ، تفكيكي على النسيج الاجتماعي لما يسمى بمجتمعات الرفاه من قبل العيوب القديمة – الجديدة . ففي تلك المجتمعات ترتفع نسبة الإجرام ، يزداد عدد الذين يخرقون شيفرات الكمبيوترات المصرفية ، تذهب أدراج الرياح جهود محاربة التجارة غير القانونية للأسلحة ، و كذلك مكافحة تجارة المخدرات و الهجرة غير الشرعية ، التي تتحول تدريجياً إلى شكل من أشكال الرق الحديث .
هناك أمثلة على الاتجاهات المثيرة للقلق في تطور الأحداث ذات الطابع العالمي . فقد اكتسبت أهمية غير مسبوقة في العالم المعاصر مختلف الشركات العابرة للقارات ( TNC ) و مختلف التنظيمات و المؤسسات الدولية ، و التي هي في غالبيتها غير قانونية أو غير شرعية ( من Legitimate ) عملياً : منظمة التجارة العالمية ، بنك النقد الدول ، NATO و غيرها . كلها من حيث الجوهر عبارة عن اتحادات من الموظفين ، الذين لم ينتخبهم أحد . و هي تكتسب أكثر فأكثر استقلالية و مزيداً من الغطرسة . و لنشاطها دور فاعل و تأثير كبير على حالة المجتمع الدولي . أما المؤسسات التمثيلية ذات الصفة الشرعية أو الانتخابية مثل الأمم المتحدة ( UN ) ، منظمة الأمن و التعاون في أوروبا غالباً ما تكون عاجزة عن منافستها . و يكفي أن نورد على سبيل المثال أنشطة حلف الناتو في مختلف مناطق العالم لكي يصبح واضحاً عمّا يدور الحديث .
إن العمليات السلبية للتطور العالمي تنشأ على خلفية الهوة الكبيرة ، التي تفصل بين الغنى و الفقر . ذلك أن النسبة بين دخل الأغنياء و الفقراء ، بين المليار " الذهبي " و المليار الفقير لم تتقلص قط ، بل ازدادت بسرعة قياسية و بلغت 13 إلى واحد في عام 1960 ، و 60 إلى واحد عام 1999 ، و هذا بدوره لا يشكل عامل استقرار إضافي للمجتمع الدولي .
و في جميع تلك العمليات تلعب السياسة دوراً ليس هو الأخير . فالحياة المجتمعية للوهلة الأولى فقط تشبه الحركة غير المنتظمة للجزيئات في الكون . إذ لهذه الحركة العشوائية روابطها ، اتجاهاتها و القوى الموجهة الخاصة بها . تعتبر السياسة ، منذ زمن بعيد و عن حق ، الأداة الرئيسية للتأثير على الحياة المجتمعية . و هي ، أي السياسة ، تشكل بمعنى ما ، البداية الواعية في عملية التطور الاجتماعي . إذ يجري عبرها التحكم العام بالقضايا المجتمعية ، و فيها يرى الناس السبب الأساسي لنجاحاتهم و إخفاقاتهم الفردية و المجتمعية .
إن الوظائف الإدارية للسياسة كانت قائمة و موضع بحث منذ نشوء المجتمعات البشرية ، إلا أنه في زماننا هذا فقط يجري الكشف ، بشكل واضح أكثر من أي وقت مضى ، عن الأبعاد الإدارية للسلطة السياسية . و هذا يجد تعبيراً له ، على وجه الخصوص ، في أزمة المذاهب السياسية ذات الطابع المغلق .
لقد تبين أن القرن الماضي هو الأكثر غنى من حيث الأحداث و الوقائع ذات الصبغة السياسية . و إذا ما أخذت بمجملها و مجتمعة ، فإنها تبرهن على أن البشرية تمكنت عملياً و في الإطار التاريخي للقرن العشرين من " اختبار " جميع الأفكار السياسية المعروفة للفكر الفلسفي و السياسي بدءاً من أرسطو و حتى أيامنا . إن النظريات السياسية : الليبرالية ، الفوضوية ، المحافظة أو الأصولية ، الماركسية ، الحداثة – كلها خضعت للاختبار العملي بهذا الشكل أو ذاك ، بهذه الدرجة أو تلك . و لم تفلح أية منها ، أثناء تطبيقها على أرض الواقع ، في أن تحقق السعادة للبشرية . لقد جرّب المجتمع الدولي جميع أشكال الحكم و بناء الدولة ، التي يعرفها العلم السياسي المعاصر . إن جميع أشكال النظام السياسي المعروفة – الديموقراطي ، التسلّطي، التوتاليتاري ( الشمولي ) أو بعض مشتقاتها مثل النظام الاستبدادي Despotism ، الدكتاتوري ، الديموقراطي – الليبرالي و الفاشي – كلها خضعت للاختبار التاريخي و لا يستطيع أحد الإدعاء أن البشرية قد وجدت ضالتها . و في هذا السياق ، إن النظرية السياسية المعاصرة تعيش أزمنة صعبة للغاية ، لأنها عاجزة عن تقديم أيّ مذهب ( Doctrine ) سياسي جديد للفكر السياسي التطبيقي ، بل و في النهاية أدت إلى إرباك الفكر السياسي ذاته بمختلف " ما بعد - Post " و " نيو - Neo " ، التي لم تضف من حيث الجوهر أي شيء جديد لما هو معروف .
تنشأ الحاجة إلى نظرة أخرى مغايرة تجاه ظاهرة السياسة نتيجة لتغير التصورات السابقة حول طبيعة التطور المجتمعي . لقد أدت الأزمة السياسية للماركسية إلى إثارة الشكوك حول رؤيتها للتطور التاريخي : فالمقاربة القائمة على مفهوم التشكيلة الاجتماعية ، و التي وضعت أحداث التاريخ العالمي في سياق حركة متسلسلة من الأدنى نحو الأعلى ، من الأبسط نحو الأكثر تعقيداً ، تلك المقاربة التي قامت على تصور بأنه توجد قوانين و قواعد ما تتحكم بالتطور المجتمعي ، و التي يكفي الإطلاع عليها بدرجة كافية لكي نتحكم في النهاية بمسيرة التاريخ ، قد تبين عقمها في ظروف التطور الديناميكي المعاصر للمجتمع ، و في ظروف الواقع المتغير و حقائق الحياة المجتمعية المتغيرة بسرعة قياسية . إن الفهم الماركسي للتاريخ ، كما بالمناسبة و الفهم الهيغلي ، مبني بما يتفق مع التصورات العلمية لحقبة كل منهما . إذ أن النظرة النيوتونية للعالم و التي كانت مسيطرة حينذاك ، دفعت حتى بالعلماء أصحاب التفكير الديالكتيكي لأن يبحثوا عن قوانين عامة للتطور المجتمعي ، و أن يقولبوا نظريات هذا التطور في إطار صيغة منتهية و خالية من التناقضات . بالتأكيد ، إن الجهود المبذولة في هذا الاتجاه قد أدت إلى نتائج تبرهن على المقولة الأصلية . ليتبين أن لغز التاريخ العالمي ، أخيراً ، قد تم اكتشافه ، و أن قوانين الحياة المجتمعية – أضحت مفهومة . و لكن ، على الرغم من كل عمق و ضخامة تلك البناءات النظرية ، فإن الطموحات التي قامت على أساسها كان مُبَالغاً بها .
إن الخصائص النوعية للنظم السياسية تدرس بصورة تقليدية من خلال المقارنة بين التوتاليتارية و بين الديموقراطية . أما مصطلح التوتاليتارية فقد ظهر في الأدبيات العلمية منذ ثلاثينيات القرن العشرين باعتباره انعكاساً للتوجه المتشكل في العلاقات السياسية في بعض بلدان أوروبا الغربية . و قد اكتسب في الكثير من النقاشات العلمية شكل الظاهرة السياسية و الاجتماعية المعقدة ، التي تمتلك جذورها التاريخية و ملامحها المعاصرة الخاصة . بل إن بعض العلماء يعود بالتوتاليتارية إلى الطبيعة الأبدية للإنسان و للمجتمع البشري ، إلى الجوهر التراتبي (Hierarchism ) للعلاقات الإنسانية . بينما يفترض آخرون أن التوتاليتارية ظاهرة غير عادية و غير مألوفة في تاريخ المجتمع ، و هي واسمة للحضارة الصناعية و قد تركت أثراً عميقاً في المظهر السياسي للقرن العشرين .
وفي هذا النمط من المجتمعات تصبح الصراعات الاجتماعية ظاهرة نادرة . و القضية هنا لا تكمن فقط في أن العنف و الإكراه تجاه المعارضة يعتبران الضمان بالنسبة للمجتمع " الآمن ، الهادئ " . فالوسط الاجتماعي بحد ذاته في مثل هذه المجتمعات لا يتمتع بالشروط الضرورية لقيام علاقات اجتماعية طبيعية . فالمصلحة الاجتماعية العامة ، التي تتميز بها هذه المجموعة أو تلك ، لا يتم إدراكها كما هي من قبل الأفراد المنتمين لهذه المجموعة ، و ذلك بسبب غياب الأشكال المنظمة القادرة على جعل تلك المصلحة في متناول الوعي الفردي . و في تلك المجتمعات تكون النمطيةStereotype الراسخة لعلم النفس الاجتماعي أقرب إلى المحاكمة المعروفة : " لننتظر مجيء السيد ، و عندئذ فإن السيد سيفتي فيما بيننا " . أي أن السلطة ، التي تقرر كل شيء و باسم الجميع ، هي التي تلعب دور السيد كحكم ثالث . و بالتالي فإن حق السلطة بلا منازع ، في أن تعود الكلمة الأخيرة لها و فقط لها في أي جدل اجتماعي ، يخلق في وعي العناصر المحتملة للصراع نوعاً من عدم الثقة في مقدرتهم على الدفاع عن مصالحهم المشتركة بقواهم الذاتية . و لذلك هم يميلون باستمرار ، من ناحية ، نحو تأجيل الدخول في صراع مكشوف و علني ، و من ناحية ثانية ، هم مستعدون لوقف التصرفات الخلافية ، حتى قبل أن يحققوا أهدافهم المنشودة و دون أن يجربوا في سبيل ذلك كل الفرص الممكنة ، و ذلك بمجرد أن يصلهم " من فوق " الأمر " كفّوا عن ذلك " . لقد لاحظ أ. توكفيل A .Towquil بصورة عادلة ، أن الصراعات الاجتماعية " تنتفي " إذا ما صارت سلطة الدولة المركزية قاهرة ، بحيث تعجز أية مجموعة عن الوقوف بوجهها . كما يزيد من صعوبة نشوء الصراعات في النظم التوتاليتارية غياب الآليات المسؤولة عن الأنشطة الذاتية المجتمعية و التنظيم الذاتي المجتمعي . إذ أن مثل هذه المجتمعات لا تحتمل أية مبادرات غير مرخص بها من فوق . لا لأية أنشطة ذاتية مستقلة ، خصوصاً في قضايا السياسة أو الإيديولوجيا – هذا هو القانون السائد بلا منازع لعمل النظام التوتاليتاري ، القانون الذي يُعتنى به و يحافظ عليه بواسطة جهاز بيروقراطي يتم تأسيسه خصيصاً لهذا الهدف . في مثل هذه الظروف ، تصبح الصراعات الحقيقية ممكنة بين عناصر ذلك الجهاز البيروقراطي و بين مكوناته الداخلية فقط . الوزارات و الإدارات ، الأقسام السياسية و أجهزة المخابرات ، مختلف الاستطالات غير الشكلية في الجهاز بدءاً بالفخذ أو العشيرة على أساس عائلي وصولاً إلى البنى الفاسدة – كلها تتحول إلى عناصر محتملة حصراً للصراعات الاجتماعية ، و التي تتفاعل في مختلف طبقات البناء الإداري و في الأروقة المختلفة للسلطة . أي أنه في المجتمع المغلق حتى نزعة الصراع تكتسب طابعاً مغلقاً . و أما المواطنون فهم يعرفون الحقيقة بشأن الصراعات الدائرة في مكونات السلطة و بناها فقط بعد انتهائها ، من خلال نتائجها المعلن عنها و عن طريق عواقبها الاجتماعية .
إن المواصفات الرئيسية للتوتاليتارية المعاصرة لم تكن تنطبق على الأنظمة الفاشية فقط ، بل و تشكلت تدريجياً ، و إن بدرجات مختلفة ، في جميع البلدان الاشتراكية . و هذا بدوره انعكس على الحالة العامة للنزوع نحو الصراع . للوهلة الأولى يبدو الأمر مدهشاً ، أنه خلال مدة طويلة جداً من تاريخ الاشتراكية الواقعية ، لم يتعرض المجتمع الاشتراكي لأية هزات و صراعات اجتماعية عميقة .
و هي لم تكن كثيرة بالفعل . بل إلى الآن ، بعد أن افتضح أمر الكثير مما كان سراً في السابق ، يمكن أن نعد على أصابع اليدين فقط الصراعات الاجتماعية الكبيرة ، التي كانت قد حدثت في بلدان الاشتراكية الواقعية . و لكن سبب مثل هذه الظاهرة لا يكمن في خصوصيات النظام الاشتراكي الاجتماعية و حسب ، بل و في الملامح المميزة للنظام التوتاليتاري ، الذي يعيق بشكل مصطنع التعبير الحر عن التململ و عدم الرضى ، الذي يمكنه أن يتطور إلى صراع اجتماعي . و يمكن أن نرى بشكل جيد على مثال الاتحاد السوفييتي السابق بأية طرق و بأية أساليب كانت تتحقق " الهارمونيا الاجتماعية " .
قبل كل شيء ، عن طريق التأثير على وعي الناس من قبل جهاز دعائي فائق الضخامة . لقد أدى الضغط الإيديولوجي الشمولي إلى تشكل وعي اجتماعي يخدم بصورة حصرية المصالح السياسية للنظام السلطوي المسيطر ، مما أعطى الانطباع حول أحادية المدلول لما يجري من أحداث في المجتمع . لذلك فإن أية محاولة للاختلاف في الرأي ، حتى و لو صارت معروفة إلى هذا الحد أو ذاك لشرائح واسعة من المواطنين ، كانت تبدو عاجزة أمام جبروت و إمكانيات التأثير ، التي كانت تتمتع بها المؤسسات الرسمية . الصحافة و الراديو و التلفزيون – كانت تجيش جميع الوسائل الممكنة للتأثير على وعي المواطن العادي و كانت تتلاعب بشكل محترف بالرأي العام ، و تجهز على الخطر المتمثل بإمكانية اتحاد المواطنين على أساس الأفكار المناهضة للنهج الرسمي .
بالإضافة لذلك ، كان التوصل إلى غياب الصراع ظاهرياً يتم عن طريق تسييس أي اصطدام اجتماعي ، يمكنه أن يخرج عن سيطرة المؤسسات الرسمية و خارج إطار القواعد المعترف بها في السلوك المجتمعي ، حتى و إنْ لم يبادر المشاركون فيه إلى طرح أية مطالب ذات طابع سياسي . و المطلوب عادة أن لا يعرف المواطنون عن مثل هذه الصراعات سوى النذر اليسير .
كما يمكن أن نشير إلى ميزة أخرى لموقف النظام التوتاليتاري من الصراع الاجتماعي ، أي سعي السلطة لإزالة النزعة الصراعية الكامنة في المجتمع عن طريق الجهود السياسية ذات الطابع الوقائي ، انطلاقاً من منع ظهور تململ أو نقمة اجتماعية و بالتالي إمكانية ظهور حركة رفض شعبية . هذه الخدمة يقدمها الصراع المفتعل من قبل الجهات الرسمية . معروفة " الأعمال " و " الارتكابات " في النصف الثاني من ثلاثينيات القرن العشرين في الاتحاد السوفييتي السابق ، التي كانت تُغذى من قبل أجهزة الأمن و المخابرات ، و التي كانت لها عدة أهداف سياسية هامة . و من بينها الرغبة بالتخلص من المعارضة المحتملة ، و السعي نحو استعراض المستوى العالي من اليقظة السياسية للرأي العام ، و تسهيل إجراء و تنفيذ النهج الاقتصادي و السياسي المسيطر . و لكن المهمة الرئيسية ، على الأرجح ، كانت تكمن في منع حدوث حركات اجتماعية غير ممسوك بها ، و السعي بأي ثمن للتعبير عن الوحدة المتماسكة في المجتمع و هذا بدوره يزيد من تعاضد و وحدة المجتمع الفعلية ، و هذا يعني – القضاء على أية ظروف ملائمة لنشوب الصراعات الاجتماعية .
أما في المجتمع الديموقراطي فتنشأ حالة مغايرة بشكل كامل . ففي مناخ الحريات الديموقراطية يكتسب المجتمع المدني بالتدريج قواعد و ضوابط محددة لنشاطه . و بوجود مجتمع مدني قوي باستقلاليته فإن سلطة الدولة تتخلى بالتدريج عن طموحها و نواياها نحو ضبط جميع و مختلف مظاهر الحياة المجتمعية . إن الحرية في تشكيل التنظيمات السياسية و الهيئات المجتمعية ، التي تحصر نشاطها ضمن إطار القانون الأساسي فقط ، بالإضافة لنضج و تطور الآلية الاجتماعية في الكشف عن المصلحة الخاصة و الفردية ، تخلق نوعية جديدة تماماً من الحياة الاجتماعية . و في هذه الظروف يصبح بالإمكان تصور الحياة المجتمعية كلوحة باهتة للكثير من مراكز العمليات السياسية ، التي تتحدد و تتشكل ، أي المراكز ، بطريقة حرة ، أو كحالة عشوائية نوعاً ما ، حيث القاعدة الاجتماعية – مجرد محصّلة غير مستقرة لتأثير متعدد لمختلف اتجاهات التطور ، و بحيث تنشأ هذه المحصلة بصورة موضوعية ضمن ظرف محدد ، و لكن نادراً ما يكون لأمد طويل .
إن المجتمع الديموقراطي يميل نحو الاستقرار بفضل مرونته ، و ليس بفضل " وحدته المتراصة و الراسخة " أو بسبب غياب الصراعات . و هو لا يلجأ قط إلى قمع الصراعات أو كبْتها ، بل يخلق الظروف المؤاتية لكي تتظاهر و تعبر عن نفسها بشكل حر . حتى أنه يمكن القول بأن الديموقراطية الحقيقية هي حالة صراعية . إلا أنها ، بخلاف الصراعات في النظام الشمولي ، صراع معلن و صريح ، و كقاعدة ، صراع سلمي . و مما يساعد في المجتمعات الديموقراطية على انتفاء الأشكال المتطرفة من حدة التصادمات الاجتماعية تلك الآليات المتطورة من التنظيم الذاتي الاجتماعي . فمع توفر التكنولوجيا الاجتماعية الملائمة ، التي تفترض خطوات محددة لإجراء الحوار و بقصد الرقابة و التنسيق و المداولات وفق أسلوب مدروس و مجرب علمياً ، فإن الصراع الاجتماعي يتخذ مساراً ديموقراطياً من دون عواقب اجتماعية سلبية .
و بالعودة إلى التجربة السياسية في روسيا ، نجد أنه من المفيد تركيز الانتباه بشكل رجعيRetrospectively على الطريقة ، التي كانت فيها الأحداث السياسية الجارية تؤثر على نزعة العلاقات الاجتماعية نحو الصراع . و يجب أن نعترف بأن الصراعات الاجتماعية كانت ، قبل كل شيء ، ترافق أكثر تحولات الحياة الاجتماعية اختلافاً من حيث طبيعتها ، مضمونها و اتجاهاتها السياسية .
لقد وجدت روسيا نفسها في غمرة الأحداث العالمية : التأزم العميق للتناقضات الاجتماعية الداخلية في بدايات القرن العشرين ، حربين عالميتين ، الثورة الاشتراكية و ما رافقها من تغيرات هي الأكثر راديكالية في التاريخ ، الحرب الأهلية إلى جانب الغزو الأجنبي ، التحولات الصراعية من حيث الجوهر في الحقبة السوفييتية في مجال الاقتصاد ، الزراعة ، الثقافة و الفكر و الإيديولوجيا ، التعليم و التربية . و في النهاية ، مع أفول القرن العشرين ، مرحلة نادرة جداً من حيث النفاق السياسي ، من حيث الكذب و العهر السياسي الواسم للعقد الأخير ، الذي أُطلِق عليه عقد الإصلاحات الديموقراطية ؛ هذه الإصلاحات التي تسببت بنشوب موجة واسعة من النزاعات المتواصلة و التي لا تنتهي . ففي محاضرة له في المؤتمر العلمي العالمي في معهد العلاقات الدولية في موسكو في 21 – 23 أكتوبر من عام 1999 ذكر الصحفي الإيطالي المعروف ج . كييزا J.Kieza ما يلي : " لن يكون سهلاً بالنسبة للمؤرخين اللاحقين أن يستطيعوا فهم و تفسير الخيانة العظمى للمصالح القومية من قبل الطبقة الحاكمة و من قبل المثقفين الروس ، و ذلك بعد أن تمكنوا من الوصول إلى السلطة عن طريق القضاء على الاتحاد السوفييتي . و التاريخ لا يعرف حالة مشابهة تم فيها طواعية القضاء على الوطن و الثقافة . هناك أمثلة على هزيمة هذه الدولة أو تلك على أثر حرب . أو كنتيجة لامتصاصها – من دون حرب – من قبل ثقافات و قوميات أكثر قوة ، أكثر دينامية ، أكثر تنظيماً و أكثر تطوراً . و لكن لم يحصل أبداً أن بلداً سبق و كان بمعنى ما إمبراطورية ، بلداً – بمثابة دولة عظمى ، بلداً – خزاناً لثقافة عريقة و لعلوم عظيمة بالمقاييس العالمية ، و الذي كان يُعتبر واحدة من دولتين اثنتين أو من ثلاث دول أوائل في العالم ، أن انهار و استسلم بدون معركة و بلغ خلال بضعة سنوات ذلك الحد غير المسبوق من الانتحار و الانحدار . إطلاقاً لم يكن هناك ، كما يبدو لي ، مثل هذا المهزوم ، الذي راح يكيل كل ذلك المديح للمنتصر " .
إن القرن الفائت يعتبر الأكثر عمقاً بلا جدال ، من حيث خطط التأثير الصراعي على وعي الأمة ، خلال كل تاريخها . كتب الفيلسوف الروسي الراحل ( الذي كان محرماً الإطلاع على آرائه في الاتحاد السوفييتي السابق و كانت كتبه ممنوعة من النشر ) : " إن المستقبل مخفي بالنسبة لنا - و نحن لا نعرف كيف ستؤول سلطة الدولة في روسيا بعد عصر البلاشفة . و لكننا نعرف أنه إذا صارت معادية للمصالح القومية و للدولتية ، و صارت تجاري مصالح الأجانب ، و تلعب دوراً تقسيمياً في البلاد و أصبحت خالية من أية فكرة وطنية ، فإن الثورة لن تتوقف ، بل سوف تنتقل إلى مرحلة الموت الجديد ... " .
إن جميع الإشكاليات " في روسيا بعد البلاشفة " ، و التي كان حذر منها ي.أ. إيليين ، كانت قد تعمقت و تكرست في ممارسة القيادة السياسية على مدى العشر سنوات الأخيرة بصورة مطابقة إلى حدود مدهشة .
روسيا بلد شاسع . و بالتالي فإن الترابطات السببية – الاستنتاجية للعمليات ، المتشكلة عبر فضائها في وعي الملايين الكثيرة من سكانها ، لا تنضج بصورة مفاجئة ، على الفور . إن " خلد التاريخ " هنا يحفر ببطء شديد . إذ أن عدم التمكن من التقاط الفرصة في اللحظة المناسبة لتحاشي المسار غير المرغوب في التطور قد يتحول إلى سبب قاتل لأحداث كارثية ، عندما لا يعود ممكناً توقف الفوضى أمام السعي المتأخر و المستدرِك نحو تغيير ما يمكن تغييره في المجتمع في اتجاه الأفضل . و هذا كثيراً ما يحدث في التاريخ . فهذا هو الشاعر الروسي المعروف ف. ي . توتشيف يكتب في رسالته إلى أ.د. بلودوفا بتاريخ 28 أيلول 1857 ما يلي : " يوجد في تاريخ المجتمعات البشرية قانون حتمي لم يسبق أن خان ذاته مطلقاً . فالأزمات العظيمة ، و الانتقامات أو القصاصات العظيمة عادة لا تحدث ، عندما يبلغ خرق القانون حداً معيناً ، عندما يسود الظلم و غياب القانون و يتحكم بكل قوته و بكل عهره . كلا ، يتم تفريغ الانفجار عند أول محاولة خجولة للعودة إلى الخير ، عند أول زحف صادق ، ربما ، و لكنه غير واثق و غير جريء نحو الإصلاح الضروري . عندئذ فقط تتم معاقبة أمثال لودوفيغ السادس عشر على أخطاء لودوفيغ الخامس عشر و الرابع عشر " .
أحياناً يبدو لنا ، أن كل شيء في التاريخ يتوقف على الإرادة و على الدافع لدى القابضين على زمام السلطة . و هذا بالفعل صحيح إلى حد ما ( لا يمكن من دونهم ) و السياسة تقدم في هذا المجال مجموعة من الحقائق و الأدلة الثابتة . إلا أنه لا يقل صوابية الرأي المعاكس تماماً : " مادة التاريخ هي حياة الشعوب " ( ليف تولستوي ) .

المراجع

علم الصراعات " . مجموعة من المؤلفين الروس .
د . م . فيلدمان : علم الصراع السياسي . دليل تعليمي .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قطر تلوح بإغلاق مكاتب حماس في الدوحة.. وتراجع دورها في وساطة


.. الاحتجاجات في الجامعات الأميركية على حرب غزة.. التظاهرات تنت




.. مسيرة في تل أبيب تطالب بإسقاط حكومة نتنياهو وعقد صفقة تبادل


.. السيناتور ساندرز: حان الوقت لإعادة التفكير في قرار دعم أمريك




.. النزوح السوري في لبنان.. تشكيك بهدف المساعدات الأوروبية| #ال