الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحلقة المفقودة

سيف عبد الكريم الربيعي

2007 / 8 / 19
الادب والفن


(خفاش اسود يسكن كهفا مظلما كالقرافة، يضرب بجناحيه التي جفت عليها قذارته جدران الكهف المتهرئة وقد أسدل عليه ستار الرطوبة منذ زمن وانتشل من خلاصه الموت الذي زف إليه الآخرين) *... أما الآن :فلا الموت ولا الظلام ، لا التهريج ولا الأحلام سيورق خلاصي، فالفشل مطرق وسينقض علي حال عودتي من ساحل الغيبوبة ...
الساعة الثانية عشرة والشمس أشهرت رماحها الملتهبة لتروي عطش الأرض الأزلي إلى أشعتها البرونزية التي تحمل بين خيوطها أبواب رزق لباعة المشروبات الباردة، الموزعين في حدائق الجامعة، وتفترس الوجوه المغمورة بقطرات العرق فتتبخر معها ألوانا جميلة تمعنت الفتيات كثيرا بترميم سحنتهن بها.... ومن قرافة الجو في الخارج إلى جوف القاعة المكيفة تتبارى أقدام الطلبة ببرودها المتقن، أشبه بمن تسير قدماه صوب فم الحوت ليبتلعه فتنهال عليه عصارات الهضم فتهرسه لحما وعظما، وبعصبية صامتة تحتضن الأرض سجائر الطلاب المقطوفة من أفواههم بعد إسعاف الرئتين بآخر كومة دخان قبل دخول جرة صمت مغمورة بساعتين من الكآبة حيث محاضرة الثرموداينميك والأستاذ قصير القامة ذو الكرش والصلعة اللامعة....
سحب رمادية غاضبة غابات أشجار شريرة متشابكة يرسمها الدخان المتصاعد من سيجارة الأستاذ ذات الفلتر، وبنهايتها يبتدئ محاضرته بعد أن كتب عنوانها على السبورة البيضاء المتشبثة في احد جدران القاعة (الماكنة السرمدية) .
تأفأف وتململ كعادته، وكأنه جاء للتدريس مرغما ، يخطو وئيدا ويزفر خليطا من الدخان وارناءات تبتسم بوجوه الفتيات الجالسات في المقاعد الأولى، ينزع نظارته الطبية ليمسح (بالكلينكس) قطرات العرق المستقرة في فراغ هلالي تحت عينيه الشبه مغمضتين، وبتمط هرم تزرع شفاهه الناشفة كلمات الدرس بعد أن ألقى تحيته الباردة "من المستحيل إنجاز شغلا من لا شئ فمن شروط إنجاز الشغل وجود الطاقة المتحولة حيث أن مجموع الطاقة المتحولة يساوي مجموع الشغل المنجز ... الماكنة السرمدية بأمكانها إنجاز شغلا دون وجود الطاقة لذا سميت بالماكنة ذات الحركة الأبدية....."
ترتدي ((صدرية)) العمل الزرقاء الملتصقة تماما على جسدها الفاتن، لتجتره أعين الطلاب المتوحشة، وعلى شماعة الحر تعلق فتح زري الصدرية العلويين، عبثا تتلوى بخطاها المتناسقة كأفعى أو كآلة متحركة صممها مهندس بارع، وبين الحين والآخر تداعب بأناملها الدقيقة شعرا اسودا كالليل سال على كتفيها... وبلؤلؤتي محجريها تمتص مئات العيون الثملة التي تستهوي النظر إليها والى الأخريات في الجامعة... وضمن حماقات قسرية تسكعت نظراتي فوق جبينها الأسمر وتعانقت بعفوية مصطنعة مع غموض تغاضيها، الذي اسقم قلبي بمشاعر ابتلعها المستحيل، وبحركة عجلة الأيام التي داست على زهور آمالنا أصبحت (ورش العملي) مستنقعا لاحتضان الإهمال المزيف الذي أجهضته حقيقة الأحاسيس ... ومن بين إيماءات المهرجين تعتلي أنفاسنا المجهدة، وتتكور المشاعر لترمي بنفسها في مقبرة اليأس التي ارتضيناها منذ البداية وبالهامات رجيمة أصارع وبائي ولكن سرعان ما يتدفق الألم بمجرد النظر إليها... حتما سأقتلع عيني وارميها في تلك الآلة الطاحنة بدلا من هلوستي العاجزة:
مابية اصبر الروح من يجبل هواي
مثل السعف بالريح تتراجف عضاي
بأف ضننت أن أضلاعه انفرجت وتدفقت منها أحشائه أكمل الأستاذ محاضرته التي خيم عليها القرف بعد مرور الساعة الأولى منها... ومن جوف السكوت يختزلنا احد الزملاء بسؤاله:
• عفوا أستاذ، أين تستخدم هذه الماكنة؟
بضحكة عالية بدد الأستاذ صمت القاعة الحاد وغير سحنة الطالب بمرجحة يده وأردف:
• لو كنت منتبها إلى كلامي منذ البداية لوجدت أنني قلت بأنها ماكنة خيالية....
يبدو أن أذهان الجميع هنا شاردة من جمود المحاضرة، صورا نرجسية هشة ترسمها تلك الأذهان لترتق بها ثقوب النفور من ركوب بحر الدرس، فهناك النائم وهناك من اتكأ على ذاكرته ... ولكن اجتذبني همس طالبان قابعان خلف ظهري، لم استمع إلى حديثهما بكامله:
• بت لا أرى سوى صورتها التي جثمت على مخيلتي....
• ولم لا تبوح لها بحبك الذي اقرفتني به؟!
• هل نسيت الفوارق بيننا ؟! الديانة، مستوى المعيشة، وهلم جرا...
• يا أخي والله سالفتك تضحك .... ولك وين اكو حب بهل وكت!.
• مرات نسوي اشياء بدون سبب، ويمكن لسبب بس منعرف شنو...
ببرود تحتضن شفاهي السيجارة الأخيرة في علبة الدخان، حتى في استلالها أجد صعوبة هذه المرة، أكاد افقد قواي ذهني المتشتت، مستودع الذاكرة الذي انغمرتُ فيه فلم أجد سوى تفاهات خاملة ... تكورت رجلاي فوق رصيف الشارع المؤدي إلى الباب الخلفي للجامعة التكنولوجية والدخان يتدفق بحرقة من فتحات انفي، ابتلع آهاتي وازفرها أنفاسا ممزقة تتمطى بها الرئتان التي أصبحت أشبه بمدخنة تكدس على جدرانها السواد...
اعتلى طنين التناقضات في رأسي المظلم، تبخرت، تكثفت، أمطرت سحب الموت غضبها كقطرات دم آسنة تتدفق بسقم مرير من أوردتي لتمتزج مع رماد الأحلام المنكوبة، فتنجب اللزوجة المقرفة التي تلطخ بها فضاء روحي المعتم... ومن عزلتي المكبوتة امتطي صهوة فشلي شاردا كغزال اجتمعت عليه وحوش العالم نحو سراب اعتصره عقلي المريض...
ملاحظة: ((حينما قمت وركضت طويلا سقطت من يدي حزمة الأصوات المربكة، وامتزجت مع كل الأزهار التي سحقتها قدماي، لكني أحسست حينها بآلام زاعقة تخترقني كآلاف الرصاصات.....)).
يلتفت الأستاذ نحو نافذة القاعة، يغمض عينيه برهة ثم يعاود حديثه بحماس لاهب : "إن هذا النوع من المكائن لا يعمل وفق شروط الآلات الحقيقية، ولكن هناك فرضيات موضوعة لابد من الالتزام بها فلا يمكن نظريا ربط ماكنتين إلا إذا كانت متجانسة بالعمل أي لا يمكن ربط ماكنة تعمل وفق نظريات معينة مع ماكنة أخرى تعمل وفق نظريات تختلف عن الأولى..." ، لحظات من الصمت الموقوت بعدها انفجرت حنجرة الطالب الجالس خلفي بالضحك المستهجن وهو يضرب الـ(استيج) بكفه، استدرت نحوه، شربت ملامحه المتألمة ورميت بنفسي في عالم سخريته ممتزجا معه بالضحك الذي قادنا إلى خارج القاعة بأمر من الأستاذ الذي أندى جبينه غضبا.
الهامش:
* تعريف الأمل في حياة القتيل الذي تعلق في رقبة الأيام....








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فقرة غنائية بمناسبة شم النسيم مع الفنانة ياسمين علي | اللقاء


.. بعد تألقه في مسلسلي كامل العدد وفراولة.. لقاء خاص مع الفنان




.. كلمة أخيرة - فقرة غنائية بمناسبة شم النسيم مع الفنانة ياسمي


.. كلمة أخيرة - بعد تألقه في مسلسلي كامل العدد وفراولة.. لقاء




.. كلمة أخيرة - ياسمين علي بتغني من سن 8 سنين.. وباباها كان بيس