الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السعدية ، و العولمة و بيان أسباب عدم نشر موضوع البهرزي في الثقافة الجديدة

منير العبيدي

2007 / 8 / 23
مواضيع وابحاث سياسية


الجزء الأول :
جذور خيبة الأمل ، وعي الداخل و وعي الخارج
كان يا ما كان في قديم العصر و الأوان : كانت هناك بلدة أو ناحية اسمها السعدية تقع بعد بحيرة حمرين في الطريق بين بعقوبة و خانقين يسكنها من خلق الله " خلائق لا تحصى " تنوعا من العرب و التركمان و الأكراد و غيرهم و كان بينها منزل أهل صديقنا الكاتب المبدع سعد محمد رحيم الذي تعرفنا من خلاله على الأستاذ عباس " أبو هشام " الذي كان حينذاك ، كما أسرني سعد محمد رحيم في العام 2000 و قبيل مغادرتي العراق مراسلا لصحيفة التآخي و لكن بشكل سري على أعتبار أن الصحيفة كانت تصدر في كردستان التي فكت ارتباطها بالسلطة المركزية . كان هذا العمل ، أي مراسلا لصحيفة معارضة من اقصى المحرمات ، و كان من الممكن لو عرف من قبل السلطة ، أن يعرض ابو هشام لخطر كبير ربما كلفه حياته .
بعد ظهر أحد الأيام من شباط عام 2000 قررنا زيارة أبو هشام في السعدية بدعوة منه ، و بعد أن استأذنا زوجاتنا الحريصات على التدقيق في حسن استخدامنا للحرية ، توجهنا الى السعدية وكنا : الكاتب و الشاعر الشهيد مؤيد سامي ( صاحب أشهر مكتبة في العالم ! اغتاله الإرهابيون امام باب منزله و أمام أنظار زوجته و أطفاله ) ، و نحن الذين لا نزال على قيد الحياة حتى اشعار آخر : الصديقان الكاتبان صلاح زنكنه و سعد محمد رحيم ، أبو أيار و أنا . أنطلقت بنا السيارة فغادرت بنا بعقوبة و اخترقت المقدادية و تسلقت بنا تلال حمرين فأنكشف امامنا منخفض بحيرة حمرين الذين كان قبل سنتين من تاريخنا ذاك مملوءا بالماء مشكلا لبحيرة مترامية الأطراف تمتد حتى الأفق أما الآن فقد جف تماما بسبب سياستنا الحكيمة في مجال المياه و التي تزداد حكمة ، فسارت بنا السيارة في قعره مخلفة سحابة من الغبار .
و في السعدية كان ابو هشام بانتظارنا . و بعد أن شربنا الشاي كمحطة استراحة في بيت والدي سعد محمد رحيم توجهنا الى منزل الاستاذ أبي هشام ، و قبلها كنا قد عرجنا على المكان الذي نستطيع منه ان نتسوق ما نشاغل به الليل من محرمات ما بعد التحرير ، و في المساء كان كل شيء معدا بما في ذلك الفستق السوداني الذي اشتهرت به السعدية . و قد كان حاضرا جلستنا رجال متقدمون في السن من سكان السعدية عُرفنا بهم من قبل سعد محمد رحيم و ابي هشام . بينهم رجل تجاوز ربما حينذاك الستين يرتدي ملابس قروية شائعة في السعدية و الاطراف المشتركة بين كردستان و عربستان ، كان نحيفا و يلف على خصره على الطريقة الكوردية قطعة طويلة من القماش بلفات متتالية أعتقد انها تسمى بالكردية " بربشت " التي تعني كما قال لي أصدقاء كورد " حزام الظهر " ، و كان بعد كل سيكارة " لف " يعيد عقد فتحة كيس التبغ و يحشره في طيات الـ " البربشت " .
هذه الصورة التي وصفت بها هؤلاء الأصدقاء مقارنة بإناقة اصدقاء اوربا ضرورية لما هو لاحق .
فبعد عدة كؤوس و عشرات من السكائر و نقاش عن الأدب و الإبداع ساهم فيه الجميع بحرارة و وعي و دقة ، رغم الكؤوس ، ذهبنا الى موضوعة العولمة وقد شارك هذا الرجل المسن بشكل ملفت للنظر في الحديث متحدثا كيف أن العولمة مسار موضوعي لا يمكن تجنبه و أن علينا العمل على تفهم آلياته و أنها ليست خيارا ضمن خيارات أخرى انما هي شيء قادم و الكثير من ملامحها و تجلياتها قد ظهر الآن أو لا بد أن يظهر رغم المقاومة .... الخ الخ .. و كثير من هذا الكلام قد أصبح الآن بعد مضي سبع سنوات في عصرنا عاصف التطور او بعضه على الأقل من المسلمات و من الأمور الواضحة و لكن في حينها كان يمثل ادراكا طليعيا .
لفت الرجل و زملاؤه الآخرون انظارنا نحن " المثقفين " هنا في قصبة نائية من قصبات العراق التي ربما لا تظهر على الخارطة . فقد ناقش و حلل رجال مسنون ربما لم تتح لهم فرصة دراسة الجامعات او السفر الى الخارج العولمة و الديمقراطية و التعددية و انحسار الأفكار التي تدعي احتكار الحقيقة الواحدية ...الخ . عدا ذلك رأينا كيف كان هؤلاء الرجال صبورين في الاستماع الى ما يقوله الآخرون بهدوء و تواضع و روحية من يريد أن يتعلم جديدا فيما اذا كان الطرف الآخر لديه ما يقوله . دامت السهرة حتى الصباح و كنت مندهشا لما رأيته و سمعته كما هم زملائي القادمون من مركز المحافظة .
بعد ذلك بشهور أي منتصف العام 2000 غادرت العراق للمرة الأخيرة الى عمان ثم في نهاية نفس السنة الى المانيا لكي اقيم نهائيا . و كنت احمل معي آمالا عريضة حول عراقيي الخارج و خصوصا رفاقي و أصدقائي من الذين عاشوا ظروف الديمقراطية و التعددية و الذين ربما شاهدوا النقاشات المطولة التي تعرضها و سائل الأعلام وكيف يترتب على المرء احترام الرأي الآخر . و قلت لنفسي اذا أصدقاؤنا في السعدية ، هذه القصبة النائية ، على هذا المستوى الرائع من المتابعة و الادراك رغم صعوبات الحياة و المعيشة و انعدام و سائل الإتصال او صعوبتها و عدم و جود شبكة انترنت او تلفونات خلوية ناهيك عن التلفونات العادية التي كانت معطلة او تكاد و لم يكن متاحا الحصول على القنوات العالمية بواسطة صحون الأقمار الصناعية فقد كانت من الممنوعات ، اذا كان اصدقاؤنا في السعدية هكذا فكيف سيكون عليه اصدقاؤنا الذين غادرونا منذ ربع قرن الى حيث الاتصالات السريعة و شبكة الانترنت و امكانية الاختلاف الى المكتبات و التي هي متاحة للكل بدون استثناء في بلدان الديمقراطية حيث يستمع الراشدون حتى للأطفال الصغار ؟؟
رأيت في خيالي كيف أن اصدقاءنا الذين تنعم عليهم الدولة المضيفة من أموال دافعي الضرائب ما يجعلهم بعيدين عن العوز و الحاجة و كيف انهم بعيدون عن اجهزة الامن و طرقات الباب و الاستدعاءات و استمارات تحقيق الهوية ، فقلت انهم والله لا بد أن يكونوا قد أجترحوا المعجزات و خصوصا مثقفيهم بعد طالت شكواهم داخل الوطن من انعدام كل شيء .
و تذكرت كيف اني في وطني ، لكي اكمل لوحة بانوراما ديالى ذات القطعتين ، حملت اغراضي الى الحديقة بعد أن انقطع التيار الكهربائي لكي اواصل الرسم و كنت شبه عارٍ واضعا قدمي في سطل ماء للتبريد ( ذكرني وضعي هذا براديو ابي القديم الذي كان يربط بسلك الى الأرض التي يجب أن تبل دائما ) فيما الزوجة و الأولاد يتناوبون على تحريك الهواء من حولي بمروحة من خوص النخيل ( مهفة ) حتى انجزت اللوحة وعرضتها في المعرض في وقتها ـ رحمك الله يا موفق الخطيب ـ
و تذكرت كيف اقام الفنان الكبير العزيز نوري الرواي في سنوات التسعينات معرضا كاملا من الاعمال المائية في الغالب رسمها على ضفاف ديالى !! و ليس على ضفاف دجلة او الفرات و هو البغدادي ـ الرواي ، بعد أن حل ضيفا على احدى العوائل في قرى خرنابات هربا من القصف الجوي في حرب الخليج الثانية و كيف انه لم يتوقف عن الرسم ابدا رغم تغير المكان او عدم توفر المواد ، على " أنغام " هدير الطائرات و الصواريخ التي كانت تعبر على رؤوسنا تصم الآذان .
تذكرت هذا كغيظ من فيض ! فقد رسم الرسامون و كتب الشعراء و دبج الكتاب الكتب و المقالات . هؤلاء و غيرهم من المبدعين و الفنانين الذين استمروا في انتاج العديد من النتاجات الإبداعية في ظروف شاقة للغاية تحتاج الى مجهود بطولي .
فما الذي وجدته في أوربا حيث أصدقائنا ؟ وحيث لا كهرباء أو ماء ينقطع و حيث لا أحد من زوار الليل يطرق عليك الباب وحيث المكتبات و شبكات الانترنت متوفرة وحيث تستطيع أن تحصل على أي كتاب في العالم بواسطة التوصية فتجلبه لك المكتبة خلال ايام ، و حيث مكتبة الدولة في برلين و في جميع المدن الأوربية تتوفر على الشارد والوارد من الكتب و المجلات ؟
لقد وجدت المأساة بعينها ! فبعضهم و اقولها بكل صدق لم يقرأ كتابا واحدا منذ ربع قرن ، و اغلبهم لم يتعلم لغة الدولة المضيفة الا بضع كلمات لغرض التسوق و مآرب اخرى ، و بإختصار وجدت أن 90 % منهم على الأقل لا يستطيع أن يقرأ صحيفة بلغة الدولة المضيفة .
أما الذين حصلوا على شهادات فلم اجد الى القليل النادر الذي استطاع فيه أن يكتب مقالا أو بحثا في مجال اختصاصه أو أن يترجم مقالا أو قبل للعمل في اكاديمية علمية .
و وجدت ان ما كنا نقوله بيننا في السبعينات و رغم سقوط الجدار من أفكار عتيقة تجاوزها اغلب اصدقائنا من العراقيين المقيمين في الداخل على غرار اصدقائنا في السعدية لا تزال هناك راسخة سلوكا و تفكيرا .
و وجدت ان أي محاولة للتطوير أو اية مقترحات ستقابل اما بالتجاهل او الاستخفاف او التسويف أو المحاربة .
و وجدت أن للنقد هنا اسما آخر هو : التهجم ، فاذا ما انتقدت احدا او حزبا اصبحت متهجما !
و وجدت أن الوشاية لها دروها الكبير في نقل ما يجري و ما يقال !
و ضمن ذلك ما رويته لكم عن عدم نشر موضوع " حيادي " عن شعر ابراهيم البهرزي اذ لم يتم ايصال النص الى الثقافة الجديدة .
و وجدت أن أصدقاءنا في السعدية و عراقيي الداخل عموما اطيب نفسا و اكثرا استماعا و اشد متابعة لما يجري في العالم مما هو عليه الاغلبية الساحقة من اصدقاءنا في عواصم الدول الأوربية فنعيت نفسي و نعيت طموحي و جلست في البيت لا أبارحه الا لطارئ و أحمد الله الآن أن ليس لي من أحد سوى عائلتي الممزقة بين برلين و دمشق و جهاز كومبيوتر و لوحة و ألوان زيتية وحريتي . و وجدت في هذه العزلة الدواء الشافي فأنا اكثر انتاجا و اشد هدوءا و اكثر قدرة على التركيز و العمل و كفى الله المؤمنين القتال .
و ستكون الحلقة القادمة كما ذكرت عن مقال لم ينشر كان اول خيبة امل بالاحلام الوردية للوطن الاوربي الجديد ، و بقيت اقول دائما كان الله في عون المانيا و كل دول اوربا التي اخطأت في حسابات الاندماج .
هذا ما كان لي من قصة السعدية و أوربا و العولمة .
تعيشون و تسلمون وحتى الحلقة القادمة .
منير العبيدي










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. محمود ماهر يخسر التحدي ويقبل بالعقاب ????


.. لا توجد مناطق آمنة في قطاع غزة.. نزوح جديد للنازحين إلى رفح




.. ندى غندور: أوروبا الفينيقية تمثل لبنان في بينالي البندقية


.. إسرائيل تقصف شرق رفح وتغلق معبري رفح وكرم أبو سالم




.. أسعار خيالية لحضور مباراة سان جيرمان ودورتموند في حديقة الأم