الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حكمة الشيشان التي تُبقي موسكو في قلب اللهيب

صبحي حديدي

2003 / 10 / 11
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم


 

تنام القضية الشيشانية بضعة أشهر، لكي تستيقظ بغتة، أو بالأحرى يستيقظ العالم عليها بعد طول سبات، وكأنّ هذه البلاد موجودة في مجرّة أخرى منسية. قبل أيام تثاءب العالم، والعالم الحرّ بصفة خاصة، على مشاهد الإنتخابات الرئاسية في الشيشان، حين فاز مرشح موسكو أحمد قادريوف بنسبة 81.1% من أصوات الناخبين، ولسان حاله يقول للحكّام العرب المشهورين بهذه النسب الماراثونية: ألا لا يجهلن أحدٌ علينا!
وقبل أيام أيضاً تثاءب الأمريكيون، بوصفهم الجزء الطليعي الأبرز في شرائح العالم الحرّ إياه، وهم يتابعون اللغة الخشبية التي تبادلها رئيسهم جورج بوش مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وليس في أذهانهم ما يذكّر بأنّ هذا الرجل مسؤول، مسؤولية مباشرة، عن جرائم حرب يرتكبها جنوده كلّ يوم هناك في تلك البلاد المنسية: قتل بالجملة، مقابر جماعية، اغتصاب بات عملاً روتينياً، وأخيراً وليس آخراً الإتجار بالأعضاء البشرية!
ولعلّ آخر مرّة صحا فيها العالم الحرّ من سباته على العباد سكّان تلك الأصقاع النائية، كانت قبل نحو عام تقريباً. آنذاك، وبعد أشهر طويلة من التعتيم المقصود، عادت القضية الشيشانية إلى دائرة الضوء من خلال العمل الإرهابي، الحدث الوحيد الذي يُحْسن إيقاظ الوعي الغربي من سباته العميق، بل ويحسن هَزّه بقوّة وعلى مبدأ الصدمة. وفي البُعد الدولي لم يكن مسرح موسكو، الذي شهد احتجاز مئات الرهائن الأجانب والروس، ومصرع العشرات منهم على يد قوّات التدخّل الروسية، سوى الحلقة التالية التي تكمل ما بدأ في أندونيسيا والفيليبين قبل ذلك الحدث بأيّام معدودات، ضمن سلسلة مفتوحة لا يلوح أنها سوف تُغلق في أيّ وقت قريب. كانت طبول الحرب تُقرع في واشنطن، وسوء الفهم الأمريكي الذي أعقب هزّات 11/9 يتفاقم أكثر فأكثر، وتمتدّ نطاقاته إلى جغرافيات وأصقاع في العالم الإسلامي، لم تكن تخطر على بال عتاة خبراء الأمن في الولايات المتحدة والغرب عموماً.
اليوم نفتقد حتى ورقة التوت التي كانت موسكو تتلفع بها، أي المفاوضات بين المقاتلين الشيشان والسلطات الروسية. وفي موازاة المبدأ التفاوضي الشهير الذي يراوح بين العصا والجزرة قبيل إجبار الطرف الأضعف على المساومة والتنازل وقبول الصفقة، كان التراث الروسي يلوّح بمبدأ المراوحة بين السوط و "كعكة الزنجبيل"، ذلك النوع الرخيص من الحلوى المبتذلة التي تُطرح أمام الفقير الروسي (فلاّح الـ "موجيك" دون سواه) بقصد إسالة لعابه أكثر من ملء معدته الخاوية.
والحال أنّ السلطات الروسية كانت، وما تزال، تعتمد هذا المبدأ بالذات في إدارتها للحرب ضدّ المتمردين الإسلاميين في بلاد الشيشان من حيث المظهر، وضدّ النزوعات الإستقلالية في بلاد القوقاز بأسرها من حيث المحتوى الحقيقي. وصحيفة "واشنطن بوست" تنقل عن المحلّل الروسي يوري كورغونيوك قوله إنّ الجميع في موسكو متفقون حول طبيعة وحدود ووظائف السوط، ولكنّ أحداً لا يعرف على وجه الدقة حجم وطعم ووظائف كعكة الزنجبيل. "ننخرط في المعركة، وبعدها نفكّر"، كما كان نابليون بونابرت يقول. نحتلّ بلاد الشيشان بالسوط أوّلاً، ثم نفكّر بعدها في الكعكة.
من جانب آخر لا يبدو أنّ أحداً في الكرملين اكترث باستخلاص بعض الدروس من آخر حرب شنّتها موسكو ضد الشيشان، قبل نحو تسع سنوات. وفي العمليات العسكرية التي شهدها العام 1999 كانت أعذار رئيس الوزراء الروسي آنذاك، فلاديمير بوتين، أوضح بكثير من أعذار رئيسه يلتسين (العمليات الإرهابية التي تلقي موسكو مسؤوليتها على عاتق المتمردين الشيشان). غير أنّ الهدف الحالي المعلن منذ العام 99 (أي إقامة حزام أمني يمنع الشيشان من احتضان حركات تمرّد إسلامية أخرى) إنما يرجّع أصداء هدف موسكو من حرب 1994: إحتواء الجمهوريات الإسلامية، ليس أقلّ. وتجربة داغستان أثبتت أنّ النار الإسلامية لم تعد تتأجج تحت الرماد فحسب، بل هي تتأجج علانية أيضاً... حاملة معها ذكريات (وكوابيس!) أفغانستان. وليس بعيداً أن تشتعل أرجاء القوقاز بأسرها.
وقتها ألمح فلاديمير بوتين إلى احتمال لجوء موسكو إلى تنصيب حكومة موالية للروس، والجنرالات الروس أكملوا هذا النغم الكولونيالي بالحديث عن "ضربات جراحية"، هم الذين غمغموا ودمدموا (ليس أكثر!) وهم يتابعون الضربات الجراحية التي نفّذها تحالف "عاصفة الصحراء" ضدّ العراق، أو نفّذها الحلف الأطلسي ضد يوغوسلافيا، ثمّ أفغانستان، ثمّ العراق... غير أنّ الجنرالات تفوّقوا على الساسة في تعلّم درس واحد وحيد على الأقلّ، هو ضمان عدم انقلاب مزاج الشارع الروسي ضد العمليات العسكرية (كما كانت عليه الحال في الحرب الأخيرة، وبسبب خسائر كبيرة في الأرواح نجمت عن زجّ العسكريين الأغرار وحديثي العهد بالقتال)، وذلك باستخدام وسيلة عتيقة هي التعتيم التامّ على أخبار الجبهات.
وذات يوم سُئل المسرحي والروائي الإيرلندي صمويل بيكيت: "هل أنت إنكليزي؟"، فردّ بجواب صاعق وجيز، ولكنه بليغ وحافل بالمعني: "على العكس تماماً". والمواطن الشيشاني كان يثير حيرة السوسيولوجيين الشيوعيين (أيام الإتحاد السوفييتي) لأنه كان يستخدم منطقاً شبيهاً بمنطق بيكيت ويجيب على سؤال "هل أنت مسلم؟"، بالقول: "طبعاً، لأنني شيشاني". والأمر هنا لا يدور حول الجمع بين ما لا يُجمع، أي أن تكون الهوية الإيرلندية عكس الهوية الإنكليزية، ويكون الإنتماء إلى إثنية شيشانية هو انتماء إلى الإسلام من باب تحصيل الحاصل. إنه، بالأحرى، مثال على حالة فريدة في التباين بقصد التكامل، أو التكامل حين يكون التباين ممنوعاً ومنكراً. وكان في وسع معلّق أمريكي ظريف أن يمزح قائلاً: لقد اقشعرّ بدني حين عرفت أن عبارة لا إله إلا الله، محمد رسول الله منقوشة على قبعة سلمان رادوييف (أحد أبرز قادة كوماندو الشيشان في حرب 4991)، ثم أصابتني الحيرة لأن اسمه الأول هو سلمان... مثل سلمان رشدي!
ومن مفارقات الأقدار أنّ الغرب كان آنذاك يحاول إطفاء حرائق سراييفو، وكان في الآن ذاته يصمّ الآذان عن الأفغان الجُدد الذين انبثقوا من بين ظهراني أهل البيت، وتكاثروا على رائحة الدماء والجثث والخراب. المفارقات ذاتها تقتضي اليوم أن يراقب الغرب انطفاء حرائق كوسوفو، واشتعال حرائق تيمور الشرقية؛ وانطفاء هذه الأخيرة، ثم اشتعال داغستان؛ واشتعال غروزني، وبرجَي مركز التجارة في قلب نيويورك، وأفغانستان، وأندونيسيا، والفيليبين، وفلسطين، والعراق...
هذه حلقات ديالكتيكية تذكّر، للمفارقة هنا أيضاً، بالحلقات الديالكتيكية التي صنعت شجرة العائلة الشيشانية، وقادت سلمان الثاني ذاك إلى شقّ عصا الطاعة على موسكو. وهذه هي العائلة التي ذاقت مرارة النفي علي يد ستالين في مطلع الأربعينيات، ولم تعرف شيئاً من نعمة العودة إلى الوطن على يد خروتشوف في أواخر السبعينيات. بين أفرادها كان جوكار دوداييف، الذي خدم في سلاح الجو السوفييتي في أفغانستان، وكان قائد سرب طائرات مجهزة بأسلحة نووية. وحين زحف الجيش الأحمر لتأديب دول البلطيق أيام غورباتشوف، رفض دوداييف منح هذه القوات حقّ الهبوط في المطار الذي يقوده، الأمر الذي حال دون وصول الجيش الأحمر إلى إستونيا. وأما الفصول الأحدث من حياة دوداييف، وبلاد الشيشان من ورائه، فهي خليط متواصل من العصيان وحرب العصابات والانشقاقات الداخلية و... المافيا أيضاً.
فرد آخر من أفراد العائلة الشيشانية كان شميل باساييف، المقاتل الوديع الذي انقلب إلى صقر قوقازي أعمى حين شهد بأمّ عينيه قيام قوات وزارة الداخلية الروسية باغتصاب دزينة من بنات عمّه العذراوات، قبل قتلهنّ والتمثيل بأجسادهنّ. وكان محتوماً على باساييف أن يلجأ إلى تقليد شيشاني عتيق يمزج الحداد والحزن بالخروج المشروع عن الحياة الاجتماعية ومحظوراتها وأخلاقياتها، وتشكيل فريق من "الخوارج" وقطاع الطرق الشرفاء"، والسير على دروب الانتقام الطويلة.
وثمة أبناء آخرون في العائلة الشيشانية، كُثر ويتكاثرون كلّ يوم مادامت روسيا ما بعد الحرب الباردة قادرة دائماً علي استنهاض وحشها العسكري الكاسر الذي تبدو وحوش جوزيف ستالين ألعوبة أطفال إلى جانبه. وثمة أخوة في الإيمان ينتمون إىي العائلة بالإنتساب وليس المحتد القوقازي، بل إنّ بعضهم (مثل "خطّاب"، الأردني تارة والسعودي طوراً) أتى من أصقاع بعيدة وعقائد متشددة، حاملاً على الدوام تراث المجاهدين الأفغان. والفارق أن الصخب والنقيق كان ديدن أناس مثل جورج كينان وجوزيف ماكارثي في ذروة التصارع البارد بين الجبّارَين بعد الحرب العالمية الثانية، والصمت وصمّ الآذان هو اليوم ديدن أناس مثل جورج بوش ودونالد رمسفيلد في أحقاب هيمنة الجبّار الواحد الأوحد.
أكثر من ذلك، حين كانت حرب روسيا ضد الشيشان مستعرة الأوار كان الرئيس الروسي بوريس يلتسين يحلّ ضيفاً على قمّة العمالقة السبعة في هاليفاكس، يمرح في شوارع المدينة ويستمتع بالسيرك المعدّ خصيصاً للقمة. قبل ذلك، وخلال احتفالات موسكو بالذكرى الخمسين لانتصار أوروبا في الحرب الكونية الثانية، تمنّى "الضيف الكبير"، الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون، أن لا تضمّ قوات العرض العسكري أية وحدات شاركت في قصف غروزني وتسببت في سقوط 30 ألف ضحية على الأقل. وقد فوجيء الصحافيون والدبلوماسيون أن وزارة الدفاع الروسية أصدرت في اليوم التالي بياناً رسمياً قالت فيه إن الوحدات التي قاتلت في الشيشان اشتركت بالفعل في العرض العسكري! وأخيراً، أفاد الصليب الأحمر الدولي أنه لا يوجد أي أسير شيشاني عند الجيش الروسي، لأن هذا الجيش لا يعترف بتسمية كهذه!
وهكذا فإنّ الأزمة الشيشانية ليست سوى التطوّر الأحدث عهداً في سيرورة أعقبت ثورات القرنفل وانهيار جدار برلين وإغلاق دكاكين الحرب الباردة. ومن المدهش أن الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسين كان السبّاق إلى الاعتراف بالمضمون الملتهب للملفّ الشيشاني، وقال بالحرف الواحد: "التدخل العسكري في الشيشان غير مقبول. ولو خرقنا هذا المبدأ فإن القوقاز بأسره سينتفض. ولسوف يسود الكثير من الرعب والدماء، بحيث لن يغفر لنا أحد بعدها". ولقد احتاج إلى أقل من أربعة أشهر لكي يتخلى عن هذا التقدير الحكيم، ويطلق دائرة الرعب والدماء. كذلك لم تفلح خمس سنوات تالية في تذكيره بصواب تلك التقديرات الأولى... تقديراته هو بالذات. وكان أكثر إدهاشاً أن ينقلب خطاب يلتسين رأساً على عقب، في الإصرار على "تلقين دوداييف الدرس الذي يليق به"، وعلى "ضرورة قتل الكلاب المعقورة". إجراءات كهذه (بالإضافة إلى الإحتلال والتأديب والقتل والاغتصاب والتمثيل بالجثث وسرقة الأعضاء البشرية) هي التي تدور اليوم في بلاد الشيشان، باتساق تامّ بين الرئيس الروسي بوتين، وجنرالات الجيش، ومعظم الأحزاب السياسية. كأنّ السلطات الروسية تعيد إنتاج حلقات العنف ذاتها التي حكمت علاقة السلطة المركزية بالشيشان طيلة عقد التسعينيات، وكأنّ المفارقات ما تزال هي ذاتها، أو تكاد.
وذاكرة الشيشان لا تفرغ البتة من حروبهم السابقة ضدّ الطغيان منذ القرن السادس عشر في زمن "إيفان الرهيب"، مروراً بالقرن الثامن عشر على يد الجنرال أليكسي يرمولوف الذي كان يتلذذ بحرق القرى الشيشانية، وانتهاء بالقرن العشرين الذي وضعهم على أعتاب قرن جديد من مسار مشابه. والأرجح أنهم يواصلون اعتماد تلك الحكمة الشيشانية العتيقة التي تقول: "أن ترقد ميتاً تحت الثرى خير من أن تركع حيّاً فوقه".

 








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف مهدت والدة نيكو ويليامز طريقه للنجاح؟


.. لبنانيون محتجزون في قبرص بعد رحلة خطيرة عبر قوارب -الموت-




.. ستارمر: -التغيير يبدأ الآن-.. فأي تغيير سيطال السياسة الخارج


.. أوربان في موسكو.. مهمة شخصية أم أوروبية؟ • فرانس 24




.. ماهو مصير هدنة غزة بعد تعديلات حماس على الصفقة؟ | #الظهيرة