الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أحلام كالأوهام..و أوهام كالأحلام

كفاح حسن

2007 / 8 / 27
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


منذ سقوط بغداد، و إنهيار نظام صدام البائد، كان لدي شوق كبير للسفر إلى العراق. فمنذ أن تركت مربع صباي و شبابي، كان أملي في أن أعود إليه سريعا. و كلما تقادمت الأحداث تحول إلى حلم. و لم أنفرد بذلك الحلم، فقد شاركني فيه العشرات، بل المئات، و ربما الألوف، ممن إضطروا إلى ترك البلاد، تحت ضغط الإرهاب و القمع الدمويين. و بعد أن ضاق بنا الوطن، أو ربما لم نجد أسهل من ترك الوطن، تلقفتنا المنافي لتنهش مافي داخلنا من أحلام.

و لم تمضي سوى بضعة أشهر ، حتى إندلعت الحرب العراقية الإيرانية ، و التي دفعتنا للتصور بأن النظام الدموي سينهار تحت ثقل الحرب. و تسارعنا إلى ترك المنافي و الإلتحاق بوديان شمال العراق، لتكن قاعدتنا للإنقضاض على النظام الدكتاتوري، و تحقيق حلمنا في بناء عراق ديمقراطي حر يعيش فيه أبنائه مرفهين. لقد توهمنا في إن النظام سيسقط بسهولة، و ما سفرنا إلى الوديان سوى رحلة سريعة تصل بنا إلى الحبيبة بغداد.

وفي وديان شمال العراق الكردي، غمرنا أهالي المنطقة المغلوبين على أمرهم بوافر الدعم و العون. ولكن لسوء الحظ، و ربما لسوء التخطيط، أو لردائة الأحلام، غرقنا في إقتتال داخلي عشائري، إقتتال شغلنا عن تحقيق حلمنا في العودة إلى بغداد. لقد كان هناك بون شاسع مابين ماينتظره عامة الناس، و ما بين صراع قادة الأحزاب و الميليشيات على السلطة.

و بدلا من أن نعود إلى بغداد، إضطررنا للعودة صاغرين إلى المنافي. و في هذه الرحلة إختلطت أحلامنا بأوهامنا، فضعنا مابين الأحلام و الأوهام. و كصحوة تسبق سكرة الموت، جاءت إنتفاضة شعبنا العارمة، بعد إنهيار قوة النظام العسكرية تحت ضربات جيوش جرارة غزت المنطقة، لتقتلعه من الكويت. و لكن هذه الجيوش لم تكن راغبة في رؤية شعبنا يتحرر من طوقه، فأعادته إلى الطوق، بإعطائها لصدام و زمرته جرعة حياة جديدة.

و بسقوط بغداد ، تجدد الأمل في العودة ، ولكن عودة لإبن ضال، إنتظره أهله طويلا حتى يأسوا من عودته، و إبن عاد إلى أحلام فقدها بأوهام لاتشبع.

فأي بغداد، و أي عراق وجدناه بعد إنهيار صدام، تحت جزمات البسطال الأمريكي. إن موقف اليسار العراقي من الإحتلال سواء قبل الإحتلال أو خلاله ، إكتنفه الكثير من الغموض و التناقض. ففي وقت إنطلاقنا في تظاهرات عمت عواصم أوربا و مدنها ضد الخيار العسكري لإسقاط صدام، حضر مؤتمر لندن وفد و أفراد عن اليسار العراقي، و في هذا المؤتمر تم التمهيد لدعم إحتلال عسكري أمريكي للعراق، بحجة تخليص شعبنا من نظام عجز عن إسقاطه بقواه الذاتية!! إن هذا الموقف المزدوج أضر كثيرا بمصداقية المشروع السياسي المستقل لليسار العراقي. و لست بصدد إستعراض الأحداث التي رافقت الإحتلال، و التي أدت إلى تهميش دور اليسار العراقي.

فبغداد 2003 هي ليست كبغداد عام 1973. لقد هربنا من بغداد عندما كان اليسار هو سيد الشارع، و عدنا إليها بعد ثلاثين عاما لنجدها تعيش بعيدا عن اليسار العلماني، بل و تستنكف منه. ومن السهل تحميل نظام صدام مسؤلية هذا التدهور. و لكن ألم يخطيء اليسار بتركه ساحة الوطن خالية. ألم يستطع اليسار من أن يجد وسائل نضال و عمل واقعية تبقيه وسط الناس . إن أحلام اليسار المشروعة في السبعنيات طوتها أوهام سياسة لجأت إلى الحلول السهلة.. حلول من يريد خوض المياه دون أن يبتل.

و قبل أكثر من سنة إحتد الحوار و تزاحمت المقالات في تناول وضع اليسار العراقي و دوره في الحياة السياسية، على ضوء التحضير لعقد مؤتمر الحزب الشيوعي العراقي الثامن. وكانت معظم هذه الكتابات تتناول أحلام مبالغ فيها. و لقد إتخذت عهدا على نفسي في عدم الإنجرار وراء هذه الأحلام. فعلينا العيش في الواقع. فأحلام اليسار طيلة العقود المنصرمة قادتنا إلى أوهام.

و لكن حلمي في العودة إلى العراق، و إلحاح ولدي ذو التسع سنوات الذي ولد في الغربة، و لا يرطن العربية في زيارة وطن أبيه، قادتني إلى قطع تذاكر السفر لي و له على متن الطائرة السويدية المتوجهة إلى السليمانية في منتصف شهر تموز الماضي. لقد كان ولدي سعيدا بسفرته، لأنه عثر على جذور يفتخر بها. لكن والده رجع خائبا.

لقد تعمدت أن أزور و أختلط بعامة الناس، و خاصة ممن كنت قد عاشرتهم خلال فترة عملي في فصائل أنصار الحزب الشيوعي العراقي في منطقة أربيل و كويسنجق. و هناك تذكرت عبارة كان يرددها بإستمرار الفقيد توما توماس (أبو جوزيف) و هي مشتقة من مقولة لأحد مفكري الثورة الفرنسية. وتقول العبارة " الثورة يخطط لها الفلاسفة و ينفذها الأبطال و يجني ثمارها الجبناء". و هذا الحال وجدته في سفرتي الأخيرة. فأبطال البيشمركة من مختلف الفصائل يعانون ضيق العيش، و يكافحون من أجل لقمة عيش شريفة بينما الآخرون يجنون الثمار! في مدينة كويسنجق فوجئت بأن أرى مقاتلين البيشمركة الشجعان يركضون صباح مساء من أجل لقمة العيش ، بينما يجلس في المؤسسات الحكومية و مقرات الأحزاب أناس أستغرب كيف سمح لهم الوصول إلى هذه المواقع. و هذا هو الحال في أربيل ، كربلاء، الناصرية، البصرة و بغداد و معظم مدن العراق.

في بغداد 1973 كان حب الوطن و التضحية في سبيله شعار يلتزم به جيل الشبيبة الصاعد. وفي بغداد 2003 أفتقد حب الوطن، فالإنتماء إلى الوطن أصبح أمرا معيبا. في وقتنا كان الإنتماء للوطن فخرا، و من المعيب الإنتماء للعشيرة أو الطائفة أو ما شابهها. لقد نختلف في إنتمائاتنا السياسية، ولكن كنا نتفق على إنتمائنا للوطن. في وقتنا كان اليسار و الفكر اليساري سيد الشارع بدون منازع. وفي عراق اليوم أصبح اليسار جزء من الديكور السياسي في البلد، إنه مجرد لافتة تفتقد الحول و القوة.

إن اليسار في العراق يعيش في أزمة نتحمل نحن جميعا مسؤليتها، فإن تراكم الأخطاء و الخلط مابين الأحلام و الأوهام خلال عقود من السنين أدت إلى الوضع المزري لليسار حاليا.

و أكتب هنا إلى الجيل الجديد في العراق،الذي أرهقته حروب الميليشيات، وأفقدته الأجهزة الحكومية الفاسدة ثقته بالمستقبل. إن أملي كبير في إنه سيستفيد من تجربتنا، و أن يعرف الحدود مابين الأحلام و الأوهام، و أن يتجنب الحلول السهلة، فإنها كجرعات السم المعسولة!


كفاح حسن
السويد
أواخر آب 2007








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل - حماس: أبرز نقاط الخلاف التي تحول دون التوصل لاتفاق


.. فرنسا: لا هواتف قبل سن الـ11 ولا أجهزة ذكية قبل الـ13.. ما ر




.. مقترح فرنسي لإيجاد تسوية بين إسرائيل ولبنان لتهدئة التوتر


.. بلينكن اقترح على إسرائيل «حلولاً أفضل» لتجنب هجوم رفح.. ما ا




.. تصاعد مخاوف سكان قطاع غزة من عملية اجتياح رفح قبل أي هدنة