الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حفيف الظلال

حميد كشكولي
(Hamid Kashkoli)

2007 / 9 / 1
الادب والفن


لم أعُد ْ أتذكر من الماضي إلا ظلاله الباهتة؛ التي تبدو لي غالبا ما كغروب كئيب. فالأيام التي أتأملها الآن كانت سماء من نحاس ،انطفأت نجومها ،وأفل قمرها ، و أثقلتها غيوم دكنة الخريف .سلسلة غيوم عقيمة لا تمطر، تظهر عادة عصرا، وتزعق و تعربد حتى الليل بدون أن تمطر، محرّما إياي من مشاهدة القوس قزح في أفق هذا النهر التعبان . وكل ّ ما تؤديه تلك الغيوم هو أنّها تجعل نهار الخريف البائر و القصير أقصر و أكثر بؤسا، وإن كل ما أذكره في هذه المدينة هو شارع قذر أثناء الغروب، حيث أخوض قطران الغسق عائدا إلى المنزل، و فجأة تشتعل المصابيح بنور خجول ، ليمسي دربي أكثر دكنة و أكثر كآبة، و ثم تتشابك الأصوات الصاعدة من الحسينيات و الجوامع في آذان الناس المتهيئين لتناول عشائهم ... أصوات تنعي النهار، وتبشر بأمور لم تعد تعني شيئا جديرا بالتفكير.
انعطفُ في الشارع المهجور من المارة، لكنني أسمع الهمهمة الخافتة الرتيبة لأهالي المدينة من الفلاحين و العتالين و العمال المنهكين ، ويتناهى إلى أسماعي رجع صدى وقع قدميّ من الجدران الصماء ، لكني أحث الخطى بتأنّّ و صبر.
لا أدري ما الذي يدعوني إلى أن لا أرفع رأسي أثناء المسير. أختلس النظر وكأن رؤوسا صامتة تمط إليّ من فوق الجدران ، ومن شقوق الأبواب ، تضحك بكبرياء و هدوء ، وتبدي تأييدها لبعضها البعض بالتحرك والانحناء على بعضها. أدخل رأسي في معطفي أكثر فأكثر، لكي أرى صفرة أزراره من زاوية عيني. أزحف على حافات الجدران التي تدفعني إلى وسط الشارع. أسير بمحاذاة الأبواب الموصدة ، وهي تخرج لي ألسنتها. تنهال علي ّ الهمهمة و الدردمة من الأبواب والجدران. وكنت ُ أؤمن دوما بأن ّللجدران عيون وآذان.هذه الجدران بإمكانها تسجيل وقع قدمي وعد نبضاتي ، و قياس مدى البصر في عيوني . أسعى أن أتوقف كليا عن التفكير خشية انفضاح أفكاري و المسخرة منها. الأشباح تدبّ في عيوني . وحين ألتفت إلى الوراء ينفلت ُ شبح بسرعة خاطفة من عيوني، مختفيا في قلب الجدران. ومن سوء قدري أن هذه المدينة ليست فيها دروب تحت الأرض لي ولأمثالي.
أصل إلى البيت ، أرى الباب مفتوحا إلى النصف. لعل أمّي تركته مفتوحا. ولكنها كانت مريضة و مستلقية في الطابق العلوي حين خرجت من الدار.
أتجاوز الباحة داخلا إلى الممر. المصابيح مطفأة لكن أصوات محادثات بشرية في الصالة تتناهى إلى سمعي. و ثمة أحد يتشدق بالكلام ، ربما عن ملاحمه وبطولاته في المعارك التي خاضها . تصورته ربما يكون ضيفا طارئا. أدخل الغرفة بدون أن أنزع حذائي، فلا ألقى أحدا هناك، لكن أصوات الكلام الرتيبة لا تزال تأتيني.
و صوت التلفزيون، ربّما!!! . حقا، أنني نسيتُ، إن كان عندي جهاز تلفزيون؟ ربما. نسيت ُ. ربما عندي جهاز تلفزيون قد أودعته في المخزن. على كل، أن هذا الجهاز الآن وضعوه على منضدة المطالعة، و شاشته تحدق في ّ بذهول في جو الصالة الداكن. المذيع يتحدث بصوت مزعج وممل، و شواربه المتراوحة يمينا وشمالا، إلى الأعلى والأسفل تنذر بالويل والثبور لمن لا يشاهد برامجه باحترام و خشوع.
أنادي على الوالدة وانتظر. أسمع صرير الباب من الطابق العلوي. لو أنها نزلت إلى الطابق الأرضي لأوضحتْ لي سبب بقاء الباب مفتوحا، و لعرفت ُ من الذي أعاد جهاز التلفاز اللعين إلى غرفتي. جهاز كبير وقديم و أبيض وأسود وضعوه بدون تأن وتنظيم على أكوام الكتب، وشغل تقريبا كل المنضدة. أرى خلال عتمة الغرفة كومة كتب ودفاتر ومسودات سقطت متناثرة على الأرض.
أسمع حفيفا خفيفا. لا بد أنها الخنفساء شجعتها ظلمة الغرفة و خلوتها على السراح والمرح فوق أوراقي.. يأتي الحفيف عن قرب.. أنظر إلى الأسفل فإذا بعينين وقحتين تحدقان بي بلا وجل أو خوف. فأرة سمينة غامقة جالسة القرفصاء وسط الغرفة تقرض كتابا على مهل و راحة ، و تحدق بي سخرية و تحقيرا. أرفع قدمي لكي أسحقها، ألا أنها تزعق بغضب متفادية الضربة، مولية للاختفاء بين الكتب. يصعد الحفيف من كل جانب ، وأرى الفئران تصول وتجول في الكتب و المسودات.
وأتوقع غريزيام، و أنني داخل ٌ بيتا آخر غير بيتي سهوا. وأتوقع غريزيا أن ثمة صداع ينتابني ، و أحاول أن أسيطر على الأمور ، و أصبح رابط الجأش . أتمشى في الغرفة وألقي نظرات على مذكراتي. الغرفة يرثى لحالها لوساختها والخراب الذي نزل بها. ولا أدرى هل أغضب أم أخاف، أم لا أعير هذه المسألة أية أهمية. فاللا مبالاة أيضا بحد ذاتها اهتمام وتفكير عكسي.
فجأة أنتبه إلى ذاتي من أثر صوت المذيع الحاد. وكأنه كان قد أخذ فترة استراحة أثناء قيامي بمحاربة الفئران ، و الآن استأنف إذاعته بسخرية و إزعاج منقطع النظير. أينما ذهبت ُ لاحقتني نظرات المذيع.
أتحرك باتجاه التلفزيون لكي أطفئه . كان إيقاع قراءة المذيع الرتيب و الوقح يزعجني و ينهكني إلى حد كبير. أضغط على زر، لكن بدل انقطاع البث، تتبدل القناة، لكن البرنامج هو ذاته يبث عبر أكثر من قناة ، والمذيع نفسه مستمر في أداء عنترياته. أضغط على أزرار الجهاز واحدا واحدا لكني لا أوفق في إطفاء التلفزيون، بل وحدها القنوات تتبدل، وبرامجها هي نفسها، لكن التوقيت يختلف.
أبحث ُ عن السلك الموصل للتيار الكهربائي للتلفزيون حتى أعثر عليه ،أسحبه بقوة، فتتمزق الشبكة المنصوبة على الحائط. يبدي التلفزيون أنة، و بعد استنكار واحتجاج يتوقف عن البث، و يخيم على الغرفة ظلام دامس. يظل رجع الصدى لخطابات المذيع لبرهة في فضاء الغرفة تملأ أذني ، مشوشا كل تفكيري.
أين الوالدة؟!!!
لا بد أنها في غرفتها بالطابق العلوي. أخشى أن أصابها مكروه، بوجود هذه الفئران الكبيرة التي أمست تتحدى حتى القطط السمان. أدير زر مصباح الغرفة ، فلا يضيء. أتلمس بيدي كل الأزرار و أضغط عليها ، لكن بدون جدوى، لا يضيء أي مصباح. ربما أن التيار الكهربائي قد انقطع حين سحبت ُ سلك الكهرباء الموصل للتلفزيون, وحدث عطب أثر احتكاك الموجب والسالب.
أنادي على أمي منتظرا ردا منها من الطابق العلوي.أسمع أصوات غير واضحة من الدرج والجدران. لا أدري إن كان زعيق الفئران أم أشخاص مختفون في خفايا وزوايا البيت. فالظلمة تستمر في الاقتتام ، وأخشى أن أدخل المطبخ لجلب عود ثقاب أو ولاعة أو شيء من هذا القبيل.
أخيرا، بعد تردد، أسير نحو الدرج لكي أصعد إلى غرفة النوم. فأرة تهرب، تدوس على قدمي. أصعد وبلمس اليد أعثر ُ على باب غرفة النوم. الباب مغلق، ربما أغلقت الوالدةبعضها فيفا من الفئران والقطط، فأصيح ُ بهدوء من فتحة المفتاح عليها، أسمع ُ صوتا مخنوقا خشنا.فمن يقدر على تمييز الأصوات من بعضها في هذا الظلام الدامس، وتحديد اتجاهاتها؟ أيأتي هذا الصوت من غرفة النوم؟ أم من المدرجات ؟ أم من المخزن ؟ أم من فوق السطح؟ أم من كل تلك الأماكن؟ لكنّي على يقين أن ثمة كائنات حية تدب في البيت.كائنات لم تقرر بعد مواجهتي وجها لوجه، و لم تصمم على التحدّي.
مضحك أن لا يتمكن ولد في بيت أهله أن يلتقي أمه و يتحدث إليها وجها لوجه، ويكون على بينة من حالها !!!
أرجع إلى غرفتي لكي أخابر بالهاتف. التلفون مختف خلف جهاز التلفزيون.أرفع السماعة.أسمع صوت الشهيق والزفير .أقطع المكالمة لكي يتحرر الخط، لكن الهاتف فجأة يرن ّ ، ولا تزال إصبعي على الجهاز.أسحب يدي التي كانت ترتجف من اثر اهتزاز التلفون، و أجيب ُ: من يتكلم؟ و انتظر الردّ. إنه صوت التنفس . تنفس طويل و مثابر، ومستفز ّ.

*** ** **

لقد تعودتُ على الظلال و همسات الأشباح، ولم أعد أخشاها، بعد أن ترعرعتُ و كبرت ُ مع الكوابيس. وإن الغرائز علمتني أنني لو خشيت ُ من الأشباح ، لتجاسرت ْ عليّ، وآذتني ، وإن لم أبد ِ أية خشية أو خوف ، ولم أعر ْ اهتماما ، ستتحرك و تزداد عنفوانا و خطورة. فالأفضل أن لا أعطيهم ذريعة لإيذائي.
استلقي على الأريكة، أصيخ السمع لأصوات الليل، محاولا أن أنام. يأتيني صوت زعيق الفئران خافتا، منتهزة فرصة سكينتي وهدوئي لكي تجول وتصول بحرية، وتقرض أوراقي المنتشرة في أنحاء البيت. تنتشر في غرفتي ريحة الفئران و الغبار و نشارات الورق. أحاول التوقف عن التفكير، وأن أتنفس فقط، و لا ألبث أغفو اثر أصوات شهيقي و زفيري.
*** **
بعد غفوة مضطربة قصيرة ، استيقظ . أنفاسي تغدو أقوى و أشد، ولم تكن تشبه أنفاسي المألوفة، فاحبسها في صدري، و أسترق السمع للظلمة.تأتيني أصوات الأنفاس، أنفاس حادة، ومشدودة و وئيدة، تأتيني من فوق.
إنها جثة أنهض، لكني أشعر بثقل رهيب، و يد ثقيلة غير مرئية من الخلف تضغط على كتفيّ.تلمس يدي يدا باردة وخشنة تتكئ على كتفي.أتمسح بأصابعي المرتعشة والمذهولة بتلك اليد وأبعدها شيئا عني. إنها جثة ضخمة لرجل خيمت على ّ . هذه الجثة الغريبة تظل ساكنة ، وأتجرأ على أن أتلمس بيدي وجهها و رقبتها عسى أن أعرفها.أمرر يدي خلال لحيته حتى شفتيه اللزجتين الدهينتين. الجثةُ،ريبة تفتح فمها الواسع لتعضض يدي.أصرخ ُ، مثل شخص وقع في مستنقع، أسحب ُ يدي المبللة و الملوثة بعفونة الجثة.تنطلق ضحكة عميقة عن الجثة، و انتشرت رائحتها المتعفنة في الغرفة.
أسمع صرير انفتاح باب الغرفة و سدّه ، وثم أسمع ُ صرير باب الممر، ولا أجرأ أن أقوم من مكاني.
بعد جهد أقوم من مكاني. أمشي رافعا يدي الملوثة ذات الرائحة الكريهة، مثل أية يد جريحة، أو مكسورة في الهواء ، أدوس على الكتب والأوراق التي لم تعد تعني لي شيئا مهما. أجلس ُ على كرسيي بجنب المنضدة وراء جهاز التلفاز المذكور، تاركا يدي تتدلى خلف الكرسي. ربما بهذه الطريقة يمكنني أن أراقب أطرافي بشكل أفضل.أمكث ُ لحظات على هذه الحالة ، ربما قد غفوت ُ .لكن نحيبا متقطعا أجفلني. هل أنني أحلم ؟ أصغي إلى الظلمة؟ إنه أنين والدتي يأتي من الطابق العلوي.

أريد ُ القيام من مكاني، فلا أقدر فالكوابيس تقيدني .كوابيس ألفتها منذ زمان طويل .أعلم أنني لا أستطيع التحرك لكي أتحرر. يداي و قدماي مغلولات من الخلف بالكرسي.
لا استنتج شيئا من الصمت والانتظار و التوتر والقلق.أصرخ ُ ..صوت "هس... هس.." يتصاعد من الجدران و الأبواب. .. أسمع حفيفا اثر حفيف ، كأن البيت ممتلئ بالأفاعي.اسمع أصواتا ذات رائحة كريهة تهب على وجهي .
أسأل الظلال ، و الأشباح بدون خوف أو وجل أو غضب ،بل بذائقة شاعرية : من أنتم؟ تمتلئ الغرفة بضحكات مخنوقة وبحة ، و بأصوات الشهيق والزفير ، والحفيف.
هذه الحياة لا بد أن تكون رؤيا خطيرة، لكني الآن أُهِمُّ أن أستيقظ من نوم أبدي. أتصور أنهم حول وجه ضاع في الظلمة، حين كان يقترب مني، و تصفع أنفاسه وجهي. أتصور أنه يمكنني أن أصرخ من أعماقي صرخة كانت محصورة في حنجرتي منذ قرون.
أريد الصراخ ، لكن يدا باردة و خشنة تطبق على فمي ، وتجررني من رأسي إلى الوراء، وتنهال عليّ السكاكين والمدى بدون أن أدري من أين تأتي ،سكاكين من النوع الذي يذبح به الشعراء، تلسعني كالزنابير في كل أنحاء جسدي. الآلام لا تتوزع بالتساوي عليّ.رغم ذلك لن أنسى البحث عن أمي.
تختلط أصوات الطحن والهرس . حديد يهرس اللحم، ويتخضب بالدم. تختلط الأصوات بقهقهة الأشباح وحفيف الظلال ، فغدت ْ غريبة ، أصوات لا تشبه أصوات و لا أصداء.
و الظلال تظل تمطّ، والقهقهة وأصداؤها تتصاعد من النافذة و باب الممر و من الطابق الأعلى وكل زوايا وخفايا البيت.. القهقهة تتآزر وأصداؤها ، ودكنة الليل على تشويش رؤيتي حتى تختفي إثر سماعها صوت رفرفة طيور إبراهيم من سطح المنزل.
2007-08-31








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم ولاد رزق 3 بطولة أحمد عز يقفز لـ 193 مليون جنيه منذ طرح


.. عيد ميلاد خيرى بشارة.. بصمات سينمائية مميزة وقدم عمرو دياب و




.. ما هو المسلسل أو الفيلم الذي لا تمل من مشاهدته؟.. الجمهور ير


.. الفنان أيمن عبد السلام ضيف صباح العربية




.. الكوميدي أم التراجيدي؟.. أقرب الأدوار إلى قلب الفنان أيمن عب