الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


غفوة -قصة

جمال بوطيب

2007 / 9 / 12
الادب والفن


...صمتت "حكال" كأنها قلب عاشق مخدوع. طقس ثقيل وموحش خيم عليها، فتضاعف صمتها في هذا المساء الهادئ مثل شيخ وقور. كل من أغرته يوما بالبقاء عافها، وغادرها حتى صارت مهجورة إلا من الناموس والأزبال ولعنة الأقدار... تلك هي " حكال" مدينة الآباء والأجداد.
في المدينة كلها لم يكن غير مصباح واحد منيرا، لا أدري أي شيء خارق جعل حجارتنا تخطئه عندما كنا نتسلى بتكسير المصابيح ونحن صغار. وكان المصباح ينطفئ لحظة وينير أخرى كأنه رجل مر ماش يحاول اختراع كذبة خطيرة .
تحت ضوء المصباح افترشت التراب مادمت لا أملك فراشا ولا مأوى. أسندت ظهري إلى عمود المصباح .مددت ساقي اليسرى وجعلت اليمنى تستريح عليها، ولا أدري لماذا تذكرت بالضبط أستاذ الفلسفة بوزرته البيضاء كبائع حلويات متجول وهو يشرح ويعيد أن أصل العالم تراب عند بعضهم وعند اخرين هو الماء أو الهواء أو...وقتها كنت أحس بجوع شديد وحين لاحظ الأستاذ شرودي، سألني:
-ماذا قلنا عن أصل العالم ؟
وبلغة بليد لاتخيفه عواقب إجابته، قلت:
قلنا ان أصل العالم هو.... الخبز.
بعدها مباشرة فصلت عن الدراسة بميزة "حمار" ومنحة لمتابعة الدروس في شوارع " حكال" مدينة الأسى والحزن.
اعتدلت في جلستي بسبب حصاة لعينة دبرتني ، وأنا أقاوم النوم هذا الملعون المتمسك بي كما تتمسك طفلة بعروستها. وبدأت أغني علني أطرده عني.. لم أعد أرغب فيه مند صار خدعة من خداع عصر الموضة والسيدا والجراد . أغني وأدرك كامل الإدراك أننا في زمان أصبح فيه الغناء مدعاة للرقص لاغير.
لم أكن أتوقع ما حدث. ذهب النور. وانصرف الناموس الذي كان متجمعا حول المصباح .وتحول الناموس إلى جسدي يقرصني وكأنه يعاتبني ، فأشعرني أنني مغن بائس مسكين يحتاج كثيرا من الأشياء ....
والحق أنني كنت محتاجا إلى كل شيء: المال والحب والقوة وأشد ما أنا في خصاصة إليه قيمة ارتفع بها في هذا العالم الذي لا قيمة فيه لأمثالي. وبدت هذه القيمة شيئا موجودا في دروب مدينتي ...تماما كالظلم والفتك والغدر ، فانطلقت باحثا عنها وأنا أدندن.
وصلت إلى أقصى الشارع .فوجئت بعسكري الحراسة يعترضني. هددني بإطلاق النار إن هربت ،ولكنني لم أهرب. لم يكن في الأمر شجاعة ولا بطولة، بقدر ما كان فيه هوان وضعف . اقترب مني ، وطلب بطاقتي المفقودة. لم أكثرت لسؤاله وشرعت أتأمل بذلته الأنيقة، وقبعته التي لم ادر من أي شيء كان يحتمي بها في ذالك الليل.
- بطاقتك ..
قالها هذه المرة بصوت فيه نغمة وقوة وفعل.
لم أفكر قط في حمل بطاقة. الفقر و المرض والدنس البؤس اجتمعت كلها متفننة في رسم سماتها على وجهي الشاحب كجسد ينتظر الموت. فلماذا أحمل بطاقة؟؟ هجست لنفسي، سألني العسكري من أكون. قال وسبابته تهتز كمنقار دجاجة تلتقط الحب.
ـ أطاسيون لابوليتيك آه.... البوليتيكات لا تنفع معي أه.... قل يا وجه...آه...؟
تمنيت (لا حول لي ولا قوة غير التمني) لو كنت سالما معافى لوجأت العسكري بشدة وأسلمت ساقي للريح ضاحكا مسرورا .
تمنيت لو كنت سالما معافى فيلكمني لكمة تسوغ لي الهرب فأمطره بشتائم لم تدخل بعد قاموس اللغة. "إن مشكلتي هي لوها ته".
رددت في داخلي بحرقة وألم. ويبدو أن العسكري أدرك مرماي فشدني من قميصي بيده حتى كاد يخنقني. وصفعني صفعة رددتها جدران الشارع العريض، شارع " حكال " مدينتي المهجورة إلا من الناموس والأزبال ولعنة الأقدار.
- زد.
قالها وهو يركلني في بطني، ويطبع على جبيني بصقة تكلمت بلغة من يملك الأمر والنهي. وزدت امتثالا لأمره.. وآليت على نفسي أن تكون تلك الساعة آخر ساعة لي في هذا الشارع العريض، شارع مدينتي المهجورة إلا من الناموس والأزبال ولعنة الأقدار و... وبطش العسكري.
- "لن أعيش في هذه المدينة"، هذا ما قررته، سأرحل إلى "عنفر" مدينة الأشقياء، قد أجد هناك من يعطيني قيمتي، صحيح أننا سنكون جميعنا أشقياء. ولكن ربما تكون لي امتيازات مادمت أشقى منهم. سأصير رئيس الأشقياء:
أبو الشقاء شقي بن شقي... تصور يا أنا يا حضرة المحترم: أبا الشقاء.
" عنفر" مدينة يشدني إليها حنين غريب منذ قرأت عنها في كتاب مهترىء لمؤلف عظيم مات كما عاش شقيا بسبب كتابه هذا. كان الكتاب مكون من صفحتين كتب على احداهما بمداد أحمر وبخط رديء ‘‘مدينة الأشقياء ‘‘ وكتب على الأخرى بمداد لا لون له، ‘‘ما أسخف الحياة‘‘.
كانت الأيام تتوالى والشهور تتآكل وكنت لا أزال ماضيا مرتحلا أجوب الشوارع وأقطع المسافات، أمشي بدون توقف في النهار كأنني ألاحق زمنا هاربا، وأقضي الليل متكئا على شجرة أو مستلقيا على رصيف.. و" عنفر" شيء مستحيل. ووسوس لي شيطان بأنها غير موجودة على سطح الكرة الأرضية إطلاقا، وأشار علي بالرجوع، لكنني كنت قد ضللت طريق العودة. وفجأة صممت على الرجوع مع علمي بما ينتظرني من الويلات " لو" رجعت. إلا أنني فضلت الويلات والموت – ولو غريبا- في مدينتي، على الموت غريبا في بلاد غريبة، وسيطرت على ذهني فكرة بأن الرجل من يفعل عندما يصمم، ومن يقف ولو على عكازين، فليس بعيدا ان يتحول العكازان إلى رمح ودرع.. " ليس بعيدا"، قلت لنفسي. فهمست لي نفسي : "ولكن ليس قريبا"..
وتصورت " عنفر" جنة لا يصلها إلا تقي مخلص.
وتصورت " حكال" جنة لا يغادرها إلا شيطان رجيم.
وتصورتني تقيا رجيما وشيطانا مخلصا تائها بين الاثنتين.
وسمعت صوتا بداخلي يقول لي:" أصلك أولا يا شقي.جاء في ديوان المعاني:(من علامات العاقل حنينه إلى أوطانه وبره بإخوانه ومداراته لأهل زمانه). فلويت عائدا إلى "حكال" مدينة الصمت القسوة والطاعة بعد أن جعلت دماغي بوصلة لمعرفة موقع "حكال" مدينتي.
كان النسيم رطبا كوجنة امرأة خجولة.
وكان الفجر لوحة جميلة يهب نفسه لحبيب "حكال" وعاشق "عنفر".
وكان صاحبي يهزني بكل قواه ليوقظني من نومة لذيذة .فتحت عيني في كسل. مالبثت أن فتحهما وكأنني قائم منذ زمن وأنا أسمعه يقول:
- قم...قم نهرب قبل أن يصل مراقب القطار.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة والدة الفنان كريم عبد العزيز وتشييع الجنازة الخميس


.. مغني الراب الأمريكي ماكليمور يساند غزة بأغنية -قاعة هند-




.. مونيا بن فغول: لماذا تراجعت الممثلة الجزائرية عن دفاعها عن ت


.. عاجل.. وفاة والدة الفنان كريم عبد العزيز وتشييع الجنازة غداً




.. سكرين شوت | إنتاج العربية| الذكاء الاصطناعي يهدد التراث المو