الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
النصف الآخر (4-5)
هشام بن الشاوي
2007 / 9 / 4الادب والفن
4
وتأكد حدسه ...
قفز الدرجتين الأخيرتين من السلم الخشبي ، وعند الدهليز وهو ينعطف مغادرا بئر السلم ، اصطدم ب"كبالا " وهو يتمطى ..
كانت تزأر بصوتها الحاد وهي تمسك عبدالرحيم من تلابيبه ، امرأة في عنفوان الشباب .. كثيرا ما كانت تسرقه من ذاته وهي في طريقها إلى روض الأطفال ، ممسكة بيدي صغيريها ... كانت تشبه آخر حبيباته حد الوجع الذي لازال يتمطى في أعماقه !
حاولت أن تنطح عبدالرحيم برأسها ، تدخل "بعية" بقامته القصيرة بينهما ، فبدا مثل طفل وسط الأذرع المتشابكة ،و بنبرة هادئة رد عليها عبدالرحيم :
- لا أريد أن أؤذيك يا امرأة.
- لن أتركك حتى يأتي زوجي ..
سألهما الرفاق عن سبب الخلاف ،وهما يحاولون فض الاشتباك ..
- إنه دائما (يقل أدبه) كلما رآني ، ومن عند تلك الأشواك ، وهو ... رغم أني قلت له : لا أصلح لك ، أنا امرأة متزوجة . وبالأمس أيضا تعرض إلى طريقي، وأنا عند البقال .
انقضت على آجرة حمراء ،سارعوا إلى اختطافها من يدها .. غمزله "التباري" بعينه أن يغتنم الفرصة ، يغير ثيابه وينصرف من الباب الخلفي للفيلا ...
هم يعرفون أن عبدالرحيم يذهب لقضاء حاجته عند تلك الأشواك الرابضة عند الطريق الزراعية المهملة ..
- لا لن أذهب من هنا ،وسأقول أنك نشلت حافظة نقودي وأجهضتني .. لن أرحل من هنا حتى يأتي زوجي .
أقسم عبدالرحيم أنه لم يغازلها ، فطن إسماعيل إلى أن يتعامل معها بلين.. وقف إلى جانبها حيث جلست على حجر في انتظار وصول زوجها :
- ماذا ستربحين لو حضر زوجك وارتكب جريمة ، وأنت أم لصغيرين في أمس الحاجة إلى أبيهما ، وهذا الجنين الذي سيولد وأبوه في السجن ؟
بدأ صدرها يعلو ويهبط مع كل شهيق وزفير، وامتدت يدها تكفكف دموعا لم تنتظر أن تنسكب ...
تشتتوا ، بقيت مرابضة عند صخرتها أمام الورش ، يمموا وجوههم شطر دكان بقال الحي ، و الجارات من شبابيكهن يتابعن مايحدث .. تندروا بحركات "كبالا" وهو يحاول فك أذرعهما المتشابكة ، ويداه تلامسان صدرها الثر بحركات تبدو غير مقصودة .. سأل أحدهم الجار الملتحي عما حدث ، رد عليه بنبرة ازدراء :
- إنهم البناؤون ... !!
أحس بعبارته خنجرا مسموما يخترق فؤاده ، كأن مهنتهم تهمة مرادفة لكل ماهو سيء وقبيح ، تمنى - في قرارة نفسه - أن يحطم رأسه : " أيها السكير النتن تتحدث عنا كما لو كنا حشرات ، وأنت الحقير الذي يشرب الجعة خلسة في الزوايا الخلفية للحي ، أكثر من مرة رأيتك تشرب غير بعيد عن بيتك وفي الشارع . تتلفت حواليك مثل لص ، تدس رأسك تحت سترتك ، وترفع العلبة المعدنية من الجيب الداخلي إلى فمك .. من يراك -عن بعد - يظنك تأمل الشمس برومانسية قل نظيرها عند إداري سام مثلك ".
ابتلع مرارته ، و غاص في أعماقه متجاهلا كل ماحوله ...غير مبال بالزوج الهائج كالثور وهو يسأل عمن تجرأ على زوجته جارا دراجته النارية المتهالكة...
وطاف بمخيلته ماحدث في الحافلة في أحد الآحاد الكئيبية ..
كان منعزلا عما حوله ، مترفعا عن كل شيء .. وعلى الكراسي الخلفية للحافلة المهترئة تناثر مراهقون ، كان أحدهم يلتقط صورا ومقاطع فيديو بالهاتف المحمول للحسان الكواعب ، لمحته إحداهن ، فهمست في أذن الواقفة إلى جوارها ، فانقضت عليه كصقر ، ورمت الجهاز من النافذة المشرعة ، وعيناها جمر يلتهب .. أطل برأسه ، لمح هاتفه المحمول متفتتا تحت عجلات سيارة عابرة ، ندت عنها صرخة قوية ، عندماهوت كفه بقوة على خدها .. اختلط الحابل بالنابل ، طالب رفاقه وبعض الركاب السائق بإيقاف الحافلة .. و من خلفهم انطلقت أبواق السيارت كالسعار، احتجاجا على عرقلة حركة المرور .
لم ينتبه إلى صعود رجال الشرطة ، وهو يتصفح هاتفه المحمول .. انتشله منه أحدهم بحركة رشيقة ، وهو يطالبه بأوراق هويته ..
- لا أظن أن شخصا كئيبا وبائسا مثلي ، قادر على شراء هاتف من نوع (فودافون) ، يا سيدي ، أنا لا أبتسم حتى في وجه المرأة التي أنجبتني : أمي ، فكيف أنظر إلى مثل هذه ... ؟
تصفح الشرطي مليا بطاقته .. سأله عن مهنته ، رد عليه بلهجة جافة :
- (حوفار).
لم يفهم الشرطي الكلمة ، فبسط يديه الخشنتين أمام ناظريه .. أقبل أحد رجال الشرطة مصغيا إلى حوارهما الهادئ ..
- يمكنك أن تتهمني أني معهم بمجرد أني جالس بقربهم .. ذاك حقك ، لكن تأمل بنيتهم الجسمانية القوية ، تسريحة شعورهم الغريبة ، و..و... أنت تهينني بهذه الطريقة والله !
تأمل الضابط الشاب بطاقته ، قرأ بتمعن اسمه ، أعاد طرح السؤال .. ليتأكد من اسمه العائلي ، وأشار إلى زميله بإيماءة من رأسه أن ينسحب في صمت ..
- لم أعرفك ..
- أنا زوج (ح)...
- أخت زوجة عمك ..
بصق على الأرض لاعنا كل نساء الأرض ، لمح الجارة وهو يصعد درجات السلم الخارجي المؤدي إلى الطابق الأول من الفيلا .. رنا إلى الجارة المولعة باستعراض ثيابها الداخلية في حديقتها الخلفية ، وهي تصعد الدرج مادة يدها إلى سروالها الضيق ، تشده لتبرز فتنتها الخلفية الطاغية ، وتوجع في صمت .. غير قادر على أن يبوح لأحد رفاقه بما يكابد في حضرة هذه الأربعينية التي حيرته ، التهم مفاتنها بعينيه في صمت نهم .. وهتف لنفسه " :ربما زوجه العجوز ...." !!
حين تفتح شباكها على الساعة التاسعة صباحا ، تبقى متسمرة خلفه تنظر إليها بعيون مراهقة عرفت الحب لأول مرة .. فصار يترصد إطلالاتها الصباحية متشاغلا بأي شيء ، بعيدا عن أعين الرفاق .. فالدحاجة (لا تبيض) وسط جماعة ، بتعبيرهم . ويتشاجر مع العزاب منهم حين يضبط أحدهم يتلصص عليها .. مرددا في سره : " هذه غنيمتي ، ولن أسمح لأحد أن يمسها " . يتصرف كالأطفال مخفيا مايشبه الغيرة : "أيمكن أن أكون قد أغرمت بها ، وأنا أتابعها خلال أسابيع تلميحاتها الأنثوية الشهوانية ؟" .
- أيعقل أن تنظر إلى واحد مثلك ؟ تأمل أسمال الشحاذين التي ترتديها .. !
- النساء لا يهمهن المنظروإنما .....!!
جن جنونه ،فصاح :
- إن نكحتها فانكحني معها أيضا .. !!
وعض على أصابعه ..
رآها تنظف حديقتهعا الخلفية مع الخادمة ، كانت ترفع فستانها إلى مافوق خصرها ، ويلوح سروالها الأسود الضيق خانقا عجيزة تواقة إلى الانطلاق ، وحين تلمح الخادمة قادمة تسدل الستارة على فتنتها الآسرة .
تكرر المشهد أكثر من مرة ، وكانت تعرف أنه يراقبها في صمت .
واندهش عندما علم من" بعية" الجالس ليلا أمام بوابة الورش ، فجاءته متذرعة بكرة صغيرتها التي رمتها في حديقة الورش ، واغتمنت الفرصة لتتجول بين رحاب البيت الموعود، فسألته إن كان يبيت وحده ...
فصرخ في وجهه ضاغطا على مخارج الحروف :
- غبي ، لا تفهم أي شيء .
- لقد كان معها طفلها .. وسألتني عنك وقالت : إنها لا تحبك . وأنك سيء للغاية .
- أعرف أن لا أحد يطيقني .. لكن تلك السيدة تكرهني لشيء واحد فقط ، لأنني لم ألمح لها .. هل تحب أن أحكي لك كل شيء ولا تخبر أحدا ؟
- صدقت ، كل من رآها ، قال : أنها تريد من ..... !!
- جميل . بدأت تفهم .. لكن احذر أن ترتكب أية حماقة .. هذه متزوجة ، وسيصدقونها ،ولن يتكلم عنها أحد بسوء ، لكن سيحتقرونك قائلين : (عطا الله الزْبل ) !!
في المقهى ، مساء ..
وهو مع الأصدقاء الصغار ، وقف إلى جوارهم المعاشي بشاربه الذي بدأت بعض الشعيرات البيضاء تغازله ، الكراسي مشغولة ، وهو مسترخي .. أشارإليه " المعاشي" أن يرى شيئا مرميا بالقرب منهما ، قام مسرعا ناحيته ، وارتمى المعاشي فوق مقعده ، فطن إلى لعبته ، حاول سحب الكرسي من تحته ، لكن دون جدوى ولعلعت ضحكاتهم ، وعلق باسما :
- هذه المرة خدعتني ، مرة أخرى لن أثق فيك ،(وجذب كرسيا آخر) ، أعرف أن كل ما يشغلك هو مكاني .. لا أحد يستحق أن تحتل مقعده سواي . (وبسخرية لا ذعة) هذه الجلسة تذكرك بجلسة "الكرمة " (شجرة التين ) .
احتقن وجهه ، ولعلعت ضحكات الأصدقاء ..
- شتان بينك وبين جلسة الكرمة ، يجب أن تشرب البيرة أولا حتى تصير عندك هذه .. مثل خالك ( ربت على بطنه ،وتابع حديثة بزهو) منذ عشر سنوات لم أشرب الخمر ، كنا نسهر حتى الساعة الرابعة صباحا ...
بدا شبه غائب عن الوجود ، وهو يتحسر على زمن ولى إلى غير رجعة ، وقد انعكس أثر الذكرى على تعابير وجهه ،واستانف حديثة بعد لحظات سهو ...
- هل نلتقي غدا في سيدي بوزيد .. لدي بعض الأشغال هناك يجب أن أتممها ؟
- تقصد عند الحاج أبو باااااااااار(صاحب الفندق ) .
أحس المعاشي أنه يستخف به حين نعت هذه الشجيرة ب:(الكرمة) ، وشرد ذهنه للحظات ، ووجد نفسه صغيرا ، تائها في قيظ القيلولات بين أشجار الأوكالبتوس الفارعة ، وهديل اليمام يبث في النفس أسى غامضا ، كأنه نواح أسطوري ، وتحت أشعة شمس لا هبة ، يطاردون أعشاش العصافير واليمام ،و الحجارة الصغيرة والتراب يحرقان أقدامهم الحافية ،وبحنين يتأمل كل ماتقع عليه عيناه : الشوك ، النباتات الطفيلية ، الصبار والحواجز الحجرية (السْطاير) ، يحذرهم الأهالي من الخروج ساعة القيلولة ، يغافلونهم حتى يخلدوا إلى النوم ، فيلتقي كل صبيان الدوار في أماكن معينة ودون سابق موعد عند البئر أو في البيدر أو في (الجْنانات) بين أشجار التين الهرمة برائحتها المميزة و أشجارالأوكالبتوس .
تبادل و المعاشي نظرة ذات معنى ، حين لمحوا جارهم المتقاعد قادما في اتجاه المقهى ، الذي يغلف نفسه بهالة من الوقار لامعنى له ، ويزعجه فشله في اختراق عزلته رغم أنه أحيانا يلقي عليه التحية بصوت لا يسمع ، فقط يحرك شفتيه ويرفع بيده تحية،و أحيانا لا يلقيها على أحد ، يمر من أمامهم متجاهلا الكبار والصغار.. أدرك أنه يريد الكرسي من الجار المجاور دكانه للمقهى ، سارع إلى إحضاره ، حتى يدخن سيجارة بعيدا عن أعين زوجته ويغادرهم في صمت التماثيل عائدا إلى مصبنته ..
ابتدره باسما :
- والحاج إمتى غادي تدير لينا الزردة ، زردة الصباغة ديال الطوموبيل ؟...
تضايق نوعا ما من تطفله رغم طيف ابتسامة باهتة ، ارتبك ، تلعثم ، ابتلع الحروف وامتقع وجهه المتغضن .. وبنبرة طفولية مستنجدة وجه حديثة إلى الجار:
- الحاج .. شوف .. هذا مالو ..
وحكى للمعاشي هامسا في أذنه عن سأل قبل أيام عن سائل كيماوي يستخدم في الصباغة ..
أخفى ضحكه والكلمة ترفض أن تستقيم على لسانه وبنبرته البدوية جدا ..
- الحاج ، والحاج .. عندك السولو..
- اعتق ، وحلات ليه ...
قالها في سره، كاتما كل ضحك الدنيا ..
- عندك السيلو .. لو .. لوزيك .
أحس باهتزاز هاتفه المحمول ، أدرك أنها رسالة قصيرة (sms) ، بدا له الرقم غير مألوف سارع إلى قراءتها : " سأكون في الجديدة هذا المساء ، أنا محتاج جدا إلى من يقاسمني همي ، هذا رقمي الجديد .عماد " .
انتابه قلق . منذ سنوات لم يقابله ، حاول أن يسترجع شريط الذكريات ، غارقا في صمته ، لمح المعاشي إلى هدوئه متهكما :
- (الله لا يطيح حبك على حجرة) !
- لا . إنه مجرد صديق من زملاء الدراسة ، يود مقابلتي ، منذ ثلاث سنوات لم ألتقه ، انقطعت عني أخباره،بعد أن غادر وأمه المدينة بعد وفاة أبيه ...
وقبل أن يسترسل في حديثه ، خفق قلبه وهو يسمع ذلك الرنين الذي يعرف من خلاله أنها المتصل .. غالب شهقة ، انتحب ركنا قصيا ، مخفضا صوته - اتقاء سخريتهم - وهو يتكلم بلهجة مصرية مع " قطته الشامية " .. قام المعاشي ، غادر طاولته ، لمحه وهو يقرب يده من الهاتف ، كأنما يخشى أن يسمع غيرهما كلامه ، وبصوت كالهمس هتف : " أهلين حبيبي . وحشتيييييييييني مووووووووووووووت " .
علق المعاشي متهكما :
- عنداكي تثيقي بيه يا بنت الناس . راه غير كذاااااااااب .
وقلد الحاج سيلولوزيك قائلا :
- سير . سير الله يعيط شي مصيبة !!
وانفجرا ضحكا ...
5
- لا أصدق حياتي أنك من تتصلي بي ، بصراحة ، لم أتعود أن تتلفن إلي أية امرأة .
- لست أية امرأة .. !
- بالتأكيد ، يا شمس حياتي وأميرة أحلامي .
- لدي خبر سار جدا ..
- ماهو ؟..
- منذ زمن أفكر في زيارة المغرب . كثيرا ما كنت أتوقف أثناء تجوالي بين القنوات الفضائية عند القناة المغربية ، وأتخيلني إلى جانبك .. نتجول بين أزقة الأسواق الشعبية ، و بأحد المطاعم تدعوني إلى شرب (الحْريرة) !!
- أظن أنك ...
- آه ، ستبعث جريدتنا بعض مندوبيها إلى المغرب لتغطية أحد المهرجانات الثقافية .
- أظنني سمعت عنه بالصدفة .
- حياتي ، أتذكرين أول لقاء تعارف .. ؟
تصمت للحظات غارقة في بهجة الذكرى الآسرة .
كتب تعليقا جافا على موضوع لها في منتدى أدبي ، أهداها كل جرائمها اللغوية .. وللتو، كتب إلى صاحبة المنتدى أن تطلب من هذه السورية التوقف عن نشر كتاباتها في ركن الشعر : " أنت امرأة مثلها ، لو كتب لها ذلك ستتهمني باضطهادها ..." .
وانشغل بتفحص ملف أحد الأعضاء ، حدق في صورته الرمزية ، قال في سريرته : " ألم تتعب من تغيير صورك كل ساعة ، أيها التافه ؟ ؟ " . توصل بإشعار بوصول رسالة خاصة من صاحبة المنتدى : " يكفي المنتدى أن معظم الكتاب هجروه ، خفف من حدة ردودك " . فكر في الرد عليها أنه لا يجيد النفاق مثلهم ، حدس أنها ستفقد صوابها ..
على الإطار السفلي الخاص بمشاهدي الموضوع لاح له اسم مديرة المنتدى وال(دون جوان) الفلسطيني وكاتبة الموضوع .
قرأ رد المديرة .. كلمات ترحيب لطيفة وامتنان على الحضور المشرق دوما ،" تلك صاحبة المنتدى تحرص على تواجد الأعضاء ،ويحق لها أن تجاملهم " . قرأ تعليقا ورديا ، فثارت ثائرته ، وبأصابع تعدو كخيول السباق كتب : " ابحث عن ضالتك في أحد مواقع المراهقين .. حرر بلدك بدل أن تضيع وقتك في التعليق على تأوهات العذارى . لا تنس أن تتوقف أن تغيير صورتك كل دقيقة ، هذا منتدى ثقافي محترم وليس ماخورا أيها ال ... ابحث عن إحدى قطط الليل بدل أن تطبل لمن ينصبن الفاعل ويرفعن المفعول به . مع كامل احتقاري !!" .
قفز إلى المشهد الضوئي اسم بحروف حمراء ، فأدرك أن( زوج الهانم ) دخل أيضا ، أو ربما دخلت باسمه ، إذ اختفت الحروف بنية اللون الخاصة بها . بقي اسمه وردي اللون ، الدال عليه كمشرف وسط اسمي عضوين متواجدين في نفس الموضوع ، أعاد تحديث الصفحة ، فوجئ بحذف تعليقه الأخير ولون حروف اسمه صار أسود .. مجرد عضو عادٍ !
أحس بنار تلتهم أحشاءه ، فكتب : " أدع لكم هذا المنتدى المهجور ، هنيئا لك كل نساء العالم يا ابن القحبة . سأحاول أن أكون (جنتلمانا) حين أصبح بمثل خستك . وداعا " .
وفي أقل من لحظات، حجب عنه المنتدى .. لم يعد بإمكانه قراءة أي مادة ، كتب له :" تم حظر حسابك .لا وجود لأمثالك بيننا " .
- كم كانت مؤلمة تلك التجربة حبيبتي . لكن هذا حال العرب ، لا يحبون إلا من ينافقهم .. !!
- تتذكر أني انسحبت من المنتدى بعد إيقاف عضويتك . ذلك الخسيس كان لا يتوقف عن كتابة الرسائل الخاصة عبر المنتدى إلى كل العضوات .. كم كنت أحتقر الأسلوب الذي يتبعه . يكتب للزميلات ردودا رائعة ، ويكاد يبوس أقدامهن على البريد الخاص لكي يضفن إلى قائمة المسنجر . لم يكن باستطاعة أية زميلة أن تعرض نفسها لموقف مشبوه ، فكن ينسحبن في صمت من المنتديات التي يتواجد فيها !!
كنت تدفعني دفعا إلى اكتشافك من خلال كتاباتك الحزينة .
- أنا سكران وبلا خمر . يكفي أن أسمع صوتك حلو النبرات لأنسى كل ما تقدم وما تأخر !!
- أعرف أن كل الرجال لا يفكرون إلا في (السكس )، لهذا لم أكن أقبل من يضيفونني ، فبمجرد أن يكتب لك ِ: (هـــاااااي) ، يطلب منك أن تشغلي (الكام ).. ثمة شيء ما شدني إليك أيها الوغد .
- طيب آنستي ، عمي يبدو قادما . أراك لاحقا .. ربما لن أظهرهذه الليلة على المسنجر... ظروف عائلية . باي .
وأرسل قبلة : " أتمنى ألا تضيع .. بسبب الضغط على الشبكة ! " .
وضع الجهاز في جيبه برفق ، حيا عمه و انتحى به جانبا ملوحا لأصدقاء المقهى بيده : " إلى اللقاء" .
- أين الباطرون ؟
- لا أعرف ، أظنه في تلك القرية التي تنعق فيها الغربان .
- ألن تذهب .. ؟!
- لا ، حتى لو مات كل أفرادها .. حرمت على نفسي أن أطأ ترابها بعد الذي حدث . لست دمية يحركونها كما شاؤوا.
- ذاك عمك الذي مات هذا المساء، أما أنا فلا يعنيني لي أي شيء .. نسيت أن لي أجداد . بالعكس، سأحتفل الليلة بهذه المناسبة السعيدة.. لن أبيت في البيت ،لن يسألني أحد ، كما لو كنت مراهقة ، أين تأخرت.
- مع "بعية" و"كبالا " .. طيب ،هات مفاتيح دراجتك النارية .
- بشرط ..
- تعرف أن هذا ال( ...) أخاك ... صار يتعمد الضغط علي ماديا حتى أرضخ ، لا يرمي لى بفتات جيبه إلا حينما يشاء ،ومن دون شك ، سيتباهى بكرمه الليلة ،وأنا أفهم لعبتهم الحقيرة .. سبق وقلت لك: أني لن أتزوجها حتى لو عانقت الأرض السماء . تعرف أني ...
ناوله المفاتيح ، والتقط بأنامله ورقية مالية وردية .
عند بوابة الورشة غسقا ..
بعد انصراف العمال ، يتجادل "بعية" و"كبالا" بصوت خافت . هذا الأخير جر دراجته الهوائية المتهالكة ،ولاح ل"بعية" سرواله الممزق من تحت وفضلات البهائم تحت حذائه ، خاطبه بلهجة جافة : "لا أعرف ماذا ينتظرك في تلك القرية الغبراء؟ لم تتعود أن تتخلف عن سهرات السبت . دعك مع البهائم ..!! " .
- أنا حر ، لا أريد أن أسهر معكم .. كرهت القحاب والخمر . أريد أن أتوب .
- لا أصدقك .. هناك شيء ما ،ولا بد أن أعرفه .. هيا . انطلق قبل أن يحل الظلام وتتوه عن (خيمتكم ).
عكست ملامح "بعية" بعض الحزن المترنح في الأعماق ،وغمغم : " لن يكون للسهرة مذاق من دون حماقات هذا الدب !!" .
أحكم "بعية" إغلاق باب الورشة ، و يمم وجهه شطرمخدع الهاتف العمومي .
سابحا في بحر ذكرياته مع حبيبته الإلكترونية ، وهو يقرأ رسائلها القصيرة المسجلة على هاتفه المحمول .. يستحضرلقاءات المسنجرالأولى في المساءات الرتيبة ،أثناء وقت صار شبه مقدس أن يلتقيا فيه ، حتى أحسا ببعض الألفة والانجذاب الخفي ..
لخص لها تعاسته في إحساسه المرير بالوحدة والشجن ، عرف منها أنها تزوجت أحد أقاربها ، الذي فرض عليها من طرف أسرتها ،وأنها خلعته ولا زالت عذراء :" لا شعوريا ، ستكره كل الرجال الذين لا يفكرون إلا في الجنس ، وتبحث عمن يبادلها حبا عذريا " .
ووجد نفسه مدفوعا إلى مجاراتها ..
وقف أمامه عماد ، لم يصدق ما يرى .. نحيلا أكثر مما ينبغي ، وقد لطخ الحزن صفحة وجهه ، فبدا أكبر من سنه ، كأن كل هموم العالم جثمت فوق صدره .. تبادلا عناقا حارا و السؤال عن الأحوال ، ارتشفا فنجاني قهوة وغادرا .. أشار إليه أن يذهبا إلى الورش القريب منهما .
- أعرف أنه لم يسبق لك أن زرت ورش بناء ، لكن توجد حجرة جاهزة بما يلزم .. دافئة ، منعزلة عن العالم ..
دفع البوابة الحديدية المواربة ،أعاد إغلاقها بنفس الطريقة التي توهم المار من أمام الورش أن لا أحد في الداخل " : سيتوافد الرفاق تباعا ".
رأى "بعية" ممددا فوق السريرالمهلهل ، إلى جانبه امرأة ثلاثيينة خمرية الوجه ، مترهلة الجسد وهي تعد طعام العشاء على ضوء شمعة ، و غير بعيد عنهما .. ألواح خشبية تستخدم في النجارة المسلحة شكلت على هيئة مائدة ، مغطاة بثوب رخيص تناثرت فوقها كؤوس الشاي ، رفع "المعاشي" أحدها ، سأل " بعية" عن رقم كأس "كبالا " ضاحكا ، واستطرد :" الله يحفظنا من كأس "قبقب" !!".
- اطمئن ، قمنا بوضع علامة خفية عليه بالكُلاب من تحت ، هشمنا جزءا من قاعه .
رمي "كبالا" الدراجة في إهمال على حائط البيت الطيني الذي بدأ
ملاطه يتقشر ..
وتحت جنح الظلام التقى عمه " التباري " واقفا أمام بيته ، يرمي بعض أعواد الذرة اليابسة على الأرض بين بقرتيه العجفاوين .. مداعبا ظهر إحداهما ، فيما الأتان تمد رأسها في حركات متسارعة مطالبة بنصيبها من التبن ، مصدرة صوتا لن يقاومه ، ويحفظه بحكم عشرته القديمة لحيواناته .. يعرف من خلال الصوت إن كانت جائعة أو عطشى أو مرهقة ... ثم سأل ابن أخيه " كبالا" ، الذي ركل بقدمه الكلب وهو يتمسح فيه حين رفع السلة البالية من المقود ..
- أراك اليوم لم تبت مع (الدْراري).. ؟
فطن "كبالا" إلى ما يلمح ، فغير الحديث :
- لم أجد أمي في الدار . أليست عندكم ؟
قالها وهو ينقل نظراته بين أركان بيت عمه باحثا عن شيء ما ، لا يعرفه سواه ..
- لا ، لقد ذهبت مع زهرة للعزاء .
امتقع وجهه ،كأن سطلا من الماء البارد رش فوقه على حين غرة . لا ذ بالصمت ، وسأله العم ..
- سأغير ثيابي ، وأذهب . ألن ترافقني ؟..
- لا.لا.لا. هم لم يعزوني في أبي ...
لم يكن يعني "كبالا" موت الجد في شيء .. لا تهمه الوشائج الرابطة بين أفراد الدوارين ، راح يبحث عما يأكل ليبدد توتره الطاغي مثقلا بما يصطخب بين جوانحه ، غير قادر على البوح - لأحد- بما يجول في خاطره ، ثم ارتمى على سريره في الظلمة متحسرا على ضياع السهرتين .. وضع شريطا شعبيا للستاتي في المسجلة ، أشعل سيجارة شقراء رخيصة ، راح يدخنها في تلذذ ..
في عمق الليل البهيم ، تفرق الرفاق ، كعادته تسلل إلى اصطبل عمه الملاصق لبيتهم من الخلف .. سمع خشخشة أوراق ،وخطوات تقترب .. انغماسه في لذة اللحظة جعله ينشغل عن معرفة من يخرج من بيته بعد منتصف الليل .. ضبطته زوجة عمه التباري محتضنا الأتان من الخلف وجسده يهتز .. كانت لاتزال تشد سروالها وتبانها من تحت ثوبها المرفوع مافوق الركبتين ، تراجع إلى الخلف ولازال ... شهقت ، غير قادرة على رفع عينيها :
- عرفت الآن لم لا تحبل كل أتان (نكسبها ) ؟
- أرجوك ، لا تخبري عمي ..
- بشرط ..
لم يكن باستطاعتها أن تقول له أن عمه يأبى أن يلتصق بها من الخلف ، ليطفئ نيران تلك الشهوة الشيطانية التي اندلعت في بيدر جسدها ، وهي تتمرغ فوق شوك الفراش . تردد في سريرتها : "ليس ذنبي أن أحدهم التصق بي من الخلف في زحام الحافلة المتوجهة إلى السوق الأسبوعي .." . أدرك النداء الخفي للجسد الأربعيني المحروم وهي تستند بيديها على الحائط في تلك الظلمة ، دافعة بعجيزتها المترجرجة نحوه .. دس شيئه بين فلقتيها مطوقا خصرها بذراعيه بقوة ،وأنفاسه تحرق وجهها .. تدفق رضابه فوق رقبتها ، تقززت ، فنهرته ألا يقبلها ...
شد نفسا عميقا من سيجارته ، ارتسمت على شفتيه ابتسامة حين مرطيفها بذاكرته متأوهة ، تترجاه أن يترفق بها : " يومين وأنا أمشي كالإوزة ، ونساء القرية يمازحنني :لم تمشين كصبي بعد ختانه ؟ ؟
وأحس بكراهية شديدة اتجاه خال أمه وهو يسرق منه بهجة السبت المشتهاة . قال لنفسه وهو يزفر ":ألم يختر أن يموت إلا يوم السبت ؟؟ حتى عمي "التباري" صار يربط أتانه العجوز في الخارج ولا رغبة لي فيها " .
غادرا الشرفة العلوية حيث جلسا بعيدا عن "بعية" و"المعاشي" و مزاحهم الثقيل مع العاهرات الثلاث .. بعد أن أدرك بفراسته رغبة عماد في البوح له بأشياء تضايقه .. بعيدا عن غرباء لا يعرفهم ، تواعدا على أن يلتقيا صباحا في الورش ، ثم يزوران زميلهما في الدراسة عبدالرحيم في حجرته .. طفا الحزن على ملامحه متأثرا بما روى له عماد ، وقال لنفسه : "تبا لأم لا تفكر إلا في أسفلها ! " . خيل إليه أنه سمع هدير دراجة نارية، لا ح له "كبالا " يحرث بقدميه الشارع محاولا إيقاف دراجة نارية بلا مكابح ، وهو يصيح ": ما كاينش لفران ، حايد من الطريق !! " .
شد الدراجة النارية نحوه محاولا إيقافها، وصاح :
- وصل كبالا !!
للتو ..
انطلق أصوات من الداخل ، تهتف بصوت واحد مثل مشجعي كرة القدم :
- (وووي .. وووي.. كبالا ووووي ووووي).
(يتبع )
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. المخرج رشيد مشهراوي من مهرجان وهران بالجزائر: ما يحدث في غزة
.. هاني خليفة من مهرجان وهران : سعيد باستقبال أهل الجزائر لفيلم
.. مهرجان وهران يحتفى بمرور عام يوما على طوفان الأقصى ويعرض أفل
.. زغاريد فلسطينية وهتافات قبل عرض أفلام -من المسافة صفر- في مه
.. فيلم -البقاء على قيد الحياة في 7 أكتوبر: سنرقص مرة أخرى-