الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الوقوف خلف النفس

صبحي حديدي

2003 / 10 / 15
الادب والفن


حين ترتقي المعايير التي تعتمدها الأكاديمية السويدية في اختيار الفائز بجائزة نوبل للآداب، فإنّ لغة الحيثيات التي تهدف إلى تقريظ الفائز ترتقي بدورها، سواء في محاجّاتها النقدية أو في صياغتها اللغوية الصرفة. خذوا، في مثال أوّل، ما تقوله الأكاديمية في مديح الروائي الجنوب ـ أفريقي ج. م. كويتزي، حامل الجائزة لهذا العام: "مثل ذلك الرجل في لوحة ماغريت الشهيرة، الذي يتفحص عنقه في المرآة، فإنّ شخصيات كويتزي تنتصب خلف نفسها في اللحظات الحاسمة، لابثة بلا حراك، عاجزة عن المشاركة في ما تقوم به هي نفسها من أفعال. غير أنّ السلبية ليست ذلك السديم القاتم الذي يبتلع الشخصية فحسب، بل هي أيضاً الملاذ الأخير المفتوح أمام الكائنات البشرية وهي تتحدّى نظاماً قمعياً عن طريق الحيلولة دون إخضاع نفوسها لما يبيّته ذلك النظام. وفي استكشاف الضعف والهزيمة ينجح كويتزي في التقاط الومضة المقدّسة داخل الإنسان".
وخذوا، في المثال الثاني النظير، ما قالته الأكاديمية ذاتها حين منحت الجائزة للهنغاري إيمري كيرتيش، السنة الفائتة: "يستكشف إمكانية استمرار العيش والتفكير كفرد في حقبة يزداد فيها اكتمال خضوع البشر لقوى اجتماعية"؛ وكتاباته: "تعود بشكل مطّرد إلى الحدث الحاسم في حياته: الفترة التي قضاها في أوشفيتز، إلى حيث اقتيد وهو فتى يافع خلال الإضطهاد النازي ليهود هنغاريا"؛ وأخيراً: "أوشفيتز بالنسبة إليه ليست واقعة اسثنائية توجد، مثل كائن غريب، خارج التاريخ الطبيعي لأوروبا الغربية. إنها الحقيقة القصوى للإنحطاط الإنساني في الوجود الحديث".
الأرجح أنّ الاعتبار الأخير هو الذي يختصر جوهر السبب في منح الجائزة إلى كيرتيش، كما يفسّر ذلك الحماس المشبوب الذي أتاح لأعضاء الأكاديمية السويدية أن يتحدثوا عن "عشوائية التاريخ البربرية"، دون كبير تبصّر في محاذير هذا الحكم الفظّ والعدائي ذي النبرة الإطلاقية الجلية. ذلك لأننا، في واقع الأمر، لا نعثر في أيّ من أعمال كيرتيش على أنساق أو مستويات أو أشكال من "عشوائية التاريخ البربرية"، أكثر ممّا نعثر عليها في مئات، وربما آلاف، الأعمال التي تناولت الأنظمة الشمولية (سواء أكانت شيوعية في أوروبا الشرقية، أم نازية وفاشية، أم دكتاتورية عسكرية هنا وهناك في العالم).
وهكذا، حين تمنح الأكاديمية نوبل الآداب لأسباب تتغلّب فيها الإعتبارات السياسية أو الأخلاقية أو الفكرية علي اعتبارات الفنّ، فإنّ لغة الحيثيات تميل إلى ما يشبه التأتأة والغمغمة والبحث عن الذرائع كيفما اتفق. وحين يحدث العكس، أي حين تكون معايير الفنّ هي السيّدة، فإنّ البيان الصحافي الذي يصدره عجائز الأكاديمية يأخذ صفة النصّ النقدي الرفيع، الذي لا يثبّت الأحكام المطلقة ويحشد الإجابات بقدر ما يطرح الأسئلة ويفتح فضاء التأمّل. وإذا كانت الأكاديمية قد أعلنت، بصراحة غير معهودة، أنّ قرارها كان سهلاً للغاية هذه المرّة، فالأرجح أنّ صياغة الحيثيات لم تكن بالسهولة ذاتها، تماماً كحال الأدب الذي حاولت توصيفه وامتداحه.
ذلك لأنّ أدب كويتزي ليس من النوع الذي يخضع للتصنيفات السهلة، فكيف بتلك المسبقة الجاهزة، سواء في موضوعاته وأشكاله وخصائصه الفنية، أو من حيث موقعه في الأدب الجنوب ـ أفريقي من جهة ثانية، وكتلة الآداب الواسعة المتنوعة التي تتصدّى لموضوعة التمييز العنصري (الأبارتيد) من جهة ثالثة. وبصدد هذا السياق الأخير تحديداً، ينبغي محاذرة الوقوع في ذلك الاستسهال الذي شاع بعيد إعلان فوز كويتزي، والذي يقول إنّ أدبه لا يتناول موضوعة الأبارتيد مباشرة، أو لا يتناولها بالطرائق التي تتوفر في روايات نادين غورديمر مثلاً، الأمر الذي ينطوي على الغمز من قناة غورديمر أو الطعن في الأدب الذي تصدّي للتمييز العنصري.
صحيح تماماً أنّ روايات كويتزي، والمبكرة الأولى منها بصفة خاصة، تذهب أبعد في انشغالها بظاهرة الأبارتيد، وتتوغل أعمق في سيرورة الاستعمار بصفة أعمّ، ولا تقتصر على الإطارات التاريخية الخاصة بجنوب أفريقيا وحدها بل تغاير الأزمنة والأمكنة على نحو أكثر حرّية وأعرض نطاقاً. غير أنّ من الصحيح بالقدر ذاته أنّ أعمال كويتزي جزء لا يتجزأ من الأدب المناهض للأبارتيد، ذلك الأدب الواسع المتشعب الذي يبدأ من رواية ألان باتون العظيمة "تأخرتَ كثيراً يا طائر الشطآن"، 1953، وصولاً إلى كتابات برايتن برايتنباخ وأندريه برينك ونادين غورديمر وموتوزيلي ماتشوبا ومونغانا سيروتي ومريام تلالي، وسواهم.
وكويتزي، رغم أنه يرفض بشدّة الزعم بتمثيل الصوت الحقيقي لأهل البلاد الأصليين، لا يكفّ عن جعل القارىء واعياً تماماً لحقيقة إسكات إبن البلد الأصلي، هو ونسله من بعده، بفعل مختلف السياسات التمييزية التي مارسها المستعمرون البيض. واستناداً إلى استراتيجيات سردية كهذه ينجح كويتزي في إنطاق شخوصه، ويجعلها حيّة فاعلة في التاريخ، هي التي تبدو صامتة لابثة خلف نفوسها!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج عادل عوض يكشف كواليس زفاف ابنته جميلة عوض: اتفاجئت بع


.. غوغل تضيف اللغة الأمازيغية لخدمة الترجمة




.. تفاصيل ومواعيد حفلات مهرجان العلمين .. منير وكايروكي وعمر خي


.. «محمد أنور» من عرض فيلم «جوازة توكسيك»: سعيد بالتجربة جدًا




.. فـرنـسـا: لـمـاذا تـغـيـب ثـقـافـة الائتلاف؟ • فرانس 24 / FR