الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثمالة الكأس : قصة قصيرة

عبدالحسين الساعدي

2007 / 9 / 8
الادب والفن


منذ إن ترك مدينته القديمة مكرهاً, والتي تعلق بها وعشقها حد الجنون , لم يدر بخلده يوماً انه سيتعلق و بمثل هذه السرعة والضعف بمدينة أخرى , بعد أن خبر حقيقة و قسوة و جحود كل المدن , و كيف أنها تدير ظهرها و تتخلى عن متعليقها و عشاقها غير آبهة بما سيحل بهم من لوعات و عذابات لا ترمم .
تتداعى الصور في مخيلته , فيتذكر كيف كان ينسل داخل الغابة كالطفل الهارب إلى حضن أمه كلما أحس بالجوع أو الخوف , أو عندما يصيبه التوتر الشديد , يحس بالأمان و هو يدخل غابة مدينته القديمة , لا ينكر أن سعادته كانت تكتمل عندما يستلقي مسترخياً واضعاً خده على أخدود الوادي الممتد من شمال المدينة و حتى جنوبها , و الواقع بين الهضبتين اللتين طالما حلم أن يبني بيته فوقهما , كانتا كأطلال مدينة سومرية شامخة تتحدى الزمن , من هناك كان يستغرق في النظر و يرقب بريق الضوء المنبعث من عيون الماء كأنها شلالات من حبات الكريستال أو اللؤلؤ المتناثر فوق السفح المنبسط بدعة , تحكيان قصة الزمن اللا متناهي , كان يسبح في العين التي تتوسط المدينة , و يبلل جسده بماء الحياة المقدس المتدفق من تلك العين , حاساً بالعشب الندي يدغدغ خده , فتسري به رعشة تشده أكثر فأكثر نحو ذلك الينبوع الأزلي .
لم تحفظ ذاكرته خارطة مدينة مثل مدينته القديمة ، لقد خبر كل طرقاتها ,و لعب و عبث بصبيانية غير طبيعية فوقها ,و كان عند التلال المنحوتة بأزميل نحات ملكوتي ماهر كأنها قباب الأندلس , يتسلق أشجار "السبندار " العالية الفارعة الطول , و كأنها سيقان راقصة الباليه , يتلذذ أيما لذة و هو يتحسس نعومتها , لقد حباها الله بجمال ساحر خلاب آسر قلما سمع أو قرأ أو شاهد من مثلها .
لم يلحظ منها أي تذمر و شكوى , بل كانت تشاكسه لتشاطره فرحة الطفولي , وديعة دافئة المواسم , تفوح في أجواءها رائحة عبقة زاكية طالما ملا رئته من شذاها المشبع برائحة العنبر , ذاق عسيلتها و ذاقت عسيلته .
لكن و بدون سابق إنذار وجد نفسه خارج المدينة كشخص غير مرغوب به بالمرة , قيل له انك هجرتها و لم تشاركها إحزانها و فرحها و لم تستطيع أن تدفع الذين يحاولون النيل منها كما انشغلت بالترحال بحثا عن هم غيرها لم تكن همك الأوحد , و بالرغم من دفاعه المستميت و تبريراته الصادقة و تمسكه بمواطنته , و بحقه المكفول كونه مزارع فوق أرضها , و مغروسا ته قد تشفع له بالبقاء , لكنها لم تجدي نفعا , فذهبت كل توسلاته ودفوعاته في مهب الريح , و على حين غرة أصبح المطرود الأول و الأخير من فوق أرضها , و تحول إلى متسكع دون وطن بعد أن كان مواطن من الدرجة الأولى بل كان سيد المدينة و غطريفها, و مثل فرس جموح كان يصول و يجول كيفما يشاء في هذه المدينة التي طالما اعتبرها فردوسه الدنيوي و الأخروي .
حاول عبثاً أن يجد رابطا ولو بشكل بسيط يربطه بالمدينة الجديدة التي حط الرحال بها مرغما , و التي سكنها قريبا و هو يعتقد جازماً أنها لا تستطيع أن تعوضه عن خسارته الجسيمة فلا يرى فيها تلك الغابة و لا العيون و الشلالات و لا حتى الطرق و الممرات التي يسلكها مرغما بين الفينة و الأخرى , عله يجد فيها تعويضا بائسا و يرمم شرخ المرآة التي بداخله , و مما عزز إحساسه هذا انه منذ مجيئه و لحد الآن لم يعرف مواسمها أو يحفظ أسماء شوارعها و مداخلها , و لم ترتسم لها أي صورة راسخة في ذهنه و ذاكرته المتعبة المجروحة , و خلال كل تلك الفترة المنصرمة كان يجلس في داخله مقعى حزين كمن خسر الدنيا .
- يا للهول هل التاريخ يعيد نفسه و دورة الحياة تعود بيَّ إلى الوراء قالها في داخله
فبدون أي مقدمات ينهار عناده و تجلده و لم يسبق أن شوهد بمثل هذه الإرادة الضعيفة و التي لا تخلو من جراءة منفلتة لا توازي وقاره ووضعه , حاول للوهلة الأولى أن يكبح جماحها لكن دون جدوى أصبح كالطفل الذي يتعلق بلعبة جميلة يحاول أن يتملكها و بأي ثمن كان غير عابئ بما سيترتب على جموحه هذا .
أدرك انه في عالم سرمدي أخر و هو يقف على مشارف مدينة جديدة أخرى و التي وصلها للتو مصادفة اخذ يغذي السير نحوها دون وعي و شعور بما يفعل , أحس بقوة خفية تشده إليها , في بادئ الأمر انتابه شعور غريب لم يراوده منذ فترة طويلة , شعور يشبه إلى حد ما شعوره و هو يفتح عينيه على مدينته القديمة, كاد يكون قاب قوسين أو أدنى من أجواء تشبه إلى حد بعيد أجواء و عوالم مدينته التي لفظته قسرا , لا بل هي عوالم أبهى و أجمل , فالغابة في هذه المدينة كالليل الأمجد الشامخ و هضابها كعروش شبعاد تغفو فوقها تنهدات عذرية تأسر لب القلب تنهدات تحكي عن عطش و شبق لا يرتوي , و بريق الضوء الصافي كصفاء عين الديك تقرا فيها قصص شهرزاد و هي تحكي قصص الحب و المدن الحالمة التي لم تخذل ساكنيها , و تلالها أبدع ما تكون و كأن نحاتها وضع سره فيها .
يجزم أن المدينة لم يسلك طرقاتها و شوارعها و ممراتها احد من قبل , و عيون الماء فيها رقراقة كشلالات ضوء يدلك على مدينة صامدة قوية عصية لا تمنح حبها للدخلاء بسهولة كفرس حرناء لا تمكن أي فارس أن يعتليها .
بالرغم من قلقه و بؤسه و نضوح كأسه بعد ترحال عبثي بحثاً عن مدن أمنه وديعة هادئة .
قرر أن يحزم أمتعته و يعد أوراقه ليسكن و لو بظلال غاباتها ,ليعيد توازنه , و يسبح برضابها النازل كالمطر من السماء فيغتسل من أدران زمنه المر.
لم يأبه في تمنعها فهي لا تريد أن تفرح أو تحزن لأي احد يريد الدخول إليها , هي تريد أن تكون بمنأى عن العذابات و أن كانت فيها شيئا من اللذة .لا تريد أن تمر بأي خسارة و ألم , و غير مستعدة لتحمل أي حزن , و لا تريد التنازل عن جبروتها و غرورها لأي أحد , لها تبريراتها الكثيرة التي جعلتها وسائل دفاعاتها التي ستصبح في يوم ما اضعف ما تكون عليه , حيث يأتي الطوفان فيغرق المدينة بأكملها .
كان يود إن تدعوه لكنها ظلت تحتفظ بقوتها و جبروتها الصيد و شيئا من قسوتها و غرورها , أحب هذه القسوة وهذا الغرور , و اخذ يتلذذ بهما لتتداعى بمخيلته صور طالما أحبها و غط في وسن هو أشبه بالنوم , و أخذ يحلم .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مهرجان كان السينمائي: -أكفان كروننبرغ- على البساط الأحمر


.. فنان أمريكي يُصدر أغنية بصوته من جديد بعد أن فقد صوته بسبب س




.. -الكل يحب تودا- فيلم لنبيل عيوش يعالج معاناة الشيخات في المغ


.. حصريا.. مراسل #صباح_العربية مع السعفة الذهبية قبل أن تقدم لل




.. الممثل والمخرج الأمريكي كيفن كوستنر يعرض فيلمه -الأفق: ملحمة