الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اليسار ومشروع النهضة في الوطن العربي

سلامة كيلة

2003 / 10 / 17
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية



اعتقد بأن اليسار (وأقصد الماركسيين هنا) كان قد التقط "مسائل النهضة" منذ عشرينات القرن الماضي، أي منذ بدء تشكله، حيث اعتبر أنه وريث عصر النهضة العربي، الذي كان قد بدأ منذ أواسط القرن التاسع عشر، بعدما كان يتوضح مذاك بأن عصر النهضة ذاك يعيش أزمة عميقة، ويفتقد مشروعه السياسي العملي، والطبقات التي تحمل أهدافه. ولقد غدا اليسار مذاك هو المجد في صياغة مفاهيم النهضة، وفي تشكيلها تكوين نظري متماسك، مما كان يوحي بأنه يعيد تأسيس مفاهيم النهضة في المستوى الفكري كما في المستوى السياسي العملي، وأنه ـ كذلك ـ يسعى لتحقيقها واقعياً. ربما تجلى ذلك واضحاً في وثيقة صدرت سنة 1934 عن مؤتمر المثقفين العرب المنعقد في زحلة، والتي حملت عنواناً لافتاً: "في سبيل الوحدة العربية". والوثيقة تكثف مفاهيم النهضة العربية، لكنها ـ كذلك ـ تحولها إلى مشروع سياسي. (أي إلى مشروع  تحقيق النهضة العربية). ليبدو اليسار هنا، أنه الحريص على الربط بين الوحدة العربية والديمقراطية والعلمانية، وتحرر المرأة ، والتصنيع والتحديث و… أولاً الاستقلال. ولا شك في أن أسماء مثل رئيف خوري وسليم خياطة، وعمر فاخوري، لا يمكن إلا أن توضع في إطار فكر النهضة،  وإلا أن تكون من أعلام النهضة.
لكن سيبدو هذا التحديد وكأنه يلمس السنوات الأولى من بدء تشكل اليسار، خصوصاً السنوات منذ العشرينات من القرن الماضي إلى ما يقارب نهاية الثلاثينات منه، وهي سنوات مخاض تشكل اليسار، وفي المشرق العربي خصوصاً. حيث أن التقييم العام لموقف اليسار من قضايا النهضة العربية، يختلف كثيراً عما أشرت إليه، وربما لا يمت إليه بصلة، حيث تسيدت تصورات مختلفة، وربما مناقضة لكل منظومة عصر النهضة العربي، أو تسيدت أحياناً مفاهيم بعض تيارات عصر النهضة، خصوصاً تلك المنطلقة من ميل ليبرالي يؤسس لـ "قومية قطرية". وبالتالي بدا وكأن اليسار يعاكس حركة النهضة العربية، وأعتقد بان في ذلك قدر من الصحة، وسيبدو عبر التحليل بأن أزمة اليسار كمنت هنا.
أولاً لا شك في أن بدء تشكل اليسار كان هو ذاته مسار استيعاب عصر النهضة، وإعادة إنتاج تصوراته معاً لكن "انقلاباً" حصل، قطع هذا المسار، وأفضى إلى التشكل في "قالب" آخر، تحقق منذ نهاية الثلاثينات (1937)، وجعل الماركسيين غير معنيين بمسألة النهضة العربية، لا من حيث المفاهيم ولا من حيث المشروع السياسي. حيث هيمن الميل المحلوي (القطري)، وتقزم الفكر إلى "مبرر" لتكتيك سياسي.
لكن المشكلة كمنت في أن هذا "الانقلاب" قد تحقق في لحظة انكشاف عجز البرجوازية  عن تحقيق النهضة العربية. فلا شك في أن ميل الماركسيين الأوائل لحمل مشروع النهضة العربية، تأسس انطلاقاً من لمسهم عجز الحركة السياسية التي كانت تطالب بالاستقلال وتحاول تحقيق النهضة. لكن نهاية الثلاثينات كانت قد أوضحت العجز أكثر. حيث تشابكت معظم فئات البرجوازية والرأسمال العالمي (والاستعماري)، وأخذت تتكيف و"التكوين الاستعماري:، مما كان يشير إلى تخليها عن تحقيق المشروع النهضوي، أو أي مستوى من مستوياته. لقد كان التطور الرأسمالي في مأزق آنئذ، كما كانت الحركة السياسية هزيلة كذلك. وإذا كان الاستعمار قد انحسر بعد الحرب الثانية (وبالتالي تحقق الاستقلال)، فإن أزمة تحقيق الانتقال إلى "النمط الصناعي" كانت تتوضح بشكل أدق، وبالتالي كان مشروع النهضة في مأزق صعب. واعتقد بأن محاولات  اليسار في ثلاثينات القرن الماضي، كانت تهدف إلى تجاوز هذا المأزق الصعب عبر تقديم "بديل طبقي" يعمل على تحقيق أهداف النهضة ذاتها، أهداف التصنيع والتحديث، الوحدة والديمقراطية والعلمانية… الخ".
ولا شك في أن القول بـ "الانقلاب" التصور نبع من أن خياراً أُحل محل خيار آخر، ولكن أيضاً، أن هذا الخيار حوّل من دور الماركسيين بما جعلهم "قوة ملحقة" وليست "قوة فاعلة" حيث سيبدو هذا "الانقلاب" كألتحاق بطبقة فقدت مبرر وجودها. ففي لحظة انكشاف عجز البرجوازية تأسس هذا الخيار على دعم برجوازية غدت مهزومة وفعلة، في المستوى السياسي عبر المساومة مع الاستعمار لتحقيق "الاستقلال منقوص"، وفي إطار لا يخرج عن السياسة الاستعمارية عموماً. وفي المستوى الاقتصادي عبر التخلي عن مشروع تحقيق التطور الرأسمالي بمعناه الصناعي (بمعنى بناء الصناعة لتكون وسيلة الإنتاج الأساسية). أو بتوضح عدم إمكانية تحقيق التصنيع في ظل السيطرة الاستعمارية واقتصاد السوق. هذا الدعم للبرجوازية نبع من تصور "مبتسر" للماركسية، حيث انطلاقاً منها تأسس التصور حول طبيعة التطور كونه مهمة برجوازي ديمقراطي. تحقق البرجوازية ، والبرجوازية تحديداً، ولتتحدد مهمة اليسار في "دعم" و"مساندة" هذه البرجوازية لكي تحقق تطورها البرجوازي الديمقراطي من جهة، و"الدفاع" عن القضايا المطلبية للعمال. وبهذا فقد فصلت بين السياسي والاقتصادي، لتصبح السياسة من مهمات البرجوازية كونها تسعى لتحقيق تطورها وليصبح الاقتصادي فقط من مهمات اليسار، حيث "الدفاع" عن قضايا مطلبية هنا أو هناك.
لذلك أصبح اليسار غير معنى بمشروع النهضة من الأساس. حيث قاد فصل السياسي عن الاقتصادي لأن يتمسك بالقضايا الاقتصادية المطلبية، ولكن أيضاً، لأن ينقاد لمشروع البرجوازية السياسي الذي قام على أنقاض مشروع النهضة، عبر تحقيق "الاستقلال" في إطار نظري، ودون السعي لتحقيق التطور البرجوازي الحقيقي (أي التصنيع)، بمعنى أن "الاستقلال تحقق في إطار تكيف البرجوازية والسيطرة الاستعمارية ذاتها. وفي هذا الوضع بدا اليسار وكأنه لا يحمل مشروع تقدم، لهذا جرى القطع مع قضايا الوحدة والعلمانية والتحرر، (وأمام مأزق الواقع كانت توضع في إطار ملتبس). لقد غاب الفكر وانتهى التنوير، وتقزم المشروع السياسي (المبلور في الثلاثينات) إلى مشروع مطلبي متكيف مع مشروع البرجوازية القطري (والمؤسس للدولة القطرية).
وأشير هنا إلى أن هذا "الانقلاب" هو الذي فتح الأفق لنشوء الحركة القومية العربية بعد الحرب العالمية الثانية، ولأن تدشن "عصر الثورة"، الذي بدا كـ "شبح" لمشروع النهضة العربية، وأسس لـ "عصر الردة" بامتياز رغم كل التطور الذي حققه.
أقصد هنا أنه إذا كانت البرجوازية عاجزة عن تحقيق النهضة العربية، فقد كان التحاق اليسار بها يدخله دوامة العجز، ويلغي دوره التغييري، مما فتح الأفق لدور الفئات الوسطى التي عجزت بدورها عن تحقيق أي من أهداف النهضة، رغم أنها أزالت البنية الإقطاعية القديمة، وحاولت تحقيق التصنيع، وربما الآن بدأ اليسار يدرك أهمية مشروع النهضة، وإعادة إنتاج عصر النهضة. وما دامت خيارات البرجوازية فشلت، وكذلك خيارات الفئات الوسطى، يطرح السؤال حول دور اليسار لتكون محاولات إعادة إنتاج عصر النهضة جزءاً عضوياً من فِعل تغييري يهدف إلى تحقيق النهضة العربية، المجهضة مرتين.
* * * * * * * * * *

 








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. انقسام آراء الفرنسيين من أصول مغاربية بين اليمين واليسار | ا


.. زعيم حزب العمال كير ستارمر يصبح رئيس وزراء بريطانيا الجديد |




.. بريطانيا.. حزب العمال ينتزع فوزاً تاريخياً في البرلمان | #را


.. سوناك يصل إلى قصر باكنغهام لتقديم استقالته بعد فوز ساحق لحزب




.. هزيمة ساحقة للمحافظين وتوجه لليسار.. ما الذي حدث في بريطانيا