الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تلك المدينة..(الفيصلية*) -1-

جاسم العايف

2007 / 9 / 10
الادب والفن


الى والدي رحمه الله
المكان الذي ((كلما نبتعد عنه نظل دائماً نستعيده ونسقط على الكثير من مظاهر الحياة المادية، ذلك الاحساس بالحماية والامن اللذين يوفرهما لنا))
غالب هلسا
تبعنا أبي/ كالخراف/ في عصر يوم شتوي خمسيني،أمي وأنا وأختي وأخي الصغير،مشيا ًمن مكان معمل الـ(ببسي كولا الاهلي) ،الذي لم يكن له وجود في تلك الأيام ، وقد اجهزت عليه قوات التحالف، في ما سمي بـ(حرب تحرير الكويت) ، كمأوى او جزء من أسلحة الدمار الشامل التي في حوزة النظام!!..وتطايرات شظايا قنانيه ومعداته لتصيب من اخطأته حمم الـ(الكروز) والـ(توما هوك) القادمة من ساحلي البحر الابيض و الاحمر و مياه الخليج العربي كذلك.
أبي يمسك فأسه وأمي تحمل على رأسها(طاسة) البناء المملوءة بالجص المخلوط بالبورك، تجرجر قدميين صغيرتيين حافيتين، منهوكة ، منتفخة البطن، في شهرها الاخير، وأنا أنوء بحمل المسحاة وأخي الصغير، النحيل، قتيل عام1987بفعل قذيفة حرب قادمة من ضفاف نهر عراقي،علمت خلال ذلك العام فقط ان اسمي يشابه اسمه،خال من الماء يقع في أقصى بقعة من جنوب شرق ارض الرافدين . اخي مسك خيط البناء ، وأختي حملت الأوتاد الخشبية التي صنعها أبي بيديه..سرنا، فريقا مهزوما صامتا مقهورا خائفا ، من غضب أبي الدائم وسخطه الذي يعوض به جفاء ايامه، ومرارة زمنه ، باتجاه الغرب نستكشف ما يفترض مدينة خيالية بالنسبة لنا، ولم نر فيها غير بضعة بيوت بُنيت بالطابوق تقاولت على بنائها شركة(تاجريان) خصصت للدرجات الدنيا في سلم موظفي المملكة العراقية آنذاك..أما نحنُ سلالة سكان الصرائف و بيوت الطين،السومرية، فعليهم أن يرحلوا خلال أسبوع أو أقل من أرض لا نعلم لمن تؤول ملكيتها،استحوذنا عليها مؤقتا ، بحكم الحاجة لمسكن لا يقينا حرا او بردا، صرائف قصب نصبناها مقابل مقر "شركة نفط البصرة" لعلنا نشم رائحة بترولها ، الذي يفيض على العالم البعيد عنا، ولم يصلنا منه غير القهر والعذاب والتسلط والبربرية والضنى وديمومة الحاجة والفقر..:
"آه..لهذا البترول
الذي اطفأ دجلة"
الشاعر الراحل مصطفى عبدالله
سرنا وثمة مَنْ كان امامنا وخلفنا.. نحو المدينة الجديدة ،مدينة الآمال البسيطة والأحلام المتواضعة،تدغدغنا بشارة الـ(طابو الأبيض) الذي وُعدنا بتحوله مع الأيام والسنوات الى الـ(طابو الأسود) وعبره سنتحول الى(ملاّك) ستسجل اسماء ابائنا لأول مرة في سجلات البلدية بعد كانت مسجلة، موثقة بشهادة المختارين ، في دوائر التجانيد الاجبارية فقط.. لم نجد، بعد وصولنا،غير ارض (سبخة) تحولنا فيها الى عرصات و شواخص أرقام وكنا (العرصة رقم 74) في (الفيصلية):
- مَنْ اطلق على تلك(السبخة) و جزرها الملحية المتناثرة، هذا الاسم الملكي؟.
بسمله أبي اولا وحمد وشكر ثانيا، ثم نهرنا بصوت عال لنكف عن المزاح، وبدأ يدق الأوتاد ويمد الخيط ويوشحه بـ(الجص والبورك) باستقامة الرصاصة التي يعرف كيف يطلقها على الهدف وهو البنّاء الذي دعي في الاربعينيات إلى جندية الاحتياط ، في فوج "المقدم الركن عبد الكريم قاسم"، نحو فلسطين..وهناك ربتَ على كتفه قائلاً له بفراسة ،أدهشت الضباط المحيطين به-:
- أأنت بَنّاء!؟.
اطرق أبي ثم همهم بحياء: نعم سيدي. رد عليه:
- هذا واضح من قدرتك على إصابة الهدف في التدريب!!؟. وأمر له بمكافأة قيمتها نصف دينار من ماله الخاص.
بعد ان ثبت أبي الأوتاد ومد الخيط وحدد مساحة العرصة ـ100م2ـ أمرنا بالحفر..وثمة إلى جوارنا مَنْ لا يعرف كيف يفعل ذلك؟..قام أبي بتخطيط (العرصة) العائدة له ولصغاره واغلبهم من البنات وأمرهم كذلك بالحفر..حدث ذلك في /أول لاين/ من "الفيصلية"...الفيصلية التي تناسلت واتسعت بشوارع مستقيمة ترابية.."الفيصلية" التي امتدت شمالا وجنوبا واختلطت فيها الأعراق والأجناس والأديان والطوائف العراقية ولا من يسأل عن ذلك او يؤسس عليه...ثمة../عرب/ أكراد/ تركمان/ فيليون/ بلوش/ هنود/ باكستانيون/ إيرانيون/افغان.. مسلمون/مندائيون/ارمن/ارثذوكس/بروتستانت/ كاثوليك/..يهوديات،مسيحيات، مندائيات ، متزوجات من مسلمين/..جامع (سيد حيدر)..غير بعيد عن حسينية (السهلاني)..وفي كل صباح من يوم الأحد تكنس أمهاتنا الطريق الى (الكنيسة) ويرششنه بالماء كي لا يتطاير الغبار ويلتصق بملابس المسيحيات الأنيقات الجميلات ، الذاهبات للصلاة في (الكنيسة) عصرا، ونصغي الى دقات ناقوس الكنيسة. ونتابع ،بشغف طفولتنا الفقيرة..متطهرين بمياه نهر "الفيصلية" مقلدين مشغوفين بطقوس "مندائي الفيصلة" ، وأذان الجامع وقراءة " الوائلي" ، وجلسات "المحيبس" التي تمتد الى آذان الإمساك في رمضان، و ارتيادنا و عوائلنا السينما الصيفية في اطراف (الفيصلية) . لا ثمة سؤال وتمييز بين الاديان و المذاهب والأعراق..عراقيون..في الطرقات ، المقاهي، ساحات كرة القدم، المدارس، حفلات الزواج، المآتم، الجوامع .. وفي الاسواق التي تختلط فيها (الفيصليات)العراقيات،سافرات او غير سافرات، مؤمنات أو غير مؤمنات، و"شاي العباس" ومعجناته التي تقدمها المسلمات والمسيحيات والمندائيات واليهوديات لكل الـ(الفيصلين)في أزقة و طرقات "الفيصلية"..
-: ايها العراق.. ايها الناس..أين اختفى ذلك كله الآن..؟؟!!.
ـــــــــــــــــــــــــ
(* )محلة شعبية في البصرة كانت محاطة بجزر الملح خصصت لإيواء سكان الصرائف المحيطين بمركز منطقة العشار وأطراف البصرة وللمهاجرين من الأرياف.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. انتظروا حلقة خاصة من #ON_Set عن فيلم عصابة الماكس ولقاءات حص


.. الموسيقار العراقي نصير شمة يتحدث عن تاريخ آلة العود




.. تأثير التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي على آلة العود.. الموسيقا


.. الموسيقار نصير شمة: كل إنسان قادر على أن يدافع عن إنسانيته ب




.. فيلم ولاد رزق 3 يحصد 202 مليون جنيه خلال 3 أسابيع