الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


موسكو – المدينة من طابقين

إبراهيم إستنبولي

2007 / 9 / 13
الادب والفن


يكاترينا سالنيكوفا ( كاتبة روسية )
ترجمة إبراهيم إستنبولي ( سوريا )

إذا ما حاولنا قراءة ساحة بوشكين كنص ، فإن تمثال بوشكين هناك سيبدو علامة ترقيم صامتة .
فكما في كل مدينة ، ثمة في موسكو أماكن تعكس حالة المجتمع و ثقافته و الإنسان فيه . و تعتبر ساحة بوشكين واحداً من مثل هذه الفضاءات الناطقة . الساحة – النص . إنها الساحة - النص الثاني بعد الساحة الحمراء . بمثابة المركز الروحي – الدنيوي غير الرسمي لموسكو .
من حيث المبدأ إن المرء تقوده رجلاه إلى هناك ، إلى الساحة الثانية ، أكثر مما إلى الأولى . لأن الأمر يتعلق بأمور شخصية ، و ليس بمناسبات رسمية أو حكومية . لذلك يصعب على المرء ألاّ يشعر بقرابة داخلية مع ساحة بوشكين . انطلاقاً من هذا الافتراض نجد أن رجال الأعمال و أصحاب شركات الدعاية يلجأون إلى استخدام هذه الساحة بهمة و بحماس منقطع النظير . إذ يقام هناك على مدار السنة تقريباً مهرجان اللوحات الدعائية .
فإذا كان واجباً في السابق البدء بتفسير " نص " ساحة بوشكين اعتباراً من توصيف التمثال بحد ذاته ، فإن هذا الآن يُعتبَر احتراماً للتقاليد و تغاضياً عن العطالة و قوة الاستمرار .
فالساحة اليوم تم تنظيمها بطريقة نابذة . ذلك أن الأضواء الباهرة و الصور الضخمة بحاجة لنظرة بانورامية . عليك أن تقف و أن تدور برأسك أو تدور بالكامل على كعبيك ببطء ، و أن تمتص قطعة إثر قطعة من تلك الأشكال البصرية التي يمكنك قراءتها من مسافة بعيدة .
و ينزلق النظر رغماً عنك بمحاذاة بوشكين ، ملتفاً حول التمثال أو حتى متجاهلاً إياه كما لو أنه شِقٌّ باهت وسط صياغة مبرقشة و كثيفة . و هذا يؤدي إلى خلق أثر سخيف نظراً لأن بوشكين " البرونزي " قد بدا ظلاً بلا حياة . في حين أن الصور الدعائية المسطحة ، و بفضل كونها أقرب للحياة ، تخلق لديك توهّم التحدّب و أنها مادية و ثلاثية الأبعاد . و تكتشف كيف أنها تندفع بعدوانية لكي تملأ فراغ الساحة و الشوارع الرئيسية .
هكذا ، على خلفية بوشكين تم تعليق مختلف لوحات الدعاية الطرقية ...
و هي تنقسم ، بصورة منطقية ، إلى طبقات ، و الأصح إلى طوابق .
الطابق الأرضي
لقد تم التخلي عن الطابق العلوي من ساحة بوشكين لصالح الدعاية الأكثر صخباً و الأكثر حضوراً و جسامة . و لكي تشعر بنفسك على مستواها بالمعنى المباشر و المجازي ، لا يكفي أن تجلس خلف مقود سيارة فاخرة . بل من الأفضل الطيران في وسيلة نقل كتلك التي استخدمها بروس ويليس في " العنصر الخامس " .
الدعاية من نوع ما يسمى بالقياس المديني يحلّق فوق الإسفلت كما لو يستعجل الزمن و التقدم التقني حرفياً . فالطابق العلوي موجود من أجل خدمة مركّب " العملقة " Titanism ، محولاً إياه إلى شهية استهلاكية .
لكن الطابق الأرضي بعيد جداً عن هموم الناس ، و لذلك فإنه ينغلق على ذاته .
و فوق " MacDonald’s " تظهر معلّقةً حروف ضخمة للماركات و الأصناف . و فوق شارع تفورسكي ، الذي يتجه نحو الأسفل ، يظهر معلَّقاً ممر أسود تتدلى منه تسميتان و صورتان .
كتِب على إحدى اللوحتين " أنتَ تقدِّرها لفخامتها . و هي تقدّر لك حياتك " . أما الثانية فتحمل شعار " قهوة منعشة للرغبات " . و هناك وجه نسائي مقابل السيارة . إنهما يغريان و يثيران بعضهما البعض . إنهما - زوج مثالي .
و غالباً ما يحدث أن الصور و الأشكال في لوحات الدعاية تتواصل مع بعضها البعض بغض النظر عن المارة و الراكبين . لذلك فإن الواقف على الإسفلت يشعر بنفسه شاهداً على حياة سكان السماء الدعائيين أكثر بكثير مما هو مستهلك .
و هناك لوحة أخرى على يمين بوشكين تتابع موضوع الرغبات : " البرميل الذهبي مجيب الرغبات " . قارورة ذهبية اللون على خلفية زرقاء تعِد بالرخاء و بالنشوة السحرية و تقدم ضمانات للناس بأنهم سيدخلون عالم البذخ و الرفاهية بطريقة أيسر بكثير مما هو الحال عبر الواجهة الرصينة و الوقورة لماركة Tiffany على الزاوية الأخرى للحائط .
و في عرض آخر نرى كيف إن امرأة الدعاية لصنف من القهوة لا تريد أن تعرف أي شيء عن الشكل القضيبي لقنينة البيرة ، الذي يلمّح إلى أن سلطان القهوة لا يسود على كل شيء . و أما واجهة المحل المخصص لتجارة المجوهرات ماركة أودري هيفبرن الشهير فكما لو أنها تتجاهل فظاظة عبوات البيرة .
فهم سيرفعون القارورة كما علّقوها . بينما الواجهة الزجاجية المتلألئة في عمق جدار حجري سميك فستبقى بمثابة حصن للخلود . و سيرفعون لوحات الدعاية للقهوة أيضاً . لكن القهوة مع ذلك تبقى مقدسة .
و هناك في الجانب الأيسر من تمثال بوشكين " فولفو الجديدة – ترف ثقافي " . يسعى الإعلان لكي لا يتلطخ المصباح الأمامي بالوحل أمام صورة جانبية للشاعر الروسي العظيم .
الجميع يعرف الكلمات " موهبة " ، " شعر " ، " إبداع " . لكن بالنسبة للراغبين بشراء هذا الموديل من السيارات تروق بالتأكيد اكثر كلمة " مثقف Intellect " – المفهوم الأكثر عصرية للوجه الثقافي . لذلك وقع الاختيار من بين جميع النعوت على هذا ... كما لو انحنوا لألكسندر سيرغييفيتش ، لكن حقاً دون أن يخرجوا من السيارة .
إن لوحات الدعاية من صنف City- Format ، و هي تتحد فيما بينها لتصورات ربحية ، تحاول دوماً أن تقيم علاقة جيدة مع بعضها و مع الوسط المحيط . أو أنها تتجه نحو الاستقلالية . و هذا نابع من كونها بعيدة النظر بفضل جبروتها . و لهذا فهي تتميز بتوجهها نحو الخارج المحيط و تتسم بالغطرسة .
و لكن يحصل أن توجد معارضة لها . و في ساحة بوشكين تتشكل هذه المعارضة من اللوحات السوفييتية التي حافظت على وجودها منذ الحقبة الماضية .
فقد تسربت إلى الطابق الأرضي اختصارات لمخازن . فالمخزن المركزي الكبير ( التسوم باللفظ الروسي أو CUM ) – على الأقل من خلال لوحات - لافتات . و أما الغوم ( المخزن الحكومي الكبير GUM ) – فعلى شكل شارة مقلّدة تحمل صورة للمبنى القائم من العهد الستاليني عند تقاطع شارع تفورسكي مع البولفار . و كذلك " قاعة الممثل " التي تشير إلى مجمع مخازن لبيع الحاجيات النسائية . و الكلمة الثانية في التسمية تحمل ذكرى عن بيت الممثل غير الربحي و غير التجاري ، و الذي كان قائماً أبان المرحلة السوفييتية في نفس ذلك المبنى الستاليني .
لقد احترق بيت الممثل هذا على الفور بعد حلول اقتصاد السوق .
قاع الجسد و الحنين
هنالك حوار حميمي بين الطابق السفلي من ساحة بوشكين و بين القاطنين في موسكو . و توجد مقاربات مختلفة تجاه الشرائح المختلفة من السكان .
فمن تعب من البقاء مسمرّاً خلف مكتبه و يحلم برحلة إلى مكان ما ، فقد تم الإعلان لهم عن موتيفات غير مألوفة و ذات صبغة وطنية محددة : مقهى " الهرم " مع عناصر مصرية في الحروف ، و في الجهة المقابلة " مقصف روسي صغير " مع مدخل مزخرف يذكّرنا بالقصر في الحكاية الشعبية .
و أما مخزن " أرمينيا " فقد تمت كتابة اسمه بحروف أرمنية . و هناك " مطعم فينيسيا " الذي يدعو للدخول إلى الحوش ، حيث يمكن أن يتراءى للزائر ما هو بهي و رائعkolorit )- ) إيطالي عند توفر خيال خصب جداً .
و بالنسبة لمن يميل للتندر و السخرية من تبعات و نفقات ثقافة البوب ، فهناك فنجان رائع يحتوي الكابوتشينو على الحائط الدعائي لمقهى McCafe . و الفنجان مع الكابوتشينو يتطلع نحو لوحة كتب عليها " مواد تجميل حديثة - صناعة يدوية " . لذلك و أنت تعب هواء الربيع بعمق فإنك تشعر كيف إن طعم القهوة مشوب بروائح العطور ، و كيف إن الجِل المخصص للاستحمام يسكب الرغوة المنعشة ...
و أما بالنسبة لمن يحب الأطفال أو يشعر بنفسه صغيراً و ضعيفاً ، فهناك لوحة دعاية لشركة ضمان تستعير الدعاية الاجتماعية . " مدِّ يدك للأصغر في مناطق العبور " .
أطفال يرتدون أزياء عصرية ماركة Beneton ينظرون بمحاذاة صبي و بنية في قمصان عليها صور أبنية تاريخية . " أين هذا الشارع ؟ أين هذا البيت ؟ لنحافظ على الإرث العمراني " – اللوحة معلّقة عند الدخول إلى محطة مترو الأنفاق .
و أخيراً ، إلى جميع الذين يشعرون بحنين للثقافة السوفييتية و للأجواء السابقة لهذه الحقبة هناك لوحات عرض صغيرة . و أكثر الأماكن تحيزاً نحو الماضي هو المربع الصغير الموجود أمام محل وجبات " ماكدونالد " .
فعلى زاوية المبنى توجد لوحتان تذكاريتان متلاصقتين و متزاحمتين . واحدة مكرسة للفنان التشكيلي و الأكاديمي نيكولاي فاسيلييفيتش تومسكي . الثانية ، و معها بعض عناصر الصورة – للوبوف أرلوفا الرائعة . يتطلع المرء و يصاب بالدهشة – كيف نجا كل ذلك ...
و من ثم هنا و هناك توزعت في زوايا و أماكن غير مريحة مكعبات الأكشاك ": " أبناء موسكو " ، " تبغ " ، " تنظيف أحذية " ، " بطاقات سفر " . تتناسب الأكشاك مع مربعات الإشارات الطرقية ، التي تفسر وظيفتُها المباشرة جانبَ التقشفِ في الرسوم و الخطوط . لكنها بطريقة عابرة تحمل روح السذاجة السوفييتية .
و من بين الأشكال الحديثة جداً نجد أن أكثر ما يتناغم مع تلك المربعات هي المربعات الزرقاء اللون لدورات المياه . هذا هو الحِكم الذي كان من نصيب كامل الشريحة أو الطبقة السوفييتية من كل ذلك البريق الهائل . ذلك أن الإشارات السوفييتية في ساحة بوشكين إنما تشكّل القاع المادي – العاطفي .
المكان الوحيد الذي حافظ فيه العرض السوفييتي على موقعه المتقدم و الأعلى بالنسبة للوحات الدعاية المعاصرة ، هو واجهة صالة السينما التي كانت يوماً ما تدعى " روسيا " و لكن في الحقبة ما بعد السوفييتية صارت تسمى صالة " بوشكين " .
إن كلمة " روسيا " المتلازمة مع الكتلة المعمارية قد ارتسمت " حتى الموت " على الحافة العريضة المتجهة نحو السماء . . أما " صالة بوشكين " فتقرأ بصعوبة – لقد تم تخطيطها بأسلوب منمّق و تتوضع منخفضة . و تعتبر السينما النوع الأكثر أهمية بالنسبة لنا من بين جميع أنواع الفنون . لذلك فإن الصنف السوفييتي قد ارتفع بلا منازع و دون إذعان أعلى مما هو ما بعد السوفييتي .
و يحاول عرض جريدة " الإزفستيا " تقليد صالة العرض " روسـيا " . لكنه محصور بين لوحة الدعاية المعلّقة من فوق و المخصصة للبنك التجاري و بين الدعاية البراقة و المصقولة لمجلــة " Yes! " . فلا يبقى ظاهراً من لوحة الدعاية المخصصة لـ " إزفتسيا " أكثر من شريط ضيق غير لافت للانتباه .
و ليجرّبن أحد ما أن يحتجَّ كما لو أن ذلك لا معنى له أو أنه غير معبّر .
فمن ذا الذي سيفكر بهذه الطريقة ؟ بوشكين ؟
و على خلفية لوحات الدعاية ثمة تحول ما يطرأ على بوشكين . فهو لا ينسجم مع أي من الطوابق التي تنقسم إليها الساحة عفوياً . إن بوشكين يبدو منخفضاً جداً بالمقارنة مع اللوحة الضخمة المحلّقة عالياً . و مع ذلك فإن بوشكين الواقف على قاعدة لا يزال بعيداً عن ground floor . هكذا نرى أن الشاعر " يمكث أو يقيم" في مكان ما بين الطوابق .
إنه يقف هناك وحيداً ، دون أن يحاول الاندفاع إلى مكان ما ، و دون أن يتحد مع أي شخص أو شيء كان . إن بوشكين هنا لا يخشى أن يصبح غريباً بالنسبة للواقع . إذ يكفيه أن يظلّ لطيفاً بالنسبة للجماهير . و ثمة فرق كبير بين الناس و بين العالم ، الذي يعيشون فيه . و هذا ما يلفت انتباهنا إليه ببساطة بوشكين من خلال حضوره . إن شخصية شاعر روسيا العظيم ، الذي لا يختلف اثنان بشأن كونه في المرتبة الأولى ، كما لو تؤكد الوجود الحقيقي للقيم الخالدة .
ففي وسط الدعاية التجارية يبدو حضور بوشكين كما لو أنه دعاية اجتماعية . " القيم الخالدة موجودة . إنها في مكان ما بالقرب " .
ترسم الفوانيس و الإضاءات من حول بوشكين إن لم يكن دائرة ، فبالتأكيد مربعاً سحرياً حيث لا يوجد جواز مرور للوحات و اللافتات . إن الفائض في الدعاية في كل مكان لا يقمع سكان المدينة بقدر ما يقمع الدعاية ذاتها . بينما الركن التقليدي للمواعيد الغرامية – يكتنفه إما فراغ مقدّس ، و إما قلق التوحش و الإهمال .
مثل هذا الشعور بالتوحش و بالقفر يسود أحياناً في المعابر التحت أرضية ، التي لم يتم إمدادها بأية أكشاك أو مخازن . فيبدو كما لو أننا لم نعد نقبل المدينة من دون عملية البيع و الشراء المشرعة و الاستعراضية . و من دون الكثرة الزائدة في الواجهات الزجاجية و من دون الفوضى . أما بوشكين فلا فرق له على ماذا نعتاد . كما لو لا يجس فيه أي عطف نحو نقاط الضعف البشري ، عطف طالما تميز به في أشعاره بشكل عام .
إن وضعية الشاعر تحمل في مدلولاتها بعضاً من التركيز و السحر و الدخول في تآمر مع الواقع المحيط . إذ تقرأ في الوضعية نصيحة بالمحافظة على المسافة . فالشاعر لا يفكر و حسب ، بل إنه مستغرق في ذاته بالكامل متجاهلاً الغنى الموجود في الأشكال و الألوان من حوله . لقد أصبح واضحاً الآن أن الشاعر يتفكر بما هو مختلف تماماً عما نفكر نحن جمعياً فيه اليوم .
فيما مضى كان يوجد أمل خفي في الاستغاثات ذات الدلالة تجاه بوشكين . و من ذا الذي سيغلق الباب ؟ بوشكين ؟ و من الذي سوف يعمل ؟ بوشكين ؟ و من سيخرج القمامة ؟ بوشكين ؟..
نعم ، كان يبدو أن بوشكين ، في أسوأ الأحوال ، سوف يتفاعل و سيأخذ على عاتقه جزءاً من مهامنا . أما الآن فإن الجواب على السؤال : " و من الذي سيفكر ؟ " سيبدو بلا عزاء و غير بلاغي . . ذلك أن بوشكين لن يفكر نيابة عنا بكل تأكيد . فقد أعلن رفضه لذلك . يستمر شاعراً ، أما وظائف الجدِّ الأول غير الرسمي للأمة فقد تخلى عنها .
هناك ، في ساحة بوشكين ينتاب المرء بشكل خاص شعور حاد كما لو أنه حتى بوشكين اليوم إنما يهتم لنفسه فقط . و أنه يمكنك تعليق يافطة مع شعار :
" قرن كريه ، قلوب كريهة ! "

ملاحظة :
المادة مأخوذة من النسخة الإلكترونية لصحيفة رجال الأعمال الروس " Vzglyad "








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. «بوحه الصباح» رجع تاني.. «إبراهيم» جزار يبهر الزبائن والمارة


.. مختار نوح يرجح وضع سيد قطب في خانة الأدباء بعيدا عن مساحات ا




.. -فيلم يحاكي الأفلام الأجنبية-.. ناقد فني يتحدث عن أهم ما يمي


.. بميزانية حوالي 12 مليون دولار.. الناقد الفني عمرو صحصاح يتحد




.. ما رأيك في فيلم ولاد رزق 3؟.. الجمهور المصري يجيب