الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الذكرى (33) لرحيل جمال عبد الناصر

نايف حواتمة

2003 / 10 / 19
مواضيع وابحاث سياسية


ثورة 23 يوليو إنجازات عظيمة وأخطاء كبيرة
الواقع العربي أزمات وتراجعات ولا حلول

       نايف حواتمه
      الأميـن العـام
للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين

 ثلاثة وثلاثون عاما مضت وما زالت عقول وقلوب قوى التحرر والتقدم والحداثة مشدودة لرحيل القائد الوطني الكبير جمال عبد الناصر أول حاكم مصري في مصر منذ عهد الفراعنة، مازالت حاضرة في الوجدان الشعبي صورة القادم من صعيد مصر الذي بقي على مصريته العربية النظيفة قلباً ويداً. وبفضل ما امتلك من مواصفات قيادية وفكرية وكاريزمية استطاع سريعاً أن يتقدم صفوف ثورة 23 يوليو/ تموز، دافعاً إياها نحو مسار نهضوي مصري وقومي عربي وحدوي حداثوي معاصر ، رداً على وبديلاً من واقع التخلف والانحطاط والشرذمة العربية في النصف الثاني من القرن العشرين، وبعد فشل مشروع مصر بزعامة محمد علي مطلع القرن التاسع عشر، ووصول مشروع النهضويين العرب مطلع القرن العشرين إلى الطريق المسدود.
 مثلت ثورة 23 تموز / يوليو 1952 وفي سياقها تجربة وقيادة عبد الناصر سلسلة من التحولات الثورية الوطنية والقومية البرجوازية والتقدمية العاصفة ، التي طالت مختلف جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية والطبقية والفكرية والأخلاقية والسياسية والروحية . إنها عمليات ثورية مترابطة الحلقات بفعل تطور عبد الناصر في مجرى الصراع مع الاستعمار و الكولونيالية والأحلاف والتوسعية الصهيونية. وفي الداخل المصري والقومي الصراع مع قوى الانحطاط والتخلف والإقطاعية ، والملكية الاستبدادية والرأسمالية الطفيلية. من هنا يمكننا القول بأن ثورة تموز/ يوليو بقيادة عبد الناصر كانت وبحق واحدة من الثورات الكبرى في التاريخ الحديث لمصر وللأمة العربية والعالم الثالث بكل إنجازاتها العظيمة وأخطائها الكبيرة .
 جاءت ثورة 23 تموز / يوليو في سياق تطورها وما حملته من تحولات عاصفة على كافة الأصعدة الطبقية والاجتماعية والقومية ، نتاج مرحلة تاريخية هي مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية التي شهدت ولادة ميزان قوى جديد بين معسكرين دوليين، والنكبة الكبرى الوطنية والقومية في فلسطين، ونهوض شامل لثورات التحرر الوطني في بلادنا العربية وعى امتداد مساحة دول العالم الثالث في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية ، ورغم المعارك الشرسة التي شنها عليها المعسكر المضاد عبر حروبه العسكرية الشاملة المدمرة ، وبجدول زمني كل خمس سنوات حرباً شاملة، بمحطاتها الأبرز العدوان الثلاثي 1956  الانفصال الرجعي في سوريا  1961، حرب اليمن المضادة لثورتي اليمن الجمهورية وثورة 23 تموز / يوليو من 1962 حتى 1967، حرب حزيران/ يونيو 1967 . ثم حرب الاستنزاف التي فجرها الجيش المصري الباسل فور الاحتلال الإسرائيلي لسيناء والضفة وقطاع غزة والجولان، وأثمرت لاحقاً في تعديل ميزان القوى وهو ما أظهرته نتائج الأيام الأولى من حرب تشرين 1973 . تبقى ثورة تموز/ يوليو بقيادة الراحل الكبير عبد الناصر صاحبة الإنجازات الكبرى، تحرير الفلاحين من الإقطاع ، النهضة الصناعية الكبرى ، الضمانات الاجتماعية، مجانية التعليم في كل مراحله لأول مرة في تاريخ مصر، تأميم قناة السويس، بناء السد العالي، إعادة بناء الهوية الفلسطينية بإقرار القمة العربية في الإسكندرية 1964، تشكيل منظمة التحرير، حرب الاستنزاف بعد هزيمة 1967، المساهمة في تحرير العديد من الأقطار العربية وفي مقدمتها جزائر المليون شهيد ، الدعم الواسع للقضية الفلسطينية الذي كرسها وبحق لسنوات طويلة قضية العرب الأولى .
 يحلو للبعض الآن بعد خمسين  عاماً من ثورة 23 يوليو/ تموز 1952، وثلاث وثلاثين عاماً على رحيل عبد الناصر، الخروج بقراءات جديدة لإنجازات ونتائج الثورة التي امتدت على مساحة ثمانية عشر عاماً وسنوات حكم عبد الناصر التي لم تتجاوز الستة عشر عاماً فقط، قراءة تنطلق من على قاعدة الحملة المضادّة التي تقودها قوى الردة  والماضوية في مصر وبلاد العرب، بعد أن رهنت مستقبل أوطانها وشعوبها بما يريد "السيد" الأمريكي . لذلك نجدهم يبشرون بموت الأيديولوجيات القومية، التقدمية، الحداثوية، لتبقى إيديولوجيات القرون الوسطى وكوارثها على مساحة أكثر من ألف عام حتى يومنا، ويستمر الغرق في ماضي عصور التخلف والانحطاط، وضياع فلسطين وعودة الاستعمار والاحتلال الأجنبي إلى البلدان العربية، ليبقى الزمن العربي خارج الفعل في التاريخ، عاجزاً عن الدفاع عن الأوطان فضلاً عن قهر الشعوب ومصادرة اندفاع الشعوب نحو التقدم والديمقراطية وحقوق المساواة في المواطنة في العصر الجديد الحديث والتقدم إلى العصر الجديد بالثورة الصناعية والمعرفية والإصلاح الديني، وعدالة توزيع الثروة الوطنية. ويُنظّرون للردة والتخلف تحت شعار "المصلحة القطرية" أولاً . ولعل البعض يوغل أكثر من ذلك حين يربط بين قيام الأنظمة الوطنية وتجاربها الثورية القومية وبين الاستبداد ، ويروجون لمقولة أن الفكر القومي العربي بكل ألوانه التقدمي والمحافظ والماضوي ودون تمييز من حيث المبدأ بات يحتاج إلى مراجعة ـ كونه بني على القمع والاستبداد ـ بما يمكن من إصلاح وجهه الإنساني وبعده الثقافي والحضاري .
 في سياق النقد البناء لثورة 23 تموز/ يوليو والتجربة الناصرية لا يمكن أن نقفز عن الأخطاء التي ارتكبت ، ولكن الموضوعية تجعلنا ننظر إليها اخذين بعين الاعتبار تعدد المشكلات وغياب تراث التطور والثقافة الديمقراطية التعددية لأكثر من ألف عام منذ "هزيمة العقل وغلبة النقل" في منتصف القرن الأول من حكم العائلة العباسيّة زمن الخليفة المأمون، والعود الطري للطبقات والتيارات الفكرية والسياسية الحديثة في المجتمع المصري أولاً. ثانياً اتساع جبهة الأعداء داخلياً وخارجيا وإقليميا ودولياً . كل هذا عطل وأعاق الكثير من أجندة الثورة . ودفعها إلى مواقف ومواقع دفاعية اشتقت فيها حلول وقعت أخطاء كبرى أدت إلى غياب الديمقراطية والمساواة في المواطنة وحريات حقوق الإنسان، وأسست لتنامي دور المؤسسة العسكرية والأمنية بما غيب الديمقراطية الحقيقية ولم يبنى مؤسساتها ، وهو ما أوصل لاحقاً قوى الردة في صف ثورة 23 يوليو (الدولة، الجيش، الإدارة، الاتحاد الاشتراكي) إلى مركز صنع القرار. ومثل مقتل الثورة . وبرز الصراع في صف سلطة 23 يوليو، دولة وجيشاً وفي الاتحاد الاشتراكي منذ الأيام الأولى لرحيل عبد الناصر ومجيء السادات ، حصل الانقلاب الكبير في 15 أيار/ مايو 1971 على مبادئ وإنجازات الثورة والفكر التقدمي الحداثوي في مصر وحركة التحرر والتقدم العربية. لكن المجاهرة بكل ما سبق لا ينتقص من مشروعية الثورة التموزية والتجربة الناصرية ولا يبخس من إنجازاتها . فثورة تموز/ يوليو هي صاحبة الفضل الأول في انتزاع الاستقلال الناجز والتحولات الاجتماعية الكبرى وفك التبعية الكولونيالية والسير بطريق التنمية المستقلة. رغم أن الكثير من برامجها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والوحدوية قد أجهضت بسبب من تكالب القوى الداخلية المضادة والقوية في مصر وبلاد العرب، وجبهة الأعداء الاستعمارية والصهيونية الواسعة. إن ثورة 23 يوليو/ تموز بقيادة عبد الناصر ما زالت تستمد مشروعيتها من الأزمة الطاحنة في الحياة المصرية والعربية ونكبة فلسطين، والأفكار التي طرحتها وعملت عليها بدءاً من فكرة النهوض بمصر إلى الوحدة العربية وبناء كيان عربي اتحادي (فيدرالي ) جديد وحديث، متكامل وفاعل، التي ما زالت تحتل وجدان الشعوب العربية من البحر إلى البحر، رغم السياسات الموغلة في قطريتها الانعزالية، على حساب التطور الديمقراطي، والتكامل القومي العربي، وحجم التضليل الإيديولوجي الواسع الذي مارسته قوى التخلف والفكر الانعزالي القبلي . بما تمثله من أداة للتراجعات عن مواجهة التوسعية الصهيونية، والنزول تحت سقف القوى الاستعمارية، أخذت على عاتقها محاصرة كل ما هو تقدمي ووحدوي حداثوي وفي المقدمة من ذلك الارتداد عن إنجازات ثورة يوليو الناصرية، بدلاً من البناء عليها، والتطور إلى أمام.
 في هذا السياق فإن محاولة تعليق كل الممارسات القمعية وغياب الديمقراطية على مشجب القومية العربية، وإغفال سياسة الطبقات الحاكمة محاولة طمس وقائع التحولات العاصفة الكبرى مكشوفة. فمن يتحمل أسباب استمرار التخلف والتراجع الخطير على كل الأصعدة سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً، هو الديكتاتوريات القطرية الانعزالية الحاكمة التي نهبت الثروات وقمعت الحريات تحت شعارات " كل شئ في خدمة المعركة وفق رؤية ومقاس أنظمة الحكم، كل شئ في خدمة الطبقة الحاكمة "، لقد اختصرت الأوطان والمصالح الوطنية بشخوص التيار النافذ في الفئات الحاكمة إلى درجة كاريكاتورية، جعلت من الأوطان مزارع خاصة، وهو ما أوصل هذه السياسات القطرية على مقاس الطبقات الحاكمة إلى الجدار ، ومع هذا بدأ من جديد حراك سياسي ، سيفضي بالتأكيد إلى انتزاع مساحات ديمقراطية وأنويه لمؤسساتها تعيد للشعوب بعض حقوقها خطوة على طريق انتزاعها كاملة. وإذا ما ترك للشعوب حرية الاختيار فإنها ستختار النهضة الوطنية والتكامل العربي والوحدة والحداثة باتجاه عصر الديمقراطية والمساواة في المواطنة، و الثورة المعرفية بعوالم تقدم البشر والإصلاح الديني والتعليمي والثقافي، بديلاً عن الانعزالية وراء جدران القطرية الحاكمة المدمرة، والتي تؤدي إلى تفكيك الأقطار العربية إلى أثنيات وطوائف متصارعة، وتمهيد الطريق لعودة الاستعمار والهيمنة الأجنبية، واندفاع التوسعية الصهيونية في الأرض الفلسطينية المحتلة والأرض العربية المجاورة.
 لست من المؤمنين بنظرية المؤامرة في تفسير كل ما يدور حولنا لكنني في التجربة الناصرية على وجه الخصوص لا يمكنني إلا أن اقر بأن قوى الردة اليمينية والماضوية تآمرت من مواقع مصالحها الطبقية الأنانية، وتمكنت من استغلال أخطاء عبد الناصر وخاصة غياب الديمقراطية والتعددية الحزبية والنقابية والفكرية، وكل هذا ندفع جميعاً تداعياته وانهياراته وأخطرها تمزيق التضامن العربي والتوسع الصهيوني وحروب الخليج الثلاث واحتلال العراق، وتوقف حركة التقدم إلى أمام، ومنعت أعقاب هزيمة حزيران التطويرات البرنامجية الجديدة بأعمدتها : إطلاق الحريات، والمساواة في المواطنة بدون تمييز في العرق والجنس والدين والمذهب، بدون تمييز بين الرجل والمرأة، صيانة حقوق الإنسان، التعددية الحزبية، التسليم بنظرية التداول السلمي للسلطة، الأخذ بمبدأ التمثيل النسبي المنتخب في الهيئات التشريعية والتنفيذية المنتخبة، وفي النقابات والتحالفات الطبقية، بمعنى الأخذ ببرنامج دولة المؤسسات الديمقراطية والقانون، دولة المجتمع المدني على أنقاض دولة مراكز القوى والمخابرات البيروقراطية المتبرجزة. من هنا يمكن أن نفهم السقوط المريع للتجارب التي حاولت محاكاة التجربة الناصرية كونها ابتدأت من حيث الانقلاب على التجربة الناصرية دون استخلاص الدروس أو العبر. لذلك نجد اليوم أنفسنا وقد فجعتنا نكبات ونكسات ، سببها الرئيس غياب الديمقراطية وتغييب دور الشعوب بالقمع المنظم، ونتائج كل هذا نراه جلياً اليوم في العجز العربي حيال ما يجري في فلسطين والعراق . وباقي الدول العربية الأخرى التي أصبحت كيانات منقوصة السيادة بطابعها الغالب .
 اليوم في ظل الظروف المستجدة البالغة الصعوبة والخطورة فإن استخلاص دروس ثورة يوليو/ تموز والتجربة الناصرية على قدر كبير من الأهمية فالخطر تجاوز تحديات رسم طريق للتنمية المستقلة، ومواجهة الفقر مادياً وثقافياً ، وتجاوز واقع التخلف والتبعية الكولونيالية، وعودة الاستعمار، ومشاريع التوسعية الصهيونية. فنحن اليوم أمام مخاطر عودة أشكال الاحتلال المباشر، وتدمير البنية التحتية ، والعودة إلى صيغ الطائفية والمذهبية الطائفية والتمزق الأمني.
 أمام هذا الوضع الرسمي، فإن على القوى الحزبية والسياسية الوطنية بكل ألوان الطيف الفكري والسياسي والإجمالي وقوى المجتمع المدني أن تصعد من نضالاتها، وأن تطرح برامج جديدة وديمقراطية حتى تحتل موقعاً جماهيرياً متقدماً. وهي مهمات راهنة لا تحتمل التأجيل، وإلا فالبديل مزيد من التبعية والتخلف والهزائم والنكبات. بهذا نستطيع أن نواجه ثنائية التغريب الرسمية العربية بين ما يقال وما يمارس، انفصام الشخصية السياسية القيادية العربية، وتنطلق الشعوب العربية من أسر الموروث السلفي الماضوي الثقيل على قلب وعقول البشر على امتداد الأرض العربية . وهو ما وضع شعوبنا مكبلة في مقاعد  المتفرجين ، عاجزة عن التقدم إلى أمام . فالتصدي للمشاريع المعادية يقع على عاتق البشر والقوى السياسية والمجتمعية التي ترفع وتحمل البرامج الملموسة للناس، وترتقي بها من مستوى النظرية إلى واقع التطبيق .
 وأخيراً يبدو مشروعاً لنا أن نسأل أعداء ثورة 23 يوليو: ماذا فعلت التجارب العربية كلها بعد رحيل عبد الناصر على امتداد ثلاثة وثلاثين عاماً على النقيض من تجربة عبد الناصر . رغم ضيق مساحتها الزمنية التي ابتدأت في العام 1952 وتوقفت في العام 1970؟ وهل كان مطلوباً من ثورة يوليو/ تموز التي توقفت في منتصف الطريق، ووقع عليها الانقلاب المضاد لكل مسار ومصير حركة التقدم والدمقرطة والحداثة إلى أمام. الأحكام الظالمة لأصحاب السياسات البائسة هي التي أوصلتنا إلى الواقع المأساوي الراهن . لقد حاصرت السياسات الفئوية والقبلية القطرية حركة التحولات في المجتمعات العربية نحو الحداثة، نحو الثورة الصناعية، ثورة المعرفة والعلم بلا قيود وتحريمات، ثورة الإصلاح الديني، الديمقراطية والمساواة في المواطنة. ونحن رغم حلكة الليل مع موعد فجر عربي جديد قادم لا محالة، درب خلاصنا أن نعاود السير على طريق المشروع النهضوي الوطني والقومي الحداثوي، المعرفي، الديمقراطي والتقدمي، نتعلم من إنجازات ومن أخطاء ثورة 23 تموز/ يوليو، لكسر حلقة الزمن العربي الدائري نحو مقاربة العصر الحديث الذي لا زلنا خلفه أسرى البكاء على أطلال القديم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الانتخابات التشريعية في فرنسا : هل يمكن الحديث عن هزيمة للتج


.. فرنسا : من سيحكم وكيف ؟ • فرانس 24 / FRANCE 24




.. سائل غامض أخضر اللون ينتشر على أرضية مطار بأمريكا.. ما هو وم


.. فشل نظام الإنذار العسكري.. فضيحة تهز أركان الأمن الإسرائيلي




.. مقتل وإصابة العشرات من جراء قصف روسي على عدة مدن أوكرانية عل