الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تلك المدينة..( الفيصلية) -2-

جاسم العايف

2007 / 9 / 18
الادب والفن



اشتق اسم الفيصلية ، تيمنا، من اسم الملك فيصل الثاني .اُسكن آخرون في منخفض ارضي واسع، اطلق عليه " العالية" تيمنا ايضا بأسم ام الملك ، غير بعيد عن الفيصلية ، التي اتسعت وتناسلت وانشطرت الى اماكن عدة، الموفقية، ايجار واخرى بالاسم ذاته ولكن "أملاك" آلت ملكيتها الى شركة نفط البصرة، ثم الاصمعي، او بالاساس "الومبي" بنوعيه" الجديد والقديم". اشتق اسم "الومبي" من اسم الشركة التي تقاولت على بناء مساكنها، ضمن خطة مجلس الأعمار الملكي، بعيدا بقليل عن مكينة الثلج في اطراف الفيصلية، و بمحاذاة أقدم أمكنة البصرة" صبخة العرب" مأوى الاسلاف والعمومة والخؤولة النازحين من أرياف الغراف والشطرة والرفاعي وسوق الشيوخ والمجر الكبير، والميمونة، والاهوار،قبل زمن العثمانيين وبعدهم. آوت الفيصلية:..عمال بناء، حمالين، دوارة- قبل عهد "العتاكة" ،صباغي احذية، تمّارين يعملون خلال موسم جني التمر ويوزعونه على عوائل الفيصلية بصناديق تحملها اللوريات العائدة لمعامل تمور: اصفر.. وبيت مارين.. والداود.. ومجيد سلومي..الخ ، من اجل إخراج النوى منه- في عملية تسمى بـ"التفشيك"- ليجوب ذلك التمر الـ"مفشق" ، بعد معالجته في المعامل مع الجوز والفستق وغيرهما ، اسواق اوربا او يرسل بطلب من ارستقراطيي البصرة ،الذين اندثروا الآن، الى مَن يعرفون في العالم المتحضر هدايا لا اجمل منها. "تفشِّق"..عوائل الفيصلية وأطفالهم ليل ونهار صناديق التمور، حتى تتقرح الاصابع وتتلون الشفاه، ويغدو اكله وتذوقه شيئا فشيئا مثيرا للاشمئزاز ولدرجة التقيؤ..وتسلّم الصناديق بشرط ان يسلّم النوى لوحده.. لقاء أثمان بخسة قد تعين العوائل لتسديد شئ من ديون قديمة او شراء حاجة ملحة..وثمة ايضا في الـ"فيصلية" فلاحون مهجرون- مهاجرون، القت بهم مهانات ريف جنوب العراق الملكي، مقهورين، قنوطين، معبأين بـ"البلهاريزيا" وأنينههم عند تبلوهم الدموي الدائم، ذوو حرف بدائية لا تتطلب مهارات ، فتنحصر احلامهم في ان يغدوا شرطيين ، فراشين جالسين على كراس امام ابواب القضاة ، او صغار الموظفين ، كناسي شوارع ، حراسا ليلين يحملون بنادق برنو عتيقة وخمس إطلاقات طويلة كل مساء من مركز الشرطة مع صفارة ..تنوح كأحلامهم المتآكلة، يتردد صداها ليلا في فضاء "الفيصلية". قليل من "الفيصليين" موظفون صغار والاقل عددا معلمون والندرة مدرسون.وثمة عمال شركة نفط البصرة وملابسهم الزرقاء المميزة، ويقف العمال عادة مبكرين ينتظرون سيارات الشركة الصفراء-الزرقاء يصعدون بصفوف منظمة.
غير بعيد عن " الفيصلية" يقبع مقر"شركة نفط البصرة" وجواره ما يطلق عليه "المكينة" ، وملعب تنس الشركة، حيث نقف حفاة لنرى، الانكليزيات وهن بـ" الشورت" القصير الابيض ومعهن بعض البصريات ، والانكليز وبعض البصريين ممن نعرف اسماءهم فقط لكونهم اولياء نعمة مشهورين بوظائفهم الكبيرة في الشركة.. نلتصق بسياج الـ(بي.آر.سي) محدقين في ذلك (العري الفاضح) الغريب علينا،حفاة ، بدشاديش كتان ممزقة من الخلف و تلصق عليها قطعة قماش في الغالب من لون آخر.. نلتصق بالسياج برؤوس حليقة واجساد هزيلة وملابس تعلوها الخصاصة - مغرمين مدهوشين بالشورتات القصيرة واحمرار السقيان .. متحفزين لاصطياد كرة التنس البيضاء الصلبة القوية التي قد تطيح بها ضربة طائشة خارج السياج فتكون حصة اكثرنا قدرة على الركض بها بعيدا عن ملعب التنس ..لم يرق التصاقنا، وصراخ صبانا وعيوننا التي استوطنها الـ"تراخوما"، بالسياج، خاصة عصر يوم الاحد، لأولي الامر من ازواج اللاعبات البصريات..فعمدوا لتنسيب "ابو صلاح" مجهزينه بحصان وسوط ..ويظل" ابو صلاح " المخمور الدائم" بجثته الضخمة التي ينوء تحتها حصانه، وملابس الحوذي التي يرتديها،وحذائه الاحمر اللامع الذي يصل ركبتيه، وقبعته الانكليزية المربوطة بخيط اسفل فكيه، ممتطيا حصانه ، يدورعلى السياج ذاهبا غاديا..يصرخ بنا و يهشنا بسوطه الذي ترك ندوبا على ظهور بعضنا ، شاخصة حتى اللحظة. يطاردنا ويطردنا "ابو صلاح" بحصانه وسوطه بعيدا عن السياج الى ان نرمي كرة التنس التي طارت خارجه..لم تفلح تلك التحوطات و"ابو صلاح" وحصانه وسوطه في ابعاد تلصص عيوننا في بدء شبقها على اللاعبات.. فعمدوا لاقامة سياج عال من البردي المضغوط المسنود بركائز حديدية درءا لنظراتنا ..اختفى بعده "ابو صلاح" وحصانه وسوطه ولم نعد نذهب هناك ولم تهمنا حتى كرات التنس المتطايرة ..لا بل كان بعضنا يعمد لاعادتها بأحتقار مقصود عبر السياج الى ملعب التنس ثانية ،طاوين احلامنا المتهافتة على الشورتات البيضاء القصيرة وما خلفها فقط عند انتهاء اللعب ومغادرتهن الملعب جالسات في سيارات صغيرة خاصة.. متألقات قادمات من كوكب آخر.. القلة منهن تخفي بمنشفتها ما يظهر اسفل الشورت.
بسبب عمال النفط باتت "الفيصلية" تربة خصبة للنشاط السياسي السري، فغالبا ما تطفو المنشورات السرية على شوارع الفيصلية متحولة لنداءات علنية .. من اجل درء العدوان الثلاثي على مصر او لمهاجمة حلف بغداد او تحمل مطاليب سكان الفيصلية البسيطة او الدعوة لجبهة وطنية اواسناد الفلاحين المقهورين في ارياف العراق الملكي ..الخ .كان لتلك المنشورات السرية دوي بين "الفيصليين" عندما تفقد سريتها و تظهر للعلن صباحا او بعد ظهر القيلولة في قيظ البصرة ورياحها الشرقية الدائمة وخلو الشوارع من الراصدين ..
جاء الى "الفيصلية" الحاج" جيتا بائي كوكل" وهو مسن ثري ،من اصول غير عراقية، ويملك شركة للاستيراد والتصدير، اعدم بعد انقلاب 17 تموز مع مجموعة من العراقيين بتهمة لا يعلم الا الله مدى دقتها وحقيقتها، وعلقت جثثهم في بغداد.. اما الحاج "جيتا" فعلقت جثته مع اثنين من المتهمين معه في ساحة "ام البروم" وظل الناس يتقاطرون لرؤية جثث معلقة تدور حولها الصرخات و الشعارات والمسيرات.. جثث معلقة تتلاعب بها منذ الصباح الريح وهي تتخلل حشود العوائل وتقافز اطفالها في حديقة ام البروم في نزهة يوم الجثث المعلقة تلك . اقول جاء الحاج "جيتا" وابتنى مسجدا في الفيصلية ..شيئا فشيئا نهض المسجد و منارته وبابه الرحب وريازته .. ودارت حوله الدكاكين و خادمه الباكستاني واسرته ومسكنه المجاور لمغتسل موتى و قتلى " الفيصلية"..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بايدن عن أدائه في المناظرة: كدت أغفو على المسرح بسبب السفر


.. فيلم ولاد رزق 3 يحقق أعلى إيرادات في تاريخ السينما المصرية




.. مصدر مطلع لإكسترا نيوز: محمد جبران وزيرا للعمل وأحمد هنو وزي


.. حمزة نمرة: أعشق الموسيقى الأمازيغية ومتشوق للمشاركة بمهرجان




.. بعد حفل راغب علامة، الرئيس التونسي ينتقد مستوى المهرجانات ال