الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


النصف الآخر (7)

هشام بن الشاوي

2007 / 9 / 18
الادب والفن



7
أشار إلى رفيقيه أن ينتظراه بعيدا ، و لمح في عيونهما نظرات ذات معنى ، فرّق التجمهر الصغير لبعض متطفلي الحي ، وطلب من عماد البقاء في مكانه أمام البيت ، شدّها من يدها إلى الداخل خلف البوابة ، وفي داخله ذئب مسعورعلى أهبة الانقضاض مكشرا عن أنيابه ، همس الذئب : " حان الوقت لرد الاعتبار ، والانتقام من كل بنات حواء ، مضى زمن البراءة .. ابتلع مرارة خياناتهن مع رجال أكثر نذالة تماما مثلما تقتضي الضرورة الفنية ، في هذه الحالات !!
فلتحاول أن تبدو بمظهر الفتى الشهم ، لا بأس ..!! " .
وفي رحم خياله تشكلت فكرة كتابة قصة قصيرة عن هذه الأم ، تلح الأفكارعلى أن يحرر من ظلمات سجنها .. " لا بأس إن خدعت قراءك المفترضين ، وبدوت أمامهم فارسا نبيلا في زمن الرداءة ، لست نبيا ، لست النذل الوحيد ، وليست نهاية العالم إن تخليت عن مبادئك مرة واحدة مقابل نزوة عابرة ،( هكذا برر لنفسه كل شيء) .. سأحاول الليلة أن أرتب أفكاري ، وأختار لها كعنوان ،حتى ولو بدا مستهلكا ، لكنه قريب من أجواء هذا النص الوليد :(عفوا أيتها الأم ) !! " .
كل هذه الخواطر جالت في رأسه وهو يتجاوز مسافة خطوتين فاصلتين بين ابن وأمه .. ومثلما يحدث في بعض الأوقات الحرجة ، دس يده في جيبه منتشلا تلك الورقة السحرية ، التي تضم اسمه ورقم هاتفه ومسنجره ، وربت على يدها مطمئنا وهو يدسها في راحة كفها في ثقة ، متعمدا أن يتحسس نعومتها :
- لا داعي للقلق ، أحترم مشاعرك رغم أن ما حدث لم يكن بإرادتكما .. ثقي أني لن أرتاح حتى يعود إليك .
اختفت تلك القطة المتنمرة التي تعودت على أن تخاطب الآخرين باستعلاء ، أحس بها تتضاءل صامتة - حين عرف نقطة ضعفها - غير قادرة على أن تنبس بكلمة .
- لا تخبر أحداً !
قالتها وهي ترفع عينيها إلى الورش
أدركك أنها لا تود أن يعرف البناؤون حكايتها .
- عماد مثل أخي .. !!
وقرأت في عينيه نظرات شبقة سادية لم يحاول أن يغلفها بأية مشاعر رقيقة .
بثقة واعتزاز ضم أصابعها البضة وأحكم قبضتها فوق راحتها حيث تستريح تلك الورقة الصغيرة الملفوفة بعناية فائقة .. كأنما يقول لها : " كل ما تريدينه تجدينه في الورقة ، لا تتأخري ، يا عنقود الأنوثة الباذخ " !!



عند محطة الحافلات ، التقوا بعبد الرحيم ، سأله إن كان لا يزال يتذكر هذا الشاب ، مشيرا بيده إلى عماد ، تأملهما بحميمية وهما يغرقان في عناق حميم ، وقد أثاره ذلك النداء الخفي للقلوب المحبة التي لا يخطئ نبضها ، ولو تبدلت الملامح قليلا . لمح إلى عبدالرحيم أنهم سيتركونهما .. وجه كلامه إلى عماد : " هذا من كنت تسأل عنه " ، لا حت لهما الحافلة رقم 2 :
- انصرفا قبل أن تحتل كل مقاعدها ، أمّا أنا فسأذهب مع هذين المعتوهين إلى سوق الحمراء ...
في انتظار قدوم الحافلة رقم 3 انشغل بتأمل ملامح الوجوه و البنايات التي حولهما ، أثار اهتمامه صمت "كبالا" حين مرت من أمامهم نادية ، خادمة الجيران التي لا يعرفان سوى اسمها من خلال نداءات ابني مشغلتها الصغيرين ، كانت تحمل شيئا في يدها ، تعودوا أن يروها ترتدي الحلباب السماوي الوحيد ، شابة في ربيعها الخامس والعشرين .. بقوام كغصن البان، وجه بدري صبوح يسلب العقول ، وعينين لا تخطئ سهام نظراتها القلوب .
تأمل صمت "كبالا "، كات يعرف ما يجيش في دواخله من مشاعر مضطربة .. لعله نوع من الحب الذي لا يمكن ل"كبالا" أن يعبر عنه إلا بطريقته الخاصة ، يصمت غير قادر على الكلام ، يعبدها في صمت ، حتما تحس بما تخالجه وهو يرتكب حماقاته اليومية كلما أبصرها ، ولعلها تضحك مشفقة عليه حين تخلو إلى نفسها .. التفت إليها يشيعها بنظراتها وهو هائم ، فاصطدم بالعمود الكهربائي ، وضحك "بعية " حتى دمعت عيناه قائلا :
- (وا كِي دِرْتــِي مع الحُبّ والشْــتا كَاتــْصُبْ) !!

و عربد "كبالا" مثل طفل مدلل حاد المزاج ، نفس الابتسامات الساخرة لمح أطيافها على شفاه النساء الواقفات إلى جوارهم في انتظار الحافلات .. خمن أن منظره البدوي وملامحه الجامدة وجسده الضخم لا توحي لمن يراه أن يكون رقيق القلب ، ويحب بعنف رومانسي ...
يتعمد "بعية" أن يسمع النساء المجاورات سخريته منه ...
- ا كِي دِرْتــِي مع الحُبّ والشْــتا كَاتــْصُبْ ، سيرْ الحمرا شْــري شِي كـَبـّوطْ !!
استشاط غضبا وطارده وهو يرشقه بالحجارة خالقين جوا مرحا بدد بعض توتر الحافلات التي تأخرت ..
كان يحس بما يكابد "كبالا" ، " إنه الحب ابن الكلب! " ، هتف لنفسه ..
كانوا يشفقون عليه من ( بهدلة ) الحب ورغما عنهم يضحكون ، ارتسمت على شفتيه ابتسامة وهو يتذكر يوم ضحك بعية حتى (بال في سرواله) .
مرّ كبالا بالبرويطة (الناقلة ) حاملا كيسي أسمنت من أمام الورش ، وتجاوزه هائما على وجهه ، بدل أن يدخل عبر المرآب سرح بعيدا ... حين لمح نادية ، ويعلم أنها لم تبتسم في وجهه ولو مرة واحدة ، بقي يدفع الناقلة أمامه غير عابئ بما حوله وهو يلتفت خلفه كعاشق متيم .. غير منتبه أنه تجاوز الورشة ، وذاب في سحر الالتفاتات والشارع الطويل يرجع صدى صوت عجلة الناقلة .
وينتشله من شروده صياح عمه "التباري" وهو يصب عليه جام غضبه : ( واش غادي نباتو الليلة هنا .هارا السيما أمسخوط الوالدين . سير اتزوج ، الله يعطيك شي مصيبة .. شوهتينا بحال ما عمرك ما شفتي العيالات ..) ،ترتسم على شفتيه ابتسامة طفولية ، ويستدير غير مأسوف على المسافة التي قطعها رغم تذمره المعهود بأن يحضر رب العمل الأسمنت بدل أن ينقلوها من (الديبّو) على أكتافهم ، و عجلة الناقلة تردد ذلك الصوت المزعج الأشبه بنعيق البوم ممزقا صمت الأماسي الشتوية .
يسخرون منه ، يلوذ بالصمت ويصب حنقه في كومة الخرسانة المسلحة ، وينتقم من إهانات عمه في صمت ، يدفع إليه السطول بلا توقف ، ودون أن يرحم كهولته التي ماعادت تستطيع مجاراة عنفوانه ،ولا يعطيه فرصة لالتقاط أنفاسه: " تريد أن تعمل . خذ ، حتى تنام مع الدجاج ، و توقف عن الشكوى مثل العجائز .. " .
في ظلمة الاصطبل وهما يختلسان متعتهما المحرمة ، بحبور تهتف زوجة عمه :
- إنه ينام بمجرد أن يضع رأسه على (المخدة ).
- جيد . أعرف ، لأني .. لا أدعه يحك رأسه في العمل .
يتعاطف مع "كبالا" وهو يحكي له عن حلم الظهيرة ، حلم بكر طاهر .. يراها في حلمه تغدق عليه بابتسامة لؤلؤية تنعش بمطرها صحراء أيامه ، وشعرها يسترخي على منكبيها موجة رطبة ، وفي عينيها تغرد البلابل ، كان يدرك أن يختصر عاشق كل بهجته في الظفر بمجرد ابتسامة طفولية عذبة ، تنسيه كل ما حوله ...
- هذا أجمل ما في الحب ، يجعلك ترى الكون جميلا .
- في الليل ، بمجرد أن أتذكرها يفارق جفني النوم . يا ربي !
وتنهد ملتاعا .




لقطة بانورامية من فوق ، يشاهد عبد الرحيم وهو يخلع قميصه وإلى جانبه عماد ، وقد بدا يستسلم لإغفاءة لذيذة ،بعد أن داعبت رائحة (الكيف ) خلايا رأسه وبددت توتره الداخلي ، يسدل الستارة ، بعد أن أحكم إغلاق با ب حجرته ، ويطفئ المصباح ، ويتصاعد أنين خافت ..
ويغرق المكان في إظلام تام .....




بين الممرات الضيقة الفاصلة بين صفوف باعة يعرضون بضاعاتهم الرخيصة على الأرض ، يلمحون رجلا بعكازين وساق مبتورة ، يمد يده نحو المارة .. المشهد عادي جدا ورتيب ولا يحرك أي شيء في دواخلهم ، " لا يعور ولا يعرج إلا البلاء المسلط "، علق كبالا .. سألاه مازحين عن معنى عبارته ..
- لو لم يكن أعرج لكان شيطانا ، ربما لهذا عاقبه الله ..
وعلقا بصوت واحد ...
- يا سلااااااااااااام !
وانفجرا ضحكا ، ثم طلب منهما درهما وهو يتحسس جيوبه ، استغربا شهامته بعد انصراف الكهل ، وراقباه في صمت ، ولمحاه وهو يرمي الدرهم أمام متسولة ترضع صغيرها .. رغم قذارة ملابسها ، كان ثديها يطفح أنوثة وحلمته الرمادية المتصلبة تلمع ...
- ( ابن الق... ماعندوش فين يرقد) !!
نظر إلى ساعته وهو يسمع آذان العصر ، فأيقن أن الموعد أزف ، وحان الوقت ليودعهما ...


أحس براحة داخلية عميقة وهو يستقل الحافلة رقم 8 ، خالجه ابتهاج عميق وهو يلمح مقعدا شاغرا إلى جانب نادية ، و سألها في لطف بالغ إن كان بإمكانه الجلوس ...
(يتبع )








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنانة الكبيرة نيللي لسة بنفس الانطلاق وخفة الدم .. فاجئتنا


.. شاهد .. حفل توزيع جوائز مهرجان الإسكندرية السينمائي




.. ليه أم كلثوم ماعملتش أغنية بعد نصر أكتوبر؟..المؤرخ الفني/ مح


.. اتكلم عربي.. إزاي أحفز ابنى لتعلم اللغة العربية لو في مدرسة




.. الفنان أحمد شاكر: كنت مديرا للمسرح القومى فكانت النتيجة .. إ