الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رفقتي مع السياب

هادي الحسيني
(Hadi - Alhussaini)

2007 / 9 / 21
الادب والفن




بعد ان انتقل بدر شاكر السياب شاعر العراق الكبير من مدينته البصرة الى العاصمة بغداد ليكمل دراسته في دار المعلمين العالية , ربطتني به علاقة صداقة حميمية جداً ، وكان عندما ياتي الى معهد العالية تطرز ملامح
وجه الابتسامة ، ومن تلك الابتسامة اعرف بانه كتب قصيدة جديدة ،
وعلى الفور يصطحبني الى ساحة المعهد ويقرأ عليّ ما كتب من شعر جديد ..
وكنت دائماً اقول له يا بدر انك شاعر كبير دون شك ، ويضحك ..
مازالت ضحكته لا تفارق خيالي حتى هذه اللحظات
ومازالت قصائده الاولى احتفظ بها لنفسي ولا افكر بيوم من الايام ان انشرها ولا ابيح بها لشخص على الاطلاق .
وعندما سافر الى بيروت بدعوة من مجلة شعر كان اودنيس يتربص له ، كي يوقعه في فخاخ هو بعيد عن لعبتها ، الا ان اودنيس فشل في اصطياده بتلك الفخاخ الملعونة ، وان كانت فخاخ شعرية ...
لكنها خبيثة ؟
ولما داهمه المرض اللعين اصر بدر السياب ان يصطحبني معه في علاجه داخل العاصمة البريطانية لندن ، وعلى مضض وافقت على رفقته مكهراً لعدم تحملي مثل هذه الامور التي يكون عبئها كبيراً على اي انسان ..
كانت الطائرة التي اقلتنا من بغداد الى لندن من النوع البويينك 700 القديم وبينما كانت المُظيّفة تقدم لنا الطعام والشراب ، حاول بدر السياب ان يتغزل بها بطريقة مهذبة تدلل على انه خجول لدرجة كبيرة ، فما كان من المُظيّفة الا ان ابتسمت له ابتسامة عريضة اجبرته ان يكتب قصيده جميلة !
وفي لندن كاد السياب ان يفارق الحياة لولا عناية الله التي حمته بذلك اليوم من مرضه الذي كان يعاني منه !
كانت التفاتتي في انقاذه باللحظات الاخيرة بعد ان عرفت ان تنفسه شبه منقطع اسرعت على عجل لغرفة الاطباء ، وجاءوا مسرعين لأنقاذه .
وما ان فاق من الغيبوبة الطويلة طلب مني ان اوضح له الامر .
ولمّا اوضحت الامر له ، انهمر عليه البكاء بطريقة خرافية لم اشهد مثيلا لها عند انسان اخر ، حينها احسست ان هذا الشاعر الكبير والصديق الحميم يحمل في داخله كل احزان الوطن العراق التي كانت تتبلور في دموعه و ما توقفت قط ..
في تلك الساعة عرفت ان الشعر والشاعر هما الحياة والعيش المزمن في الحزن والجوع والمرض والموت الذي لا يرحم الا من الخيبات التي تنتاب الانسان في حياته ، ... وفي طريق العودة من لندن الى الوطن كادت الطائرة تسقط بنا فوق البحر الابيض المتوسط لولا قصيدة السياب" ثعلب الموت" التي قرأها ونحن والركاب في لجة الخوف من وشك السقوط والتي قال فيها :
كم يُمضُّ الفؤاد أن يُصبح الإنسان صَيداً لرميةِ الصيّاد ؟
مثل أيِّ الضبِّاءِ , أيِّ العصافير , ضعيفا
قابعاً في ارتعادة الخوف
يختضُّ ارتياعاً , لأنَّ ظلاَّ مخيفا
يرتمي ثمَّ يرتمي في اتِّئادِ.
ثعلبُ الموت , فارس الموت , عزرائيل يدنو ويشحذ
النَّصْلَ . آه منه آهٍ......
وبعد ان اكمل السياب قصيدته , جميع الركاب اصبحوا في سبات عميق من النوم الامر الذي اضطر عزرائيل ان يعّدل عن قراره ويترك الطائرة تسير بامان الى العاصمة بغداد , هذه الحادثة اذكرها باستمرار في كل موقف حرج أمرُ به ، خاصة عندما اكون على متن طائرة اثناء السفر من دولة الى اخرى ..
وفي ايام السياب الاخيرة فقد اصبح لا يستطيع المشي وليس قادرا على فعل اي شيء سوى ان يكتب الشعر ، وكأنه يثأر من الموت القادم اليه ، هكذا يحس القاريء في شعر بدر السياب حين يقرأه قراءة متأنية وصافية ، فقد ابتعد عني ابتعاداً كلياً واصبح رفيقه الوحيد هو الشعر ، وكان يتحدث اليه الطبيب اثناء علاجه وهو يكتب الشعر ، من دون انقطاع ..
واذكر جيدا في العام 1965 كيف ان انسي الحاج تحدث عن صديقي بدر السياب في ملحق جريدة النهار البيروتية قائلاً عنه :
"انه جاهلي بدوي فولكلوري خرافي انسكلوسكسوني على واقعي هجاء ورثاء مداح بكاء , يسيل به الشعر حتى الموت "
وعندما حدثت السياب عن انسي الحاج وما تحدث به عنه ، ضحك السياب وقال لي بصوت دافيء تسبقه شهقات الموت :
ان انسي الحاج اختصر كل ما يقال عني بهذه الكلمات البسيطة وهو محق بذلك ؟
وتمضي الايام مسرعة وينقل بدر السياب الى المستشفى الاميري بالكويت ليموت هناك , ويستريح من معاناته وآلامه في المرض ، ونأتي به الى بصرته انا وصديقه السبتي لندفنه هناك ، كي يلقي بجسده النحيف على تلك الارض المباركة التي انجبته ، ليثريها بكنوز شعره الذي اصبح مشاعلا تستنير بها الاجيال لتشق
طريقها نحو الحب والموت والانسان ...
والحديث عن السياب اثناء صداقتنا يحتاج له الكثير من الكتب لكي يُدّون بشكل صحيح ، بعيداً عن المجاملات والصداقات لكنني أجلته الى يوم اخر وساعة اخرى وظروف افضل ، خاصة ان حرية الكتابة اصبحت في متناول العراقيين ويعبروا بالطرق التي يرتأوها وعلى الطريقة التي يظنوها تخدم المجتمع والانسان ..
لكن ولكن ولكن
السياب رحمه الله قد وافته المنية في أواخر عام 1965
وانا قد جئت الى الدنيا في أواخر عام 1963
هذا المقال عبارة عن كامرة الثقافة الخفية ، فلا تصدقوه








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيديو يُظهر اعتداء مغني الراب شون كومز جسديًا على صديقته في


.. حفيد طه حسين في حوار خاص يكشف أسرار جديدة في حياة عميد الأد




.. فنان إيطالي يقف دقيقة صمت خلال حفله دعما لفلسطين


.. فيديو يُظهر اعتداء مغني الراب شون كومز -ديدي- جسدياً على صدي




.. فيلم السرب للسقا يقترب من حصد 28 مليون جنيه بعد أسبوعين عرض