الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ديمومة الحالة الانتقالية

علي جرادات

2007 / 9 / 27
القضية الفلسطينية


في السياسة كما في الاجتماع والاقتصاد وباقي مناحي الحياة، لا قديم يختفي فجأة، ولا جديد يهبط دفعة واحدة، بل يزول الأول كما يلد الثاني بتدرج وتراكم، وبين اختفاء القديم وولادة الجديد تقع المراحل الإنتقالية، التي يشكل الإضطراب وعدم الاستقرار عنوانها الأساسي، ترسمه التناقضات الحادة بين مكونات القديم والجديد، على نار اصطراعهما تصطلي الشعوب سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وامنيا ونفسيا وثقافيا، ما يفسر القول: إن المراحل الإنتقالية هي الأصعب في حياة المجتمعات، خاصة إذا طالت، فما بالك عن ترجمتها في الحالة الفلسطينية، حيث تجد قوة احتلال غاشمة تعمل على تكريسها عنوة، وتحاول فرضها بالقسر لاطول مدى ممكن، بما يتعارض مع توق الفلسطينيين للحرية والاستقلال وحركتهم التحررية الدائبة التي لم تعرف التوقف، ولا اعتقد انها ستتوقف ما دام الاحتلال على الأرض جاثماً، حتى وإن خبت في هذه المرحلة أو تلك، تبعا لتحولات الشروط الموضوعية للصراع، على المستويين القومي والدولي.
في هذه الحالة الانتقالية المفروضة قسراً، يعيش الفلسطينيون، منذ جرى اخراج الجيش وجهاز "الإدارة المدنية" الإسرائيلي مِن وسط تجمعاتهم السكانية الكبرى، واعادة انتشارهما في محيطها، ما سمح لهم انشاء سلطة وطنية انتقالية عام 1994، عملت القيادات الإسرائيلية بالوانها الحزبية المختلفة، مِن رابين حتى أولمرت، وما زالت تعمل، على تأبيد هذه السلطة الانتقالية، بل كان شارون قد "لحسها" باجتياح الضفة في 2002، واخرجها عن كونها باتفاق سياسي في غزة عبر فك الارتباط الاحادي معها، ليصبح الفلسطينيون بذلك في حالة انتقالية، جوهرها الاحتلال "عن بعد"، مع ما يترتب على ذلك مِن تكوين نفسي اجتماعي مرتبك وثقافة سياسية تائهة، ادت فيما ادت اليه إلى سلوكيات سياسية مشوهة، جوهرها التنازع على سلطة لا سلطة فيها إلا للاحتلال، وكانت الطامة في الاقتتال الداخلي، تدحرج ككرة الثلج، حتى خرج عن السيطرة، ليصل جنون "قسمة الضفة غزة"، بعد الحسم العسكري الذي اقدمت عليه "حماس" في غزة.
بهذه النتيجة القاسية، زاد الفلسطينيون بايديهم ومحض ارادتهم كارثية حالتهم الانتقالية، وكأنهم يُركِّبون سنانا لحربة عدوهم، فقد دخلوا بهذا مرحلة انتقالية بالمعنى الداخلي، فحركتهم الوطنية في حالة وحدة سياسية نظريا، وفي حالة تناحر دامي واقعياً، فيما لا السائد في القرار الوطني الداخلي منذ عقود، "فتح"، ولا الصاعد بعد الانتخابات التشريعية الاخيرة، "حماس"، قادر على السيطرة بالكامل، ما يفرض حقيقة أن لا حل إلا بالتوافق الوطني كشكل مِن اشكال ممارسة الخيار الديموقراطي، خرجت عليه لغة البنادق، التي يخطأ مَن يعتقد أنها قادرة على نفي الآخر، او انهاء دوره وتأثيره في الحياة الفلسطينية، يصر المحتلون الإسرائيليون بدعم امريكي، على استبقائها في قمقم مرحلة انتقالية قاسية وقاتلة.
اجل؛ منذ قيام السلطة الوطنية الانتقالية، وفلسطينيو الضفة وغزة يعيشون مرحلة انتقالية قاسية بكل المعاني وعلى كافة الصعد، فَهُمْ منذ ذلك التاريخ يصطلون بنار مرحلة انتقالية بين الاحتلال جوهرا والتحرر مظهرا، بين السيادة شكلا واللاسيادة مضمونا، بين البطش فعلاً و"التهدئة" اسماً، بين كونهم يعيشون مرحلة التحرر الوطني واقعاً والاستقلال الوطني وهماً، بين.....مِن التناقضات الحادة، التي أفرزت ما لا يطاق، وما لا يصدق مِن تجاور التسميات المتناقضة، فهناك سلطة ومعارضة فيما الكل يرزح تحت الاحتلال، وهناك الوزير والنائب البرلماني والوكيل والمدير، وهناك الشهيد والجريح والمقاوم والسجين، بل بلغ الامر درجة أن يكون ذات الشخص وزيرا أو نائباً في المساء وسجيناً في الصباح. وهكذا دواليك.
معلوم أنه كان يُفترض أن تنتهي هذه المرحلة الانتقالية مِن حياة الفلسطينيين في أيار 1999، أي في نهاية العمر الزمني لاتفاق أوسلو، ذلك وفقاً لما تم الاتفاق والتوقيع عليه في ايلول 1993، غير أن هذا لم يحصل، فقد عملت القيادات الإسرائيلية، رغم هذا الاتفاق، على محاولة فَرْضِ السلطة الإنتقالية كحل دائم للصراع، عبر ممارسة كافة اساليب المراوغة والتسويف والمماطلة في تنفيذ ما تم الاتفاق عليه، بل لم تُخْفِ القيادات الإسرائيلية المتعاقبة نواياها، واعلنت سياسة "لا يوجد مواعيد مقدسة" ومارستها كإستراتيجية كان قد اطلقها، وارسى دعائمها رابين بعيد التوقيع على اتفاق اوسلو.
على خلفية ما افرزته هذه المرحلة الانتقالية مِن اضطراب وعدم استقرار؛ وبعد فشل مفاوضات كامب ديفيد 2000 المفصلية الكاشفة؛ وبحكم ما عاشه الفلسطينيون مِن معاناة، جعلتهم كمرجل يغلي طوال الفترة الممتدة مِن 1994 حتى 2000؛ وبفعل عود ثقاب زيارة شارون لساحة الأقصى في ايلول 2000، عاد كامل السهل الفلسطيني للاشتعال في انتفاضة جديدة، انطوى شعارها الناظم، "الاستقلال الوطني"، على حاجة الفلسطينيين الموضوعية، وحقهم السياسي المشروع، للخروج مما فُرِضَ عليهم مِن مرحلة انتقالية، وذلك عبر العودة لتجديد المقاومة، باعتبارها المشهد الطبيعي لشعب ما زال يعيش مرحلة تحرر وطني، رغم تشييده لسلطة وطنية انتقالية، كان الطموح أن تؤسس وتقود إلى خلاص كامل مِن الاحتلال، بما يسمح بممارسة الحق الطبيعي والمشروع في الحرية والاستقلال، الشعار الذي كانت قيادة الانتفاضة الأولى عام 1987 قد رفعته كناظم سياسي للفعل الشعبي السلمي الواسع في الوطن مِن اقصاه إلى اقصاه، وفي كافة اوساط الفلسطينيين على اختلاف اجيالهم واماكن تواجدهم وقطاعاتهم وفئاتهم وطبقاتهم الاجتماعية المختلفة.
لقد اصطدم الجيشان الشعبي الفلسطيني وفعله السلمي بعد زيارة شارون لساحة الاقصى، بممارسة الجيش الإسرائيلي لكل اشكال جرائم الحرب، واستخدام كل اشكال السلاح: البري والمدرعات وطائرات الأباتشي وطائرات اف 16، ما دفع الفلسطينيين قسراً لاستخدام كل ما هو متاح بايديهم مِن سلاح، لتتحول الانتفاضة مِن هبة جماهيرية سلمية غاضبة إلى حالة مِن المقاومة المسحلة، افضت لأول مرة في تاريخ الصراع، أن يصل ميزان الخسارة البشرية بين الفلسطينيين والإسرائيليين بمعدل واحد إلى ثلاثة، أي ثلاثة فلسطينيين مقابل إسرائيلي واحد. ولكن لسوء طالع الفلسطينيين، وكما هي العادة، فقد كان أن داهمت "غزوة" بن لادن في ايلول 2001، اندفاعة الفلسطينيين، التي تراجعت مسافة كبيرة للوراء، ليتمحور كل همهم حول سؤال: كيف السبيل لنفي وصمة "الارهاب" التي أُلصِقَت بمقاومتهم الدفاعية زورا وبهتانا ؟!!!
بذلك؛ وبزيادة شارون لجرائم الحرب ضد الفلسطينيين؛ وبفَرْضِ الحصار السياسي والاقتصادي الخانق عليهم؛ ومع العجز العربي الرسمي عن مساندتهم، ذبلت انتفاضة الاقصى، ولم تستطع احراز كسب سياسي يخرج فلسطينيو الضفة وغزة مِن قسوة مرحلة انتقالية، فعادوا للعيش فيها، إنما بافرازات اكثر اضطراباً، تجلت في الفوضى السياسية وتعدد الاجندات والفلتان الأمني، ولم ينفع بلسم عقد الانتخابات المحلية والتشريعية في مداواتها، بل عمقتها، وتمخضت بالنتيجة العملية، بصرف النظر عن النوايا، عن الوقوع في خطيئة الاقتتال الداخلي والحسم السياسي بوسائل عسكرية، ليغدو فلسطينيو الضفة والقطاع في شرنقة مرحلة انتقالية مركبة، مع الاحتلال يصر على تأبيد ما بيدهم مِن سلطة انتقالية، وداخلية يتقاسم فيها قطبا السياسة الفلسطينية الرئيسيان هذه السلطة الانتقالية، التي كان شارون قد افرغها مِن مضمونها، حتى كما نصت عليه الاتفاقات (اوسلو) التي كفلتها.
بهذا يكون الفلسطينيون قد غطسوا في اشكال مركبة مِن المراحل الانتقالية، جزء منها بفعل سياسة الاحتلال وصلفه، والآخر بفعل ما جلبوه هُم لانفسهم، ربما بفعل عجزهم، وعجز حاضنهم القومي عن اسنادهم في مواجهة الجزء المتعلق بالاحتلال.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة الأميركية تفض بالقوة اعتصاما تضامنيا مع غزة في جامعة


.. مسؤول عربي لسكاي نيوز عربية: مسودة الاتفاق بين حماس وإسرائيل




.. جيروزاليم بوست: صحفيون إسرائيليون قرروا فضح نتنياهو ولعبته ا


.. عضو الكونغرس الأمريكي جمال باومان يدين اعتداءات الشرطة على ا




.. فلسطيني يعيد بناء منزله المدمر في خان يونس