الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التطبيق على تقنية ( المشهد ) في القصة القصيرة /عربة تحرسها الاجنحة انموذجا

جميل الشبيبي

2007 / 9 / 28
الادب والفن


تبنى قصة ( عربة تحرسها الأجنحة ) على وفق تقنية المشهد الذي يعتني بإبطاء السرد وتكثيفه باتجاه تسليط إضاءة ساطعة على تفصيلاته الموجزة . وتتضافر هذه التقنية مع تقنية الوصف لإتمام ذلك البناء الدائري في هذه القصة الذي تتداخل فيه البداية والنهاية بشكل دال ومؤثر حين يعيد السارد في المشهد العاشر من القصة مشهد العربة ذات الإطار الواحد ولكن بتفصيل مكثف ومختلف .
في المشهد الأول يضخ السارد مجموعة من التفاصيل التي تتحكم بها أفعال ساكنة في معظمها ولكنها تلبي حاجة الإبطاء والإضاءة . من تلك الأفعال : لم يكن يصرخ أو يشتم ،يتمتم، يدفع ، كشفت ، توقف ، تبعه ...كما يظهر في المشهد: عربة ، أطفال واجمين ، آباء ، نسوة ، إضافة إلى ظهور بارز وطاغ لضمير الغائب المتصل ببعض الأفعال التي عرضناها لتجسيد شخص غير موصوف بغير حركة الجزم والنفي( لم) التي تظهره في أقصى درجات الثبات واليقظة : (على غير عادته ، لم يكن يصرخ او يشتم ، كان يتمتم وهو يدفع العربة ....)
وتتوفر في هذا المشهد كل العناصر الضرورية التي تهيئ المروي له لمتابعة هذا الحدث وارتباطاته بالمشاهد التالية .
في المشهد الثاني يستثمر القاص تقنية الوصف المقترن بالسرد لغرض الإبطاء وإضاءة تفاصيل المشهد : نخيل دون رؤوس ، أعمدة منصهرة ، حفر عملاقة ، هياكل سيارات محترقة ،جذوع صفت على عجل لتكون بدائل عن الجسور المحطمة. وتبنى في هذا المشهد خلفية مأساوية للخراب الذي أصاب الخارج باتجاه تعزيز الخراب الداخلي الذي لحق بالشخصية في ظهورها المكثف وهي تدفع العربة باتجاه غير معلوم .
في المشاهد الأخرى التالية - باستثناء المشهد العاشر - ُتستثمر المشاهد في تسليط أضواء مكثفة على ذات أنثوية تظهر في هذه المشاهد بصفة ضمير الغائبة المتصل أيضا :أيام طويلة مرت وهو يهيم بحثا عنها ،خرجت مع الفتيات في طلب الماء ولم تعد ، وهي تقنية مقتصدة وكافية لإضاءة ذلك الماضي القريب لغياب الفتاة ، كما إن هذه المشاهد تجسد انتقالات الخبر من بيت الرجل إلى بيوت الآخرين لتلبي انتشار الفقدان إلى البيوت المجاورة ، ولتعطي تفصيلا دالا يكشف أهم صفات الفقيدة : (همست إحدى الفتيات في أذن أمها ، أنها رأت امرأة متوسطة العمر تتحدث مع البلهاء على الشاطيء ..)
وفي المشهد السادس يتجسد حظورها بالفعل (وجدوها أمام بيت أبيها ..) مع مفارقة مهمة (جفل الجميع إذ رأوا بطنها كبيرا ومستديرا ...)
ان هذه العبارة ( رأوا بطنها كبيرا ومستديرا ) كافية لاستيعاب الحدث الخيالي الذي تجسده عبارة واحدة في المشهد العاشر بحيث تبدو المشاهد الأخرى : السابع ، الثامن ، والتاسع التي تلخص حوادث الاغتصاب المتكرر مشاهد زائدة فهي لا تلبي سوى إضافات معروفة سلفا ، كما إنها تبدو مشاهد مباشرة وضعيفة نسبة للمشهد الأخير الذي يفجر فيه القاص امكاناته في الكتابة القصصية .
في المشهد العاشر يستثمر القاص تقنية المشهد استثمارا مبدعا وكأنه على معرفة بهذه التقنية . ففي هذا المشهد يبدو سرد الإحداث وقد توقف لصالح الوصف أولا ولظهور الجزء الخيالي في هذا المشهد .
يتركز هذا المشهد على جسد البنت من منظور مرتفع عن العربة ليكشف تفاصيل ضرورية ( تورم جسد الفتاة ، وجهها الملائكي ، ابتسامة غامضة ) ثم يغيب الوصف ليظهر الخيالي في صورة مؤكدة وليست إيهامية حين يستخدم القاص كلمه (ثمة) مضافة إلى ( أجنحة)وبهذا الشكل :(ثمة أجنحة تحيط بالعربة تتبعها) في حين تكون العبارة التي تأتي بعدها عبارة موضوعية لا علاقة لها بالمجاز باستثناء التشبيه ( وكانت السماء تبلل الجمع بمطر ناعم كالدموع ) وبهذا الشكل تبدو هذه الرحلة المأساوية وكأنها محفوفة بعناية ألاهية تنتشلها من محيطها الآسن الذي يعمد الى تلويثها بأدران البشر ، وبنفس الوقت ينزل المطر الناعم ليغسل هذه الأدران العالقة ، ويضفي حزنا شفيقا على هذه النهاية المأساوية .
إن تحقق المشهد في هذه القصة هو إنجاز تقني مهم ، يظهر جليا في ذلك التوازن بين زمن السرد وزمن الحكاية ..فالأسطر الثلاثة التي اكتمل فيها المشهد العاشر – الأخير تمكن قارئها من قراءتها بزمن قصير يتناسب وهذه الأسطر الثلاثة ، وهو زمن يقارب زمن الحكاية التي يبدو في هذا المشهد وكأنه معلق أو ساكن ، من خلال أفعالها الأربعة التي تشي بالسكون أو الحركة غير المحسوسة وهذه الأفعال : ترقد ، يحتفظ ، تحيط وتبلل وهي أفعال وصفية ساكنة باستثناء الفعل ( تحيط ) المقترن بالأجنحة الخفية التي تشي بحركة خفية تواكب العربة في ظهورها المتفرد الذي ترقد فيه ( ابنته متورمة الجسد ووجها الملائكي ..) للإعلان عن مصير مأساوي عايشته الفتاة البلهاء في حياتها وموتها ، وبهذا الشكل يتحقق التكافؤ بين زمن السرد وزمن الحكاية .وهذه التقنية تكاد ان تتحقق في كل المشاهد العشرة في هذه القصة .
-------------------------------------------
*عربة تحرسها الأجنحة –مجموعة قصصيةصدرت في مدينة البصرة على حساب مؤلفها فرات صالح








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. موسيقى الجاز.. جسر لنشر السلام وتقريب الثقافات بين الشعوب


.. الدكتور حسام درويش يكيل الاتهامات لأطروحات جورج صليبا الفكري




.. أسيل مسعود تبهر العالم بصوتها وتحمل الموسيقى من سوريا إلى إس


.. فنانو الشارع يُحوِّلون العاصمة الإسبانية مدريد إلى رواق للفن




.. كريم السبكى: اشتغلنا على فيلم شقو 3 سنوات