الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


منامان

خالد درويش

2007 / 10 / 1
الادب والفن



أثينا
لمدينة أثينا أسوار وبوّابات يغلقها الحرّاس في التاسعة مساء وركّاب الحافلة المتوجّهة الى عاصمة الإغريق يتذمّرون من بلادة السائق الذي يتوقّف بين الحين والآخر. يبول، يقرأ طالعه في صحيفة عتيقة يلتقطها عن الرصيف، ينشّط عضلات ذراعيه بتمارين سويديّة أو يدفن زجاجة نبيذ في التراب تحت حجر كبير مميّز ليستمتع بشربه في عيد ميلاده الخمسين. الركاب يستحثّون السائق قلقين، إذ ينبغي أن يكونوا هناك، عند مشارف أثينا قبل التاسعة كيّ لا يضطروا للمبيت في العراء خارج الأسوار.
تتوقّف الحافلة في المسلخ الذي حوّلته السلطات البلديّة الى مرآب واسع ومفتوح على بحيرة الرستن بين مدينتي حمص وحماة السوريّتين. يترجّل السائق، نتبعه، يتناول من جيب قميصه قطعة من الطين الطريّ، يشكّلها بأنامله على هيئة نارجيلة، ينفخ فيها بعزم فتكبر وتصبح جاهزة للتدخين. يأخذ منها أنفاسا عميقة، يرشف من النبيذ الذي عثقه قبل لحظات ويتأمل من كرسيّه الوثير مياه بحيرة الرستن الهادئة العميقة.
في اللحظة التي تنطلق فيها الحافلة جنوبا ألمح شارتي طريق متعاكستين: حلب شمالا ودمشق جنوبا. أولسنا ذاهبون الى أثينا!، أتساءل في سرّي، وفي سرّي أهتدي الى الجواب: "دمشق هو الإسم القديم لأثينا، دمشق هي أثينا وأثينا هي دمشق".
نصل مشارف أثينا عند الفجر. لا بوّابات للمدينة، لا حرّاس ولا أسوار.
تختفي الحافلة، يختفي السائق ويختفي الركاب. وأبقى وحيدا عند عتبات المدينة الغافية.
صديقي الأثينيّ "بانايوتيس" في إنتظاري. أين ينتظرني؟ فهو يعرف وقت وصولي ولكنّه لا يعرف المكان الذي سأصل المدينة عبره. لعلّه يتنقّل الآن بين الميناء والمطار ومحطّة القطارات بحثا عني فأتنقل بين الميناء والمطار ومحطّة القطارات بحثا عنه. لا جدوى، كأنّه يغادر المكان حالما أصل اليه!.
يستوقفني بناء حجر كبير وقديم تعلو بوّابته لوحة خشبية تحمل اسم عائلة صديقي: "ستاتيانوبولوس". أدفع الباب الحديد الأسود الثقيل وادخل ممرّا باردا تضيؤه مصابيح زيتية بنور خافت.
على جانبيّ الممر ثمّة نوافذ مغلقة بمستطيلات رخاميّة تحمل أسماء موتى العائلة. لم أعثر على صديقي هذا الصّباح ولكنّي أرى الآن أسمه محفورا على مستطيل رخاميّ أصفر وسط حشد القبور. أزيح رقعة الرخام فألقى حجرة فارغة إلا من قصاصة كتب عليها بخطّ أنيق، هو خطّ صديقي: " لا أمل لي، لا خوف بي، حرّ انا".
أتابع سيري في دهاليز المدفن الشاحب أتهجّى اسماء الموتى وأسماء من ينتظرون موتهم بقصاصات تحمل مواقف وأفكار شتّى عن الموت وعن الحياة/ صيغته المؤقّته.
رويدا رويدا تتحوّل النوافذ المرمريّة الى بوّابات وشبابيك تعلوها مشربيّات خشبية تفوح منها رائحة الحنّاء ويتحوّل الممرّ المقبريّ الى زقاق متعرّج طويل في حيّ هادئ.
أسمع وقع سنابك خيول حرّاس المدينة يعلو بالتدريج. انّهم يقتربون منّي. انّهم يبحثون عنّي!. يستبدّ بي الخوف فأحثّ الخطى، أركض.. اعثر في جيبي على مفتاح، أدسّه مرتبكا في أكرة أوّل باب يصادفني فيلفّ المفتاح على نفسه عدّة دورات بلا جدوى. تتّضح همهمات الحراس المريبة، يعلو وقع سنابك الخيل ويعلو لهاثي. أركض مذعورا عبر أزقّة ضيّقة لا أبواب ولا شبابيك في جدرانها العالية. يتفرّع الزقاق عند نهايته الى طريقين؛ يفضي أحدهما الى البحر والآخر الى حقل واسع حرث للتوّ. أمضي الى الحقل، أركض على التراب الطريّ، أتعثّر، أنهض. التراب الغضّ يملأ المكان، وثمّة فوقي، فوق رأسي تماما، تحت السماء الزرقاء الواسعة يحلّق طير هائل بأجنحة رماديّة مرقّطة ورأس بشريّ ضاحك.



N G O


لي موعد مع الزير سالم بعد صلاة العصر في مدرسة ذكور رام الله الأساسية، لا مساجد في الحيّ لأميّز العصر من الظهر ولكنّ أجراس الكنيسة على التله المقابلة لشرفتي تدندن عادة في أوقات صلوات المسلمين. ما الخطب، ماذا يريد سالم منّي؟ أتساءل وأنا أغذّ السير الى موعدي سالكا طريقا جانبيّا مهملا كيّ أتفادى حواجز ودوريّات الجيش الاسرائيلي على طول الشارع الرئيس.
أصل المدرسة فإذا ببوّابتها تحوّلت الى متراس منيع من أكياس الرمل والأسلاك الشائكة. أقف حائرا في شارع يخلو من المارّة، ولا يخدش سكونه سوى صدى إطلاق نار متقطّع من بنادق المتحاربين في الحيّ المجاور. ينتشلني رنين الهاتف النقال من مأزقي، يهاتفني الزير سالم بصوت هامس وواضح:
"أراك ولا تراني، أسلك طريق الناقة البيضاء!".
أعود أدراجي بمحاذاة سور المدرسة باحثاً عن "طريق الناقة البيضاء". يعلو صدى اطلاق النار ويزداد كثافة واقترابا، فيتفاقم قلقي وأشعر كأن للنوافذ والجدران عيوناً ترصدني. أخلع سيفي من غمده وألقي به في حاوية القمامة، فالمتحاربون لن يتعرّضوا لأعزل. يخطر لي أنّني لن أتمكّن من ملاقاة قائدي الزير بهذا الغمد الذاوي المتدلّي من حزامي مثل ذيل جانبي، فأتناول من الحاوية بقايا صحيفة مهملة، امزّقها وأحشو غمدي بقصاصاتها ليغدو منتصبا.
عند تقاطع طرق بدروب كثيرة أنتهج شارعاً تتوالى على أسفلته الأسود الجديد بقع رمل أبيض تهلهل من شاحنة مرّت للتوّ. كأنّه "طريق الناقة البيضاء". يوصلني الطريق الى ثغرة ضيّقة أسفل سور المدرسة. أندسّ عبرها بعناء الى ساحة واسعة يغطّيها التراب والشوك تعجّ بالخيول والمحاربين في صخب تشهده عادة الساعات التي تسسبق المنازلة.
أبحث عن الزير، أسأل أمرأة تحرك طعام عشاء الجنود في قدر كبير أسود على نار مستعرة، فتشير بيدها صامتة الى الطابق العلويّ من المبنى على طرف السّاحة.
أتوجّه الى مبنى المدرسة التي حوّلها الزير الى ثكنة عسكريّة، أهمّ بصعود الدرج الى الطابق العلويّ فتتحوّل الثكنة الى مستشفى والمحاربون الذين يروحون ويغدون في أرجائها الى أطبّاء ومرضى ومعايدين.
أمشي في الممرّ الطويل المضاء بأنوار بيضاء باهرة وأستعرض على جانبيه عيادات مختلفة باحثا عن عيادة الزير. يستوقفني باب كتب عليه: "Dr.Z.S "- للتمويه، تحت شعار الأمم المتحدة – للحصانة.
في حجرة ضيّقة بلا نوافذ، وراء طاولة من حديد، تحت ملصق كبير يحمل صورة كليب وعبارة "لا تصالح" يجلس الزير ضئيل البنية، حاسر الرأس يرتدي سترة طبيّة بيضاء.
يضع الزير نظارته الطبية عن عينيه جانبا ويبادرني مهموماً، مقلّبا صفحات ملفّ باللغة الانكليزيّة:
"سيوفنا صدئت وخيولنا هرمت. شكّلنا N.G.Oوكتبنا مشروعاً سنرسله الى الهولنديين نطلب منهم سيوفاً جديدة وخيولاً من نوع "بيكون". إنها خيول رائعة، سنهزم بها أعداءنا في ساعات".
أتناول الملفّ من يد الزير لأبدي ملاحظاتي على المشروع فإذا به مجرد صفحات بيض بإستثناء واحدة رسم عليها الزير علميّ فلسطين وهولندا بساريتين تشكّلان زاوية منفرجة. أعيد له الملفّ وهو يرمقني بنظرات بلهاء وابتسامة تنمّ عن رضاه الذاتي بمشروعه الجديد.
قبل أن أنطق برأيي في المشروع الجديد يباغتنا فرسان من الأعداء يستلّون خناجرهم وغضبهم وصراخهم يطلبون رأس الزير. ولكنّ الزير طبيب أعزل وسيفي من ورق. يختفي الزير في الحال، تتّسع غرفة العيادة وتتحول الى فناء يعيث الفرسان في أرجائه فساداً. يعربدون، يحطّمون أصص الصبّار في الزوايا، يمزّقون صور كليب عن الجدران، يدلقون زيت الخوابي على الأرض وينبشون الأثاث بحثاً عن ملفّات مشروع الزير ثمّ ينسحبون خائبين.
يبتعد الفرسان فيغدو الفناء معسكراً لرجال الزير. أجول بين الخيام والمهاجع، تستوقفني خيمة مميّزة بلافتة كبيرة كتب على بابها بجريد النخيل N.G.O. أرفع الستارة الجلدية التي تجلّل الباب، أستأذن الزير الجالس بلباسه الميداني بين مساعديه بالدخول فيضمّني الى جنوده المتحلّقين حول خريطة تفصيليّة لميدان المنازلة الوشيكة.
يهطل مطرغزير، تهزّ قرقعة الرعد جنبات الخيمة، تتقوّض أركانها على رؤوس المجتمعين فينتشرون مولولين كأنهم في رقصة هنديانية (رقصة الهنود الحمر)، ثم يلوذون بجلاميذ الصخرعلى سفح الوادي.
يشتدّ المطر، يتوالى الرعد وفي تواتر لمعان البرق تتقدّم الدبّابات والمصفّحات وتعجّ السماء بالمروحيات... قوّات من الجيش الاسرائيلي تجتاح المكان.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. روبي ونجوم الغناء يتألقون في حفل افتتاح Boom Room اول مركز ت


.. تفاصيل اللحظات الحرجة للحالة الصحية للفنان جلال الزكى.. وتصر




.. فاق من الغيبوية.. تطورات الحالة الصحية للفنان جلال الزكي


.. شاهد: دار شوبارد تنظم حفل عشاء لنجوم مهرجان كان السينمائي




.. ربنا سترها.. إصابة المخرج ماندو العدل بـ-جلطة فى القلب-