الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-تخطيط أوليّ- لفصلٍ مّا من المذكرات

كمال سبتي

2007 / 10 / 2
الادب والفن


كانت المدرسة المتوسطة مغلقةَ الباب الرئيسِ ومحروسةً برجال الإدارة : المعاون الذي يتجول في أروقتها والمدرسون والفراش الطيب الذي كان له كرسي قرب الباب ليجلس عليه عندما لا تكون هناك أوامر أخرى واجبة التنفيذ من الهيأة التدريسية..وللهرب من المدرسة أحدَثَ الطلابُ في جدار متصل بشباك كُوَّةً كافية للتسلل منها في فرصة بين درسين.
كان بعضهم يهرب من المدرسة من أجل الهرب نفسه وكنت أهرب منها من أجل الذهاب إلى المكتبة العامة التي لم تكن بعيدة عن مدرستنا..الاثنتان تقعان على كورنيش نهر الفرات.
كنت أهرب كلَّ يوم بعد ثلاثة دروس من الدوام اليوميّ.
وكان ذلك يعني مواظبة على المجيء صباحاً إلى المكتبة كل يوم ، مثلما كان مواظبة على الهرب من المدرسة كل يوم.
في المكتبة العامة كنت أقرأ كل شيء ، من الآداب الحديثة إلى التراث والعروض..علم ميزان الشعر.
في السادسة عشرة من عمري نظمتُ دورة لتعليم العروض لمن لا يعرفه من الشعراء في المدينة.
كان المشهد مثيراً لشيءٍ مّا : ابتسامة أو تحية إعجاب. كان المشهدُ : زملاءَ جلسوا كالتلاميذ وسبورةً وطباشيرَ وبحوراً وأمثلة شعرية من التراث وأستاذاً-هو أنا- لم تكن سنه الفعلية تؤهله لأن يكون طالبَ علمِ العروض حقاً لا مُدرِّسَّه.
انتشر الخبر في الناصرية بين شعراء المدينة وأدبائها وبين مدرسي اللغة العربية. وبدأت أمشي مزهواً بـ (علمي العروضيّ) في شوارع المدينة.
ولعل تلك الأيام تحتاج مني ذكرَ تفاصيل كثيرة ، أعد نفسي بإتمامها ذات يوم في كتابة تشبه المذكرات. فمازال جوّ المكتبة لا يفارق بالي ويحبب إليَّ الدخول في أية مكتبة عامة في أية مدينة ومازالت الكتبُ رواياتٍ ومسرحياتٍ ودواوينَ شعر وشروحَها وكتبَ نقد وفلسفة ودين..إلخ تطرق يإيقاعها الروحيّ باب ذاكرتي كل حين.
والجو حالة في معانيه ومحيط وبيئة.
ولعل أول درس في علم الاجتماع هو أن الإنسان ابن بيئته. وقد لا تكون بيئتي الفعلية اجتماعياً هي المكتبة العامة. لكنني دخلتها كما دخلت المدرسة وأنا غض غرير فهي بيئة اكتسبتها في مواجهة بيئتي الفعلية المناقضة لها والمضادة لها فاحتدم صراع فيَّ لم يهدأ حتى الان وأحسبه لن يهدأ حتى أموت.وقد يكون الانتباه لهذا الصراع في ذهن كائن مّا مدخلاً لفهم خطواته في الحياة والفن والفكر.
كان هذا الجو المواظب على القراءة في المكتبة والقانونيّ في العروض وتدريسه يُكسَرُ كلَّ ليلة بجلسة سكر في نادي الموظفين مع أصدقاء آخرين من بينهم الراحلون القاص عبد الجبار العبودي أو الشاعر كاظم الركابي أو الشاعر عقيل علي..إلخ ، أو بجلسة سكر على شاطىء الفرات إذ يأتي صديقي "القوي" سهيل -الذي "أخوِّفُ" به غيري عادةً والذي سيصبح شيوعياً في ما بعد - بكؤوس وبساط ومزات وثلج يعاونه صديقي الشيوعيّ غازي غالي الذي سيغني فيروز باكياً ، والحبيب الميت عبثاً أو المنتحر ، الشيوعي أولاً والوجوديّ تالياً: القاص جواد الأزرقي وأصدقاء آخرون..ثم بعد السكر و"سماع" فيروز..نرمي كؤوسنا وفضلات جلستنا كلها في الشاطىء.
كان أصدقائي شيوعيين كلهم أو في غالبهم الأعم ، ولم أكن شيوعياً..غير أنَّ السهام التي سأتلقاها طوال حياتي في ما بعد لن يكون غالبها إلاّ شيوعياً!
غادرت الناصرية في ما بعد إلى بغداد. وقدمت إلى معهد الفنون الجميلة للدراسة في قسم المسرح ، اختبرتني اللجنة فرحة بشخص عضوها الأستاذ الفنان قاسم محمد وهو يتعرف إليَّ أثناء الاختبار شاعراً -سبق أن قرأني- فخرج سعيداً يعلن نبأ قبولي على الناس لكن المفاجأة كانت رفْضَ قبولي من قِبلِ ممثل الاتحاد الوطني لأنه ظن بعد سماعه حواري مع الفنان قاسم محمد أثناء الاختبار أنني شيوعيّ !
وكان عليَّ لمدة شهرين أن أثبت بطلان شيوعيتي المزعومة. ولم أثبته حتى تدخَّلَ نصفُ سكنة بغداد!
في عام 1978 وكنت عائداً مع مجموعة "شيوعية أو ذات هوى شيوعيّ" من بار نؤاسيّ خللَ فرع شارع سينما سمير أميس في بغداد اصطادنا رجال الأمن أنا والصديق الشاعر البصريّ حيدر الكعبي
من كل مجموعتنا فأشبعوناضرباً وأدمونا أمام أنظار الناس حتى سقطنا أرضاً من شدة ضرباتهم..وحتى تركونا واستقلوا سيارتهم ، فحمل أحدنا الآخر- بكدماتنا المتورمة وبكسورنا وبنزيف دمنا وبثيابنا الممزقة- إلى قسمي الداخلي لمعهد الفنون الجميلة في منطقة الشورجة.
في تلك الأيام كتبت قصيدة بعنوان 1978 لم أنشرها في حينها بسبب العنوان المشير إلى سنة ضرب الحزب الشيوعيّ "وضرْبِنا في شارع السعدون" إلاّ في ديواني الثالث عام 1986. وفي تلك الأيام كان الأصدقاء الشيوعيون يبيتون عندي تباعاً في قسمي الداخلي هرباً من حملات "التوقيع"..
وبين عامي 1978 و1979 تركت الدراسة في المعهد متهيئاً للسفر التضامني مع الشيوعيين.
وذهبت إلى الناصرية لأودع أهلي وغادرتها مودَّعاً من قبل صديقي "القوي" سهيل عبد الله الذي أصبح اسمه أنكيدو باقتراح مني بعد أن كان جلجامش!
لكنني عدت إلى بغداد من باريس في ما بعد.
ويا لكبر لكنني هذه في تاريخي الشخصيّ.
هل أعدتُ كَرَّة الهرب ؟
بعد سنوات من تلك العودة- الانتحار أو ما يشبهه وصلتُ بيت الشاعر "الشيوعيّ" سعدي يوسف في بلغراد هارباً من العراق.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم شقو يضيف مليون جنيه لإيراداته ويصل 57 مليونًا


.. أدونيس: الابداع يوحد البشر والقدماء كانوا أكثر حداثة • فرانس




.. صباح العربية | بينها اللغة العربية.. رواتب خيالية لمتقني هذه


.. أغاني اليوم بموسيقى الزمن الجميل.. -صباح العربية- يلتقي فرقة




.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى